إسرائيل والغرب… الاستيطان وفضيحة التواطؤ!
د. برهان غليون
لا يكاد يمر أسبوع في الشهرين الأخيرين دون أن نشاهد على شاشات التلفزيون صور مواطنين فلسطينيين يطردون من أراضيهم المصادرة، وليس لديهم أي ملجأ يأوون إليه. والحال أن أعمال المصادرة لم تتوقف خلال عقود الاحتلال، فهي تسير في موازاته وتشكل جزءاً لا يتجزأ من مشروعه. ولا يخفى هذا على الدول الكبرى ولا على الرأي العام العالمي. فقد أشارت تقارير دولية عديدة، أكثر من مرة، إلى عمليات المصادرة غير القانونية في فلسطين، ولم تخف استياءها من تلك الممارسة الاحتلالية. ففي الشهر الماضي أصدر البنك الدولي تقريراً بيّن أن إسرائيل ضاعفت في العام الفائت ثماني مرات عدد عروض البناء في المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، وأقامت 1518 بناءً جديداً في المستوطنات المنتشرة فيها، مقارنة مع 860 بناءً في عام 2007. وفي شهر فبراير أصدرت الحكومة الاسرائيلية قراراً بإقامة 1400 وحدة سكنية جديدة في إحدى المستوطنات، وتطوير 130 هكتاراً من الأراضي في مستوطنة أخرى. وقد بين البنك الدولي في تقريره أن نحو 40 في المئة من الأبنية الجديدة أُقيمت في مستوطنات تقع شرق الجدار. أي أن الجدار لم يكن خطاً نهائياً للحدود كما تصور البعض وإنما خطاً “دفاعياً” استراتيجياً هدفه إحباط عمليات المقاومة، وليس له علاقة حتى بمشاريع تقسيم مجحف للأرض بحق الفلسطينيين. وهذا يؤكد، كما يذكر التقرير، أن إسرائيل تواصل استيطانها في الضفة بأكملها.
وكانت حركة “السلام الآن” الإسرائيلية المناهضة للاستيطان، قد أشارت إلى تقرير حكومي إسرائيلي أعد عام 2006، تحدث عن حركة بناء واسعة في المستوطنات الإسرائيلية المقامة في الضفة الغربية. ولم تنف وزارة الدفاع وجود مثل هذا التقرير الذي أعده مستشارها حينئذ “باروخ شبيجل”. لكنها ردت على حركة “السلام الآن” التي تقدمت بالتماس إلى المحكمة الإدارية في مدينة تل آبيب لنشره، بأن نشره يلحق الضرر بأمن إسرائيل وعلاقاتها الخارجية.
ولم تلبث الصحافة الإسرائيلية أن نشرت مضمونه الذي يشكل بالفعل إحراجاً لإسرائيل. فقد اعتُبِر التقرير أكبر مرجع حول النشاط الاستيطاني خارج الخط الأخضر الذي يُعتبر حدود دولة إسرائيل قبل احتلالها الأراضي العربية خلال عدوان عام 1967، كما يشكل إدانة واضحة وخطيرة لتل آبيب. فهو لا يتحدث عن دعم الحكومة الإسرائيلية لحركة الاستيطان الواسعة التي تسميها “الاستيطان القانوني” المرتبط بقضية “الأمن”، وإنما أيضاً يتناول حركة “الاستيطان غير القانوني”، أو الوحشي الذي يقوم به شكلياً متطرفون يهود تدعي الحكومة عادة أن ليس لها علاقة بهم!
وكانت الدبلوماسية الأوروبية قد أعدت هي الأخرى تقريراً عن وضع القدس الشرقية يعتبر محرجاً جداً لإسرائيل، لكنه بقي كغيره محظوراً على النشر والتداول، إلا ما سربته بعض الصحافة الأوروبية. ويظهر التقرير الأوروبي الذي حرر في 15 ديسمبر 2008، أي قبل الهجوم على غزة بعدة أيام، كيف سرعت حكومة إسرائيل من تطبيق خططها الاستيطانية في القدس المحتلة. وقد جاء في التقرير بالحرف “أن عمل إسرائيل في القدس وحولها، يشكل أحد التحديات الأخطر لعملية السلام”. ومع تأكيد التقرير المستمر على “مشروعية” ادعاءات إسرائيل الأمنية، فهو لا يتردد في الحديث عن أن “كثيراً من نشاطات إسرائيل غير الشرعية التي تجري داخل مدينة القدس وحولها، ليس له مبرر أمني”. كما أن التقرير لا يتردد في الحديث عن لا شرعية عمليات الهدم، وينفي أن يكون لها أي مبرر أمني واضح، مع ما يرتبط بها من عواقب لا إنسانية على السكان الفلسطينيين. ولا يخفي التقرير الأوروبي أن هدف إسرائيل من توسيع الاستيطان في القدس هو تقليل عدد الفلسطينيين لقطع الطريق على أي مطالبة عربية بجعل القدس عاصمة للدولة الفلسطينية. فرغم أن نسبة السكان الفلسطينيين في القدس 34 في المئة من المجموع -وهي نسبة تظهر مدى اتساع عمليات الاستيطان- لا يحصل الفلسطينيون إلا على نحو 7 في المئة فقط من ميزانية خدمات بلدية القدس. والهدف، كما يقول التقرير، هو “الاستمرار النشط في سياسة الإلحاق غير القانوني” للمدينة.
أمام مثل هذه التقارير التي تصدر عن منظمة دولية مثل البنك الدولي، أو عن تكتل إقليمي عملاق مثل الاتحاد الأوروبي، يطرح السؤال: ما الذي يفسر هذا الخوف الدائم من إدانة إسرائيل علناً على سياسات استيطانية يعتبرها الجميع، بما في ذلك قطاع من الرأي العام الإسرائيلي نفسه، سياسات لا إنسانية، مدمرة لحياة الفلسطينيين، وتشكل في نظر الغربيين والرأي العام العالمي عقبة لا يمكن تجاوزها في طريق أي تسوية سياسية؟ هل يرجع هذا العمل الذي يشكل بكل المعاني الأخلاقية والقانونية، تواطؤاً مع جريمة سياسية، تتجاوز آثارها الأفراد كأفراد لتشمل جماعة كاملة، مثل حرب التطهير العرقية… إلى عقدة الذنب الغربية التي نشأت بعد المحرقة اليهودية وما سبقها من اضطهاد لليهود، كما ينزع إلى الاعتقاد كثير من الباحثين؟ أم هي الرغبة في عدم إغضاب إسرائيل، وبالتالي إضعاف فرص الوصول إلى تسوية سياسية في المنطقة، كما تدعي الدبلوماسية الغربية في أغلب الأحيان؟ أم هو الخوف من انتقام اللوبي الإسرائيلي الواقف بالمرصاد لكل من يسعى، بأي وسيلة وتحت أية حجة، قانونية أو أخلاقية، إلى انتقاد سياسة تل آبيب أو التشهير بها، بل مجرد إعلان الاعتراض عليها؟
الواقع أنه لا يمكن فصل أي سبب من تلك الأسباب عن بقيتها. إن تجنب إغضاب إسرائيل يتغذى في الوقت نفسه من الرغبة في عدم القطع مع حكومة تل آبيب التي تمثل أهم حليف للولايات المتحدة، والدولة الأقوى عسكرياً في الشرق الأوسط، والأقرب سياسياً للغرب، وللسياسات الأطلسية، والخوف من الابتزاز المحتمل من قبل أنصار إسرائيل والمدافعين عنها في كل مكان. ولا يمكن فهم سلوك الاتحاد الأوروبي وتبريره للسياسات الاستيطانية الإسرائيلية والسكوت عليها، وهو الذي أصدر العديد من البيانات الرافضة لسياسة الضم والاستيطان، بما في ذلك ضم القدس وتهوديها… لو لم يكن للدولة الفاعلة تاريخ في المحرقة اليهودية، مهما كانت علاقتها الاستراتيجية قوية بالغرب.
لكن، بالمثل، ما كانت الدول الغربية لتقبل بمالأة إسرائيل أو التغاضي عن سياساتها اللاإنسانية واللاقانونية، لو كانت إسرائيل دولة ضعيفة، مثلها مثل الدول العربية. إن ما يفسر السكوت المشين للدول الكبرى على فضيحة عصرنا الحقيقية، أعني تنفيذ أبشع مشروع استعماري استيطاني على مرأى ومسمع من العالم أجمع، بل على شاشات التلفزيون، في القرن الواحد والعشرين، من دون أن يجرؤ أحد حتى على إدانة الجريمة صراحة، فما بالك بالعمل على وقفها، أو معاقبة فاعلها… هو عقدة الذنب الغربية من طرف، لكن من الطرف الثاني ضآلة القوة العربية إن لم نقل انعدامها. ولا نعني فقط القوة المادية والعسكرية، وإنما الأخلاقية والسياسية أيضاً، والمتجسدة في الصمت والإهمال والقبول بالعجز وعدم الاكتراث.
الاتحاد