صفحات ثقافية

أدونيس والحضارة العربية

null
كامل عباس
أثارت زيارة الشاعر الكبير أدونيس لإقليم كردستان وتصريحاته الصحفية فيها أواخر نيسان المنصرم حفيظة كثير من المثقفين القوميين العرب  , فكتبوا ما كتبوا عنها بدون احترام أو تقدير لتاريخ هذا المثقف الكبير , مما دعاه للرد عليهم في مقال نشره في جريدة السفير تحت عنوان – توضيح حول زيارة كردستان –
يحمل المقال من العمق والقوة درجة أعلى من تفكير أدونيس  السابق , ربما جاء ذلك نتاج جرح عميق شعر به من جراء كتابة هؤلاء , ومما جاء فيه
((يمكن الشخص أن ينقد رأي شخص آخر يخالفه. أن يفككه ويحلله كما يشاء، مُظهِراً بطلانه. لكن أن يتّخذ من هذا الخلاف ذريعةً للتجريح والتشهير الشخصيين، فذلك استقالة من الفكر، ومن البعد الإنسانيّ، من حيث إنه امتهانٌ لكرامة الإنسان. ومن يصل إلى هذا الحدّ، في فكره وسلوكه، كيف يمكن أن يُسمّى مفكّراً، وكيف يُقنع الآخرين بأنه يحترم نفسَه وإنسانيته؟ ))
مشكلتنا مع المثقفين المتعصبين إياها في كل زمان ومكان  , بدلا من احترام مثقف بهذه القامة مثل ادونيس في أواخر عمره ’ مهما اختلفنا مع وجهة نظره  نكيل له الاتهامات وتغمز ونلمز من قناته كما نشاء لدرجة تجعله حزينا ومهموما كما بدا في المقال .
صبرا يا شاعرنا الكبير , هذه حال امتنا مع هؤلاء المثقفين القوميين في طول البلاد وعرضها ونحن هنا في بلدك الأصلي نعاني نفس المعاناة وربما أكثر من ذلك مع هذا الصنف الذي يحتكر الوطنية لنفسه في ما يدعوه لجان عمل وطنية ’ لاشك انك سمعت ما قالوه عن مناضل عانى أكثر منك لأنه قال مرة في مقابلة صحفية  – الاحتلال الأمريكي للعراق نقله من -1 الى الصفر – فاتهموه غير عابئين بكل تاريخه وسموه  صاحب نظرية جديدة تسمى نظرية الصفر الاستعماري . وعلى نفس القاعدة كتب احد منظريهم بنفس الطريقة الذي كتبوا فيها عنك قائلا (( ينبغي أن تبقى في إطار العقل حتى لا يتهمك من كان متطرفا يسارا وأصبح في الوقت الراهن شديد العقلانية لا لشيء سوى “لكبر عقله ورجاحته” وهما صفتان اكتشفهما مؤخرا وبعد معاناة طويلة تلك الرجاحة التي وجدت في قذف مواطن عراقي لبوش بحذائه ومحاولة الدفاع عن شعبها نوعا من الفروسية التي تحتكم الى العاطفة وليس الى العقل . لقد أصبح بعضنا – بالعقل طبعا يرى في غزو العراق وتدميره استجابة موضوعية للتاريخ ))
حتى نواسيك ياسيدنا الكريم ننقل لك بعض من معاناتنا مع العقل اياه الذي اخذ على عاتقه ملاحقة سرب الذباب اللبرالي الجديد , قبل ان يلوث طعامهم , والملاحقة بنفس الطريقة التي تمت فيها ملاحقتك واتهامك ’ في حين لم نسمع لهم صوتا ضد الزرقاوي وابو عمر البغدادي وأمثاله .
قاتلهم الله بدلا من أن يروا اللبرالية على حقيقتها كفكر أنساني ينبذ العنف ويمجد الانسان ,
–        يمكن ان يساعدهم من اجل نهضة عربية يعملون من أجلها كما يدعون – حددوا لأنفسهم مهمة نضالية تتجسد في التضييق على اللبراليين الجدد !!
بكل الأحوال نحمد الله تعالى أن محنتك مع القيمين على هذا الفكر لم تصل الى ما وصلت اليه محنة العلامة الفاضل حسين مروة والذي كان يعمل على مشروع فكري من اجل نهضة العرب وقد أنجز منه قسمان ولم يمهلوه حتى ينجز القسم الثالث ولم يحترموا شيخوخته , وأنت ياسيدي سبقته اليه في كتابك الشهير – الثابت والمتحول –
أنا شخصيا لا أفهم في الشعر, وفي مدارسه , ولم أتعرف عليك من هذا الباب , بل تعرفت عليلك من خلال كتابك الرائد المذكور سابقا , وكنت وما أزال أرى فيك مدماكا كبيرا من مداميك الثقافة العربية  ’ والتي تغتني بالرأي والرأي الآخر .
من هذه الزاوية أريد ان أقدم وجهة نظري المتواضعة التي تلقي ربما الضوء على بعض أسباب التوتر بينك وبينهم :
تقول في  مقالك :
((واضح لكل من يريد أن يرى حقّاً، أنني لا أقصد من «الانقراض» انقراض العرب بوصفهم أعداداً بشرية، بل بوصفهم طاقة خلاّقة تسير في موكب الإنسانية الخلاّقة، وبوصفهم نظاماً في بناء الإنسان، وفي إرساء قيم التقدم والانفتاح، والمشاركة في بناء العالم، وفي خلق حضارة إنسانية، أكثر غنىً وأكثر عدالةً وأكثر إيغالاً في السيطرة على الكون، وفي كشف أسراره.
أفلا يصحّ بهذه الدلالة التي لا يجوز أن تخفى على أي قارئ حقيقيّ أن نقول عن أنفسنا بأننا حضارة تنقرض؟
أستطرد قليلاً في هذا الصدد، وأتساءل: كيف لثقافة لم تنتج، بعد مرور ألفي سنة على نشوئها أية قراءة جديدة وخلاّقة لها، ألا تكون منقرضة؟ ))
ومع شديد احترامي لكل كلمة قلتها في المقال الا ان اللغط كان سببه ما تفترضه انقراضا للحضارة العربية , يا أستاذي الفاضل , الانقراض لغة تستعمل في العلوم الطبيعية , وحقيقة الأمر ان هناك أنواعا حية انقرضت في مسيرة التطور , لكن استعمال نفس اللغة في مسيرة التطور الاجتماعية سبب كل هذا اللغط , الثقافة لا تنقرض كما تنقرض الأنواع , الثقافة تبقى ملكا للحضارة وتغنيها من أي جهة جاء ت , والثقافة العربية جزء من ثقافة البشرية  وقد ساهمت في حضارة الجنس البشري بشكل لا بأس فيه حتى وصلنا الى الحضارة الحالية ,
بهذا المعنى يمكن ان تنبعث هذه الثقافة من جديد ولو بعد ألف سنة أخرى – وهي مدة ليست كبيرة جدا في عمر التاريخ – وتساهم من جديد في حضارة هذا الكوكب , وقد لا تنبعث ايضا كما تقول وهو احتمال وارد , لكن ان نحكم عليها بالانقراض ونجزم بأنها لن تنبعث ابدا كما جرى لبعض الأنواع الحيوانية , فهذا لايصح على ما اعتقد . ربما يكون ذلك الجزم مفيد لصدم العقلية العربية وحثها على تجاوز محنتها في مقابلة صحفية كما فعلت ,وهي طريقة مثمرة ومجدية وليست على طريقة الصدم التي استعملها العفيف الأخضر في بيروت أوائل السبعينات عندما حاول تأسيس مجلة سماها  –  سلطة المجالس –  وتصدرها بالمانشيت التالي-  ان عقليتنا العربية بحاجة الى الصدم حتى الخرى والبول عليها –  لكنهم أصغر من أن يفهموا ذلك على ما يبدو .

*اللاذقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى