صبحي حديديصفحات ثقافية

عوليس الصهيوني

null
صبحي حديدي
عجيب، ومثير للأسى، ولكنه باعث على الحنق أيضاً، أن تطلع في هذه الأيام أصوات عربية تقول إنّ تحفة جيمس جويس ‘عوليس’
Ulyes
، التي صدرت سنة 1922، والتي تظل في عداد الروايات الأعظم والأشهر على امتداد تاريخ السرد بأسره، ليست سوى ‘حنين يهودي إلى أرض الميعاد في فلسطين’، وأنها في هذا لا تختلف عن كتابات هرتزل، أو كتّاب الغرب المتعاطفين مع الصهيونية. وصاحب هذا الرأي، القاصّ الفلسطيني حسن حميد، يجزم بأنّ ‘ذلك الخيط الخفي الحاضر بقوّة في الرواية هو المبرر الوحيد والأبرز والأهمّ لوجود شخصية أساسية يهودية في عمل كبير وضخم’. وهو يرى أنّ ‘عوليس’ نالت في العالم العربي مقداراً من ‘الإطراء والتمجيد والإحتفاء والإشادة والإنبهار ما لم تنله رواية أخرى’، بسبب الترويج لها من ‘قناتين أساسيتين: الأولى خارجية والثانية داخلية. الأولى عارفة بما تقوم به ولماذا، والثانية عمياء تطبّل بغباء لما قالته الفئة الأولى أو القناة الأولى’.
وكان المرء يظنّ أنّ لنظريات المؤامرة حدودها القصوى، التي قد لا تبلغ جسارة الجزم بأنّ واحدة من أصعب الروايات التي جادت بها المخيّلة الإنسانية، وأشدّها مشقة في القراءة، حيث يتوجب أحياناً تفكيك المفردة الواحدة دلالياً ونحوياً وصوتياً في آن معاً، يمكن أن تكون ‘دعاية صهيونية’. وكيف، إذا كانت هذه وظيفتها، فشل كاتبها في العثور على ناشر لها، في بلده ايرلندا وفي بريطانيا وفي سويسرا، حتى غامرت الأمريكية سيلفيا بيش، مالكة مكتبة صغيرة في باريس، بإصدار طبعة محدودة منها، لم تتجاوز ألف نسخة؟ وكيف، وهي دعاية صهيونية، مُنعت في الولايات المتحدة ـ اسوة بمعظم ديمقراطيات أوروبا آنذاك ـ بوصفها ‘أدب دعارة’ و’بورنوغرافيا’، وكان إرنست همنغواي هو الذي غامر بإدخال حفنة من نُسَخها، تهريباً، طيّ بنطاله الشهير الفضفاض!
صحيح أنّ جويس في الرواية يشير مراراً إلى فلسطين، والمشروع الصهيوني، والإستيطان المبكّر، والمسألة اليهودية بصفة أعمّ. وصار من الثابت الآن أنه تعاطف مع اليهود كشعب مضطهَد وجوّاب آفاق، وكان مهتماً بصفتين جوهريتين في الشخصية اليهودية: العزلة بالاختيار المحض، والروابط العائلية الوثيقة. كذلك من المعروف أنه ارتبط بعلاقات صداقة مع شخصيات يهودية بارزة، كما أن حقيقة رفع يهودي مثل هارولد بلوم، بطل الرواية، إلى مصافّ رمز ملحمي مثل عوليس أسهم في ترسيخ سوء الفهم حول طبيعة علاقته باليهود. وكانت هذه الملابسات وراء إحجام السلطات السويسرية عن منحه تأشيرة دخول عام 1940 على أساس أنه يهودي، وقيام صحافي صهيوني بتلفيق زيارة زعم أن جويس قام بها إلى فلسطين عام 1920.
ما هو أكثر أهمية في الأمر أن الروائي الإيرلندي الكبير اقترب، في طور محدد من أطوار حياته المتقلبة، من الإيمان بتشابه المصائر بين اليهود والإيرلنديين، فاستهوته الحياة العائلية لليهود، وشغفهم بالمعرفة (تحدّث بحماس عن هذه التسمية الجذابة: ‘أهل الكتاب’)، وتعرّضهم للإضطهاد والخروج والتيه. ولكنه، في الرواية مثلما في آرائه الخاصة، أبقى اليهودي على حافّة الترحال فقط، واعتبر أنه لن يبلغ أرض الميعاد… تماماً مثل موسى في سفر التثنية: ‘وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبّو إلى رأس الفسجة الذي قبالة أريحا فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان وجميع نفتالي وأرض أفرايم ومنسي وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي والجنوب والدائرة بقعة أريحا إلى مدينة النخل إلى صوغر. وقال له الرب هذه هي الأرض التي أقسمت لابراهيم واسحق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر’.
بلوم يبدو يهودياً، ولكنه ‘يبدو’ فقط لأنّ دارسي جويس لا يجمعون حتى الآن على يهوديته، خصوصاً وأنّ الروائي المولع بالالتباس وفّر الكثير من المعطيات المتناقضة التي تجعل الأمر حمّال أوجه عديدة. الثابت، مع ذلك، أن بلوم معارض للحركة الصهيونية المبكّرة، ومناهض لأفكار موزس (موشيه) مونتيفيوري تحديداً، وكان أحد أبرز يهود بريطانيا في القرن التاسع عشر. وفي مشهد الرواية الأشهر حول الموضوع، يذهب بلوم لشراء كِلية خنزير من أجل إفطاره، فيلفّها له الجزار (ذو التوجه الصهيوني) بورقة هي في الأصل إعلان لصالح شركة مقرّها تركيا، تتخصص في بيع أراضٍ لإقامة مزرعة قرب بحيرة طبريا. أهي دعابة، أم سخرية سوداء، أن يقوم جزار يهودي، ببيع كلية خنزير، إلى يهودي آخر، ملفوفة في منشور صهيوني؟
ولقد نشب نقاش ساخن حول بلوم، داخل الحركة الصهيونية أولاً، ثمّ امتدّ إلى تيارات دينية يهودية متشددة، وبدا وكأنّ تحديد هوية هذه الشخصية الروائية إنما يحسم معضلة كبيرة بين ‘العلمانيين’ و’غير العلمانيين’. دافيد بن غوريون أعلن بفخار: ‘حسناً… قد لا يقول الحاخامات بأنّ بلوم يهودي. أنا من جهتي لا أتردد في اعتباره يهودياً’؛ أما مناحيم بيغن فقد تساءل: ‘هل يحتاج الأمر إلى حاخام، لندرك أن آكل لحم الخنزير ليس باليهودي؟’. ومؤخراً، في مستوطنة نيتيفوت، شنّ حاخام (يمني الأصل!) هجوماً مقذعاً على الذين يروّجون لأدب جويس الداعر، ويجدون فخاراً في أن يكون بطله يهودياً: ‘هذا الزاني، المتهتك، آكل لحم الخنزير، كاره طبريا’!
أين تصبّ هذه الآراء، استئناساً باجتهاد حسن حميد: في قناة العارفين الأذكياء، أم قناة العميان الأغبياء؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى