أحوال الأحمر
في كتاب فرنسي عن “الأحمر البديع”، ينقل أحد البحاثة رسالة تعود إلى القرن الحادي عشر موجَّهة من تاجر إلى صبّاغ من مصر القديمة، فيها يقول الأول: “أرجوك يا سيدي، ليكن الأحمر أكثر احمرارا بقدر الإمكان”. من هذه الرسالة، استُعيرت عبارة “أحمر بقدر الإمكان” لتكون عنوانا لمعرض خاص بهذا اللون يُقام في “متحف الفنون التزيينية” الباريسي، ويستمر حتى الأول من شهر تشرين الثاني. يضم هذا المعرض أربعمئة قطعة تشهد لدلالات هذا اللون المختلفة على مر التاريخ في الحياة العامة كما في السياسة والفن والأدب. من التماثيل واللوحات القديمة، وصولا إلى الملصقات التجارية الحديثة، مرورا بعالم الزينة والأزياء حتى لعب الأطفال، نتعرف الى دلالات الأحمر المختلفة حتى حدود التباين والتضارب على مر العصور.
يلقي المعرض الضوء على رمزية الأحمر في وجوهها المتعددة في الغرب، من الحقبة الرومانية إلى الزمن الحاضر، غير أن هذا العرض لا يتبع التسلسل الزمني بل المعاني الثابتة في التاريخ. خرجت من اللون الأحمر ألوان متدرجة عُرف كلٌّ منها باسم، وبقيت هذه الأسماء مرتبطة بالإسم الأم، وكأن كلاًّ منها صفة من صفاته. وتعددت وجوه كل صفة من هذه الصفات، فباتت معانيها مختلفة تشمل الشيء ونقيضه. يرمز الأحمر الى البأس والشدة والسلطة، وهو من جهة أخرى نذير الخطر والدمار والهلاك. هو لون النار والجحيم واللذة، وهو الدم الذي بات مرادفا للحياة في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. في قراءة أولية لا تخلو من التبسيط، يمكن القول بأن هذه المعاني ترتبط بعنصرين أساسيين يجمع بينهما اللون الواحد، وهذان العنصران هما النار والدم. يستكشف المعرض هذه الدلالات عبر القطع الموزعة على اثنتي عشرة صالة وفقا لترتيب لا يتبع القيمة الفنية المجردة بل الرموز والتعابير الجامعة.
البرفير والأرجوان
يبرز الأحمر أولاً كلون للسلطة بوجهيها المدني والديني. يلبس الأمبراطور هادريان البرفير البنفسجي في تمثال يتبع الأسلوب الروماني في النحت، وعلى مقربة من هذا التمثال، تحضر زيتية من توقيع شارل فان لو تمثل قاضيا من القرن الثامن عشر يرتدي ثوبا أسود يعلوه معطف أحمر أرجواني. اختار ستاندال “الأحمر والأسود” عنوانا لروايته الشهيرة، وهما لونا سلطتي الدين والدنيا. يظهر البابا بيوس الخامس في ثوب أحمر، وهو أسقف روما في النصف الثاني من القرن السادس عشر. ويحضر باللون نفسه كاردينال من القرن الثامن عشر لم ينجح المختصون في تحديد هويته. كان البرفير رمز السلطة الإمبراطورية الرومانية، وهو في العهد القديم لباس الكهنة اليهود. نقرأ في سفر التكوين: “ومن البرفير البنفسجي والأرجوان والقماش القرمزي صنعوا ثياب الخدمة، للخدمة في القدس، وصنعوا الثياب المقدسة التي لهارون، كما أمر الرب موسى” (39، 1). “نفس الجسد هي في الدم”، عبارة تتكرر في العهدين القديم والجديد. والدم مرادف للحياة، وهو أحمر بامتياز. عُرّي المسيح وأُلبس “رداءً قرمزياً” (متّى 28:27). لأنّه واهب الحياة، يلبس المسيح ثوباً داخلياً أحمر، وهو في لباسه هذا “ملك الملوك”. على مثاله، يلبس كبار الكهنة الأحمر، وهذا اللون رمز سلطتهم الدينية.
في القرون الوسطى، لبس الأباطرة اللون الأحمر عملا بتقليد قديم. وفي فرنسا الملكية، كان ارتداء الأحمر وقفاً على الطبقة الأريستوقراطية، وحرّم على عامة الشعب بموجب القانون. يتجلّى هذا “الاحتكار” في مجموعة من القطع تعود إلى الحقبة التي سبقت الثورة الفرنسية، يبرز فيها الأحمر كلون الإمارة والثراء، يلبسه عليّة القوم في أفراحهم، وبه يزيّنون قاعات ديارهم. تبدلت الأحوال في القرن التاسع عشر، وصار الأحمر لونا للثورة الفرنسية الثانية التي اندلعت في شباط 1848، وفي عام 1871، رفع ثوّار “كومونة باريس” العلم الأحمر، وصار هذا العلم رمزا للنظام الجماعي المساواتي الذي نادوا به. يعرض المتحف عشرين ملصقا يبدو فيها الأحمر علما لثورات متعددة شهدها العالم من المرحلة الممتدة من زمن الكومونة إلى زمن الاشتراكية والشيوعية. هو وردة الاشتراكيين، وهو راية لينين، وهو كتاب ماو تسي تونغ، وهو اللون الذي جمع هذه الثورات التي اختلفت في المبادئ والتوجهات حتى يومنا هذا.
الوحش القرمزي
من عالم السلطة والثورة، ننتقل إلى عالم أحمر من نوع مغاير تماما، وهو عالم الشهوة واللذات المحرمة. تلبس المرأة اليوم ثيابا داخلية حمراء، ويبدو هذا الأمر “طبيعيا”، لكنه في الأصل الثوب الخاص بالمومسات. تختزل الشفاه الأنثوية الحمراء عالم الرغبة، ومن أشهر صورها شفتا الممثلة الذائعة الصيت ماي وست اللتان صاغهما تشكيليا سلفادور دالي في زيتية من أشهر أعماله، وقد استعاد مصممو شركة “ستوديو 65” الإيطالية هذه الصورة وجعلوا منها موديلا لكنبة مثيرة تسوّق تجاريا في أنحاء أوروبا. تحلّ هذه الكنبة في المعرض، ومن فوقها على الحائط ملصقان تجاريان يبرز فيهما الأحمر الأنثوي، ولوحة على شكل سجادة كلاسيكية تمثل إحدى أشهر قصص العهد القديم “المثيرة”، وهي قصة لوط الذي سكر وارتكب تحت تأثير المسكر خطيئة الزنى مع من حرّم عليه الزواج منهن. تتعدد صور اللذة عبر مجموعة من القطع من الألبسة والأثاث واللوازم الشخصية الحميمة تعود إلى عالم “الليالي الحمراء”. من عالم الغواية ندخل إلى عالم الدينونة حيث “البغي القائمة على المياه الغزيرة” التي وصفها يوحنا في رؤياه (17، 2-5)، “بها زنى ملوك الأرض، وسكر أهل الأرض من خمرة بغائه”، وهي “امرأة راكبة على وحش قرمزي”، “لابسة أرجوانا وقرمزا، متحلية بالذهب والحجر الكريم واللؤلؤ”. يظهر الشيطان في هيئة مسخ أحمر في عدد من الصور، والجحيم حمراء قانية، فيها أتون “النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته” (متى 25، 41). “هناك يكون البكاء وصريف الأسنان” (متى 13، 42)”، “حيث دودهم لا يموت والنار لا تنطفئ” (مرقص 9، 46)، والسموات والأرض الكائنة الى الآن “محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفجّار” (2 بطرس 3، 7).
نخرج من عالم الخطيئة لنحلّ في عالم الطفولة واللعب الحمراء، وأشهرها “ذات الرداء الأحمر” التي نعرفها باسم “ليلى والذئب”، وبابا نويل الذي خرج من عباءة القديس نيقولاوس العجائبي، وهو هنا في ملصق دعائي خاص بكوكا كولا يعود إلى عام 1931، وفي هيئة بابار، الفيل الذي وُلد في عام 1931، ومغامراته لا تزال مستمرة. يأحذ القسم الأخير من المعرض طابعا “علميا” خالصا، وفيه عرض لتكوين هذا اللون من العصر القديم إلى الزمن المعاصر حيث بات “مركّبا” بعدما كان “طبيعيا”. يخرج الأحمر من حدود أقاليم الغرب ويتجلى في خزفيات من الشرق الآسيوي البعيد. تستحضر هذه الأواني شيئا من الأحمر الشرقي الذي غاب عن هذا المعرض، ودلالاته في العالم الإسلامي تشابه إلى حد كبير علاماته الغربية.
الفرح والسرور
في “مختصر الشمائل المحمدية”، نقل الترمذي حديثا للراء بن عازب يقول: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه”. وفي كتاب “نيل الأوطار”، نقل الشوكاني مجموعة من الأحاديث “المتضاربة” الخاصة باللباس الأحمر. قيل إن الرسول “خرج في حلة حمراء”، وقيل إنه خطب “على بغلة وعليه برد أحمر”، وقيل إنه كان له “ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة”. في المقابل، نقل أهل الأحاديث العديد من الاقوال التي تحرّم لبس الحمرة على الرجال، منها: “إياكم والحمرة، فإنها أحب الزينة إلى الشيطان”، وقول عبد الله بن عمرو: “مر على النبي رجل عليه ثوبان أحمران فسلّم فلم يرد النبي”. وقد اختلفت المذاهب في لبس الثوب الأحمر، وذكر صاحب “فتح الباري” سبعة منها.
كما في الغرب، تعددت معاني الحمرة وتباينت، وارتبطت بنوع خاص بالمرأة والغواية. كتب ابن شاهين في “الإشارات في علم العبارات”: “أما الثياب الحمر فإنها مكروهة للرجال إلا الملحفة والازار والفراش، فإن الحمرة من هذه الأشياء تدل على سرور، وهي صالحة للنساء في دنياهن. وقيل ان لبس الحمرة يدل على قتال شديد ومنازعة شديدة، وقيل الحمرة فرح مع بغي في الدنيا بدليل قصة قارون، وقيل إنها تدل على كثرة المال مع منع حقوق الله تعالى فيه، ولبس الملك الحمرة دليل على اشتغاله باللهو واللعب، وقيل إنه يدل في المريض على الموت. ومن رأى أنه لبسه في عيد أو جمعة لم يضره. وقيل رؤيا الحمرة سواء كانت في الثياب أو غيرها فإنها تدل على الصلاح، وربما دلت رؤيا الحمرة في الثوب على السرور”.
الورد والياقوت
في الأدب “الشعبي”، تبقى الحمرة مرادفة للأنوثة. في حكاية من حكايا “ألف ليلة وليلة”، ذكر الراوي بيتا من الشعر يقول: “لها مقلة تسبي العقول بسحرها/ وثغر حكى الياقوت في حمرة الورد”، وقال في وصف صبية رشيقة القد: “ذات حسن وجمال، وعيون كعيون الغزلان، وحواجب كهلال رمضان، وخدود مثل شقائق النعمان”. يتردد صدى هذا الوصف في الأدب المعاصر حيث تختلط نار الهوى بنار جهنم. كتب نزار قباني في واحدة من أشهر قصائده: “نهداك نبعا لذة حمراء تشعل لي دمي”، “نار الهوى في حلمتيك أكولة كجهنم”. وقال في قصيدة أخرى: “هذا قميصٌ أحمر/ كالنار لا يقاوم/ وثم ثوبٌ فاقع/ وثم ثوبٌ قاتم/ تذكي جحيمي صورة/ تلفّها البراعم/ وأنت من ورائها/ هدبٌ ووجهٌ ناعم” ¶
محمود الزيباوي
النهار