صفحات ثقافية

عن عسكرة الثقافة…

null
رستم محمود
أثارت زيارة الشاعر السوري أدونيس إلى إقليم كردستان العراق (14 ـ 24 نيسان الماضي)، وما صدر عنه من تصريحات، الكثير من اللغط في المنابر الثقافية لبعض الصحف العربية. حيث قال أودنيس في أحد لقاءاته الثقافية في الإقليم الكردي: “إن الحضارة العربية تنقرض، بسبب فقدانها لآلية الإبداع”. وفيما بعد أتت على تصريحاته، الكثير من ردود الفعل الكتابية “الغاضبة” في الصحافة العربية، ثم قام هو بالرد عليها. ما سوف تتوقف عنده هذه المقالة، هو فهم ظاهرة خلق مثل هذه الأجواء “الثقافية\الحربية” التي تولّدها مثل هذه التصريحات والردود عليها.
في النموذج هذا، ثمة آلية ثلاثية الأبعاد، تخترع معركة من فراغ، تفعل ذلك حينما تقلب الطاولة الثقافية، التي من المفترض أن تكون مبعثا للعقل والتنوير والود، إلى ما يعاكسها بالتمام، أي ما يحولها ـ الطاولة الثقافية ـ إلى ميدان للتنافخ الجماعاتي والتراشق الأيدلوجي والكراهية المبطنة المغلفة بشعور المركزية الثقافية. وما سنسمي في النموذج الذي نحن بصدد تفكيكه، هو شاعر ورمز ثقافي، أدونيس، يطلق تعبيرات، تشبه البيانات العسكرية، من حيث حديتها واستقطابيتها وروحها الأيدلوجية. وعلى الطرف الآخر يرد مثقفون، يمزجون بين الموضوعي والذاتي، بين السياسي والثقافي، وبين دور المثقف ودور نافخ طبول الحرب. وبين الاثنين يقف مثقفون مستلبون إلى الرموز “الأيقونات” الثقافية للجماعات الأكثر حضورا منهم، وفي نموذجنا هم أكثر المثقفين الأكراد واستلابهم المطلق بشخص أدونيس. وما سنذهب أليه أخيرا، أن هذه الأدوار الثلاثة، والتي تبدو من حيث الظاهر، أدواراً متباينة ومتناقضة، تخدم بعضها البعض، من حيث أنها تجرف الآخرين للآخرين إلى المعارك المتوهمة التي يخلقونها، ويحولون ذواتهم إلى رموز لها.
بيان الشاعر
ما قاله أودنيس في كردستان، ومن ثم عاد وكرره في صحيفة الحياة، في مقالة بعنوان “الزيارة” 6\5\2009 من أن “أن الحضارة العربية تنقرض، بسبب فقدانها لآلية الإبداع”. ما قاله، ينم عن إطلاقية حكمية، لا تقبل تردد الباحث في العلوم الإنسانية، وشكه وحيرته، بل العكس، ثمة يقينية المؤمن وحزم العسكري. وهو إطلاق ويقين مفهومان في ظل اعتبار ما قاله الشاعر قولاً في الأيدلوجية والسياسية والأيمان، لا في المعرفة والثقافة. وحين يطالب الشاعر منتقديه بأن يقدموا عكس ما ذهب أليه من انقراض مفترض للحضارة العربية، لا أن ينتقدوا مجرد تصريحه، ومكان تصريحه، فهو بذلك يعزل نفسه عن دور المثقف في التحليل والتفكيك والفهم، ويحيله فقط إلى دور الإطلاق والنعت والتبني. فمثلا ماذا لو قارن هو نفسه بين باحث ومفكر، حصر كل فكره وعلمه، في أثبات عدم صحة حادثة شق النبي موسى للبحر، ليثبت وهمية وغيبية الأيمان الديني ولا معرفية المعتقد الإيماني؛ وبين باحث ومفكر آخر، عمل على تفكيك بنية الوعي الإنسانية وطريقة استلابها للوعي الغيبي والميتافيزيقي، ومدى ضرورة ذلك الوعي وطبيعته وخصائصه. ثم يأتي الأول ليقول: لكن ليثبت الأول صحة شق النبي موسى للبحر!؟
فأيهما برأي الشاعر يحقق مرامي البحث ويحقق أهداف المثقف: ذاك الذي ينعت ويصنّف بالعبارات الكلية والحازمة والجازمة، أم الذي يبحث ويمحص ويفكك ويبني على كشف. فأيهما أصعب وأجدر بالطرح وألح حضورا في ذات المثقف العربي: قول المثقف، إن العرب يفتقدون المؤسسات الديمقراطية والمجتمع المدني والتعليم الجيد، وهو قول لا يحتاج إلى حذاقة تفكير وقوة منطق، أم التساؤل عن الأسباب التاريخية والمعاصرة لهذه الحالة والوقوف في وجهها بكل أدواته المعرفية.
المثلب الذي كان الشاعر أوقع نفسه فيه بمقالته التي كتبها فيما بعد، حينما توقع أن يطالبه منتقده بقول ما قاله مارون النقاش منذ قرن ونصف القرن “نحن الأصول، وأولئك الفروع، وهم السواقي ونحن الينبوع” وهو قول من لاوعي الشاعر يوشي بعمق فهم الشاعر لدور المثقف، فهو يراه معلقاً بين مكانتي الرجم والمدح، ليس إلا. وهو بالجملة اعتداء معنوي على “مثقف كانط” الواعي، والذي قال عنه بأنه الذي يولّد من دماغه المفاهيم والمصطلحات والأفكار والمعايير… الخ فقط ليفهم غموض العالم، فقط ليفهم، لا أن يرجم ولا أن يمدح. وخصوصا بحق الجماعات ـ العرب في نموذجنا ـ التي تحتاج إلى عمق معرفي كبير جدا لفهم حالتها الثقافية والسياسية والاقتصادية ـ الحضارة على حد تعبير أدونيس ـ المعاصرة والمتباينة جدا، و على كل الصعد، وهو الدور الأبرز المأمول من كل النخب العربية، وهو الغائب إلى الراهن، وهو المبعث الأكبر، إن لم نقل الوحيد، للمشكلة الثقافية العربية، أي لا أحد جاهزاً ليفهم العرب، والكل جاهز لنعتهم، مدحا أو رجما، سيان لا فرق.
بهذا لا يبقى من قول الشاعر غير الرغبة في أثارة الغبار، طمعا في مركزية ثقافية، وتميّزا أيا كان شكله، وخلقا لتباين متوهم مع المعاش، والذي يخفي بالعموم اصطيادا للسلطة والثروة المعنوية بالتحول إلى قطب في أي صراع، وإن كان ذلك على حساب ود المثقف لمجتمعه، أو عضويته الممدوحة، حسب مقياس كان مرغوبا أيام غرامشي. لكن الظاهر أن لكل زمان مقاييسه الخاصة، وطبيعة مثقفيه ؟! فكيف به في زمن النزعات الثقافية اليمينية هذا.
الردود البائسة
لا يعرف إن كان الشاعر السوري حازم العظمة، والذي كتب مقالة في صحيفة الأخبار بعنوان “ما قاله حفيد المتنبّي في محميّة أربيل الأميركية” بتاريخ 30\4\2009. لا يعرف ما إذا كان سيرد على أودنيس، لو كانت المحاضرة في الدوحة مثلا، أو كاراكاس، فهاتان العاصمتان ليستا محميتين أميركيتين، وهل كلام أدونيس فيهما سيكون بمثابة كلام العائلة الواحدة، يعني “منا وفينا”، وبذلك لن تنقرض الحضارة العربية ؟!. يقال هذا لأن ما سبّب حنق الشاعر هو عاصمة الإقليم الكردي وليس كلام الشاعر وما فيه. وهو رد غارق في سياسويته وتنافخيته القوموية، ومقبور بروح الأيمان بفكرة المؤامرة. ففي مقالته يذهب إلى أن المثقفين الأكراد لم يدعوا أدونيس إلى الإقليم، الا ليسقطوا منه التصريح ذاك. وكأن لا هم للأكراد ولإقليمتهم سوى نعت الحضارة العربية بالمنقرضة، وهم الأكراد الذين كانوا أكثر من عانوا، من الذين عبروا بهمجية عن الحضارة العربية، عبر الأنفالات والأسلحة الكيماوية وتعريب القصبات والقرى.
طبعا هذا كله لن يجرنا، ولا يجب أن يجرنا، إلى قوموية كردية معاكسة، وهي مرفوضة، ولو كانت مفهومة، لأن مثل كتابات الشاعر العظمة ترمي وتتوقع حدوث\تحقيق ذلك على الجانب الكردي. لكن أكثر ما يثير الابتسام البائس هو ما كتبه الصديق بيار أبي صعب في جريدة الأخبار بعنوان “أدونيس” بتاريخ 8\5\2009 حيث قال: “أربيل ليست أرضاً محايدة، في ظلّ مشروع تقسيم العراق”. ـ ما شاء الله هل أصبح للثقافة أرض حيادية، وأرض غير حيادية، وأي تعبير على حدة التفكير الثقافي واستقطابيته أكثر من ذلك، وهل أصبحت كردستان أرض معادية، وهل باتت هذه فلسفة ودعوة جريدة الأخبار، التي دعتنا يوما، مشكورة، إلى الكتابة فيها. وهل نذهب إلى طهران، لو فكرنا في انتقاد الظواهر الثقافية العربية المختلة، باعتبارها أرضاً موالية، والنقد فيها ومنها، لا يجرح ولا يتآمر. لكن ماذا بالنسبة لمن لن يسمحوا لنا باصطحاب زوجاتنا معنا، إلى ملعب لمشاهدة مباراة كرة قدم، يا لها من أرض موالية لثقافة عربية تنويرية مأمولة ؟!. ويا لها من عسكرة للثقافة العربية، ويا له من رد يدفع للطمع في الكلام المردود عليه، الطمع فيه أيا كان شكله.
بؤس المثقفين الأكراد
على الطرف الأخير، ثمة بؤس خفي يمارسه بعض المثقفين الأكراد بحق ظواهر من مثل تلك، فمن جهة ثمة استلاب صارخ تجاه المثقفين المكرسين في الثقافات الأخرى، وهو منبعث من عقدة نقص غير مفهومة وغير جديرة بثقافة تواقة للنهوض كالثقافة الكردية. فما كتبه مثلا الشاعر الكردي فتح الله حسيني في موقع الأعلام المركزي للإتحاد الوطني الكردستاني، من مديح وتطبيل لاسم أودنيس، والذي حوله إلى أيقونة لا يمكن نقدها أو مغايرتها والاختلاف معها، مبعث لدلالات لابد من التوقف عندها، للنهوض بوعي نقدي ثقافي كردي متسق.
فمثلا ماذا لو قلبنا الآية، يعني ماذا مثلا لو قال الروائي الكردي المشهور سليم بركات في القاهرة: “إن الثقافة الكردية تنقرض وإن الكرد قوم يفتقدون فعل الإبداع”. ألم يكن سيعتبر فعلا انحيازيا للأطراف القوية، وأن بركات يكاره قومه طمعا في مائدة معاوية. وأن المثقفين العرب الحاضرين والذين لم يردوا على سليم بركات، هم مثقفون قوميون، كلام بركات يخاطب غرائزهم القومية المخفية والمخيفة. ومن ثم وقبل كل شيء، ألم تكن كل السياسيات الشوفينية التي مورست بحق الأكراد في العراق، كانت تسبقها سياسات ثقافية من مثل ما صرح به الشاعر أودنيس بحق العرب، ألم يقل الكثير من المثقفين الصداميين ان الأكراد عشائر لم يعرفوا حالة قومية في تاريخهم؟ الم يقولوا إن الأكراد قوم سلب ونهب وينقل البارودة من كتف لكتف، وبذا لا يمكن نعتهم بالأمة، وإن لغتهم تابعة وأدبهم هجين، وهو القمع الثقافي الذي مهد لأريحية في القمع السياسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى