نقل العاصمة السورية لإنقاذ مدينة دمشق
وضاح صائب
“القنديل”(•) السورية “صحيفة اسبوعية اقتصادية ثقافية اجتماعية منوعة صدرت في دمشق بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 94/م. وتاريخ 21/10/2007″، وهي في سنتها الثانية وعددها “71”. ننقل عنها هذا المقال غير المألوف في النقاش حول المدن – العواصم العربية مع التذكير بأن ثمة من اقترح يوما نقل العاصمة المصرية من القاهرة. وكان ذلك اقتراح الراحل نجيب محفوظ.
تعاني دمشق من مجموعة أزمات خانقة عصيّة على الحل، وهي أزمات ثبت أنّ الحلول الترقيعيّة لا تجدي لمعالجتها في وضعها الراهن، ناهيك عن تفاقمها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، بما يجعل من أيّة حلول راهنة نفخاً في الهواء.
وتتعدّد هذه الأزمات الخانقة لتطال سائر مناحي الحياة والحركة، بدءاً من أزمة السكن وارتفاع الأسعار غير المبرّر، وغير المنطقي، ممّا يستحيل مواجهته من قبل أجيال الشباب الذاهبين نحو الزواج وتأسيس أسر وعائلات، مروراً بأزمات مياه الشرب المتكرّرة، وازدحام المدارس ورداءتها، وارتفاع رسوم الخاصّة منها، المفصلّة على مقاس (المبشّرين بالجنة) من كبار ظاهرة الإثراء المشروع وغير المشروع، وعدم كفاية المستشفيات وكفاءتها وقدرتها على تلبية الحاجات غير القابلة للتسويف والتأجيل، وارتفاع أسعار المواد الغذائية أضعافاً عن مثيلاتها في المحافظات والمدن الأخرى، والازدحام المروري المتفاقم وغير القابل للحل أو التجاوب مع الحلول المجتزأة والقاصرة، والضجيج والتلوّث وتناقص المساحات الخضراء، واستشراء طرق النصب والتحايل والتلاعب والغش لمواجهة متطلبات تبرّر لدى البعض هذه السلوكيات، وتعميم الفساد والرشوة كسبيل لا بدّ منه للصمود و… و… و.
زئبقية أزمة
هل من سبيل للحل في ظل الواقع الراهن؟
بالقطع لا، لأنّ حل جانب ما من هذه الأزمات سينعكس تفاقماً للأزمات الأخرى، وبالتالي لا مهرب من الدوران في حلقة مفرغة وكارثيّة…
فالترخيص للكثير من الجمعيات السكنية على أطراف المدينة، بحجّة العمل على حل المشكلة الإسكانية، سيفاقم كل الأزمات الأخرى، من زيادة عدد السكان وبالتالي زيادة الطلب على الماء وشبكات الخدمة، وعلى المدارس والمستشفيات، والازدحام المروري، وتلوّث البيئة، وغير ذلك كثير، ومثل ذلك للحلول القاصرة لباقي الأزمات….
أين سنكون بعد عشر سنوات، فيما لو اعتبرنا النسبة الطبيعيّة للتزايد، سواء في عدد سكان العاصمة، أو في احتياجاتهم ومتطلباتهم؟…
لا أحد يعرف، لا الحكومة ولا غيرها، ويخطئ مَن يقول غير ذلك، فحتّى الجاهل يدرك الأمر، ولم تعد الوعود والشعارات وابتكار المفاهيم الغريبة الفريدة من نوعها كافية لإيجاد الحلول، وقد سمعنا الكثير ورأينا القليل، ورحم الله امرأً عرف حدّه فوقف عنده.
حين تستشري الآفات في جسد المريض، ويعجز الطب عن معالجتها، فلا مفرّ من الموت…. وهذا ليس قدراً لا رادّ له، بقدر ما هو نتيجة طبيعيّة لسلوك سلبي قاصر، لم يشخّص الآفات قبل فوات الأوان، ولم يستدرك ما كان يمكن استدراكه قبل الوصول إلى حافـّة الموت…
فأين تكمن مشكلة مدينة دمشق؟ ومن أين تشكّلت؟..
إن انتحار المدينة له سببان، لا ثالث لهما: الإنماء غير المتوازن لباقي المدن والمحافظات التي تفتقد فعليّاً معظم الخدمات الأساسيّة، وكون دمشـــق هي العاصــــمة التي تتركز فيها كل الفاعليات الحكوميّة، وتستـجر عشــــرات الآلاف يوميّاً من المحافظات الأخرى لمتابعة معاملاتهم واستشفائهم ودراســـة أبنائهم وغير ذلك، ناهيك عن توطين الكثير منهم بحكم عملهم في الوزارات والمؤسســات المتركزة في المدينة دون غيرها. وقد أثبتت الأيام أنّ مَن يأتي إلى دمشق للعمل في إحدى وزاراتها أو مؤسساتها، لا يبارحها طيلة عمره، بقدر ما يخلّف أجيالاً تنشأ وتستقر فيها، في سلسلة لا نهاية لها..
خيار في اتجاه واحد
وإلى أن تخطط الحكومة وتنفـّــذ الإنماء المتوازن، ليطال باقي المـــدن والمحافظات، بما يجعلها عامل استقرار لأبنائها، وعامل جذب لمَن هجرها منهم، وهذا ما لا نراه متاحاً في الأفق، فإنّ أمام دمشق حلاً وحيداً، لا مفرّ منه: إنشاء عاصمة إداريّـــة جــديدة متكاملة، تنتقل إليها سائر وزارات الدولـــــة ومؤسساتها، مع بقاء دمشق عاصمة سياسيّة تضمّ الرئاسة ووزارة الخارجيّة فقط.
وليس هذا ابتكاراً جـديــداً، فقد سـبقتنا إليـــه العديد من الدول كالبرازيل والمكسيك والأرجنتين وتركيـّا، وغيرها من دول أخرى.
من حيث الموقع، فالنقطة الأهم أن لا تُنشأ هذه العاصــمة قريبة من دمشـــــق، لأنّ ذلك سيبقي مئات الآلاف من الموظفين قاطنين فيها مع أسرهم، وسيزيد من إرباك حركــة النقــــل والانتقال، دون أن يخلّص دمشق منهم.
وتبدو منطقة السهول بين القلمون وحمص/ ما بعد قارة وقبل حسياء، موقعاً ممتازاً لإنشــاء مدينة متكاملة نموذجيـّة، بحيث يمكن تكليف إحدى الشركات الهندســـيّة الاســتشاريّة الكبرى، غيــــــر المحليّة، بتخطيطها وتنظيمها كمدينة حديثة تشتمل على مباني الوزارات والمؤسسات وإدارات الشـــركات العامّة، والمباني الخـدميـّة، والمدارس والمشـــــافي والجامعــات، والفنــــادق وصالات الترفيــه، والمباني الســـكنيـّة، والطرق والجســـور، والمساحات الخضراء، وشبكات الخدمات، وغيرها من المستلزمات.
تجربة تشجع
ثمّـة تجربة رائدة، قامت بها شركة خاصـّة سوريـّة، بإنشاء بيت متكامل العناصر، صديق للبيئة، موفـّر لاستهلاك المياه، ومنتج للطاقة ولبعض الاحتياجات الغذائيـّة، ومنخفض التكلفة نسبيّاً، وذلك على قطعة صـغيرة من الأرض، تكرّم الســــيّد الرئيــس بوضعها تحت تصـرّف هذه الشـــــركة، وهي تجربة يمكن الاستفادة منها وتصميم المدينة الجديدة على ضوئها، ســواء ما يتعلّق بالمباني السكنيّة أو بمباني الوزارات والمؤسسات.
ثمّ تكلّف شركات إنشــــاءات عالميّة كــبرى بالتنفيـذ خلال ثلاث أو أربع سنوات، بحيث تكون جاهزة بحدود عامي 2013-2014. ثم يجري ربط هذه المديــنة بشـــبكة الطرق العامّـــة القريبة منها، محــور دمشـق – حمص، وبشبكة القطارات المـارّة في الجوار، والتي باتت تمـتـد إلى سائـر المحافظات والمدن الأخرى، وإنشـــاء مطار بسعة مطار اللاذقية أو دير الزور.
أمّا تغذية المدينة بمياه الشرب، فيجري لحظها في إطار مشاريع نقل المياه من الأنهار والســـدود إلى المدن، والتي باشرتها الحكومة في أكثر من موقع، في حين يجري الربط على الشـبكة العامّـة للكهرباء دون أيّـة أحمال إضافيّة على اعتبار أنّ العملية هي انتقال لكتلة بشــريّة من موقع لآخر، مع أنماط استهلاك أكثر جدوى وفاعليّة، خاصّة إذا تم اعتماد نموذج البيت متكامل العناصر الذي أشرنا إليه.
تمويل
يبقى أمر التمويل، وهذا له سبيلان: الأول من إيرادات بيع مباني الوزارات والمؤســـسات، التي تعد بالمئات، منتشــرة في سائر أنحاء مدينة دمشـــق، وهذه الإيرادات ســـتكون بالضرورة كافية لإنشاء أكثر من مدينة، والثاني بطرح الوحدات السكنية للبـيع بالأقســـاط لموظفي هذه الـوزارات والمؤسسات الذين سيتوجب عليهم الانتقال إلى موقع عملهم الجديد، ســـيّما إذا أخـــــذنا في الاعتبار الكلفة المعقولة للتجربـة المشـــار إليها، أمّا مباني الخدمات العامّة فيمكن طرحها للاســـتثمار من قبل القطاع الخاص.
بذلك، سنحصل على مدينة جديدة، نموذجيـّة، قابلة للتوسـّع المخطط والمدروس، تكفي لملـــيوني ساكن، من الموظفين وأسرهم، ومستثمري ومشـــغلّي الخدمات العامّة لهؤلاء، ومهيأة لاســـتقبال عشرات الآلاف يوميـّاً من المراجعين من المحافظات الأخرى.
حين ذاك، وقد تخلّصت دمشق من أكثر من ثلث ســاكنيها، وربّما نصـفهم، يمكن الالتـفـــات إلى تخطيط مستقبلها، واستعادة مدينة الياسمين التي عرفناها.
(صحيفة “القنديل” السورية)
(مهندس سوري )