صفحات ثقافية

أفلام اليوم بصيغة المضارع: السينما الراهنة تبدّل الثوابت؟

null
لا يمكن المرء أن يفوّت ملاحظةً حول فيلمي الرئاسة الأميركيين الحديثين اللذين انتجا في العام الماضي، فيلم رون هوارد “فروست/ نيكسون” وفيلم أوليڤر ستون “دبليو”. فحوى هذه الملاحظة أن الأول دخل سباق الأوسكار في حين أن الثاني لم يدخل. ومع أن الحق على أوليفر ستون في هذا الصدد إذ لم يحقق الفيلم الذي يوازي فيلم رون هوارد خلقاً وجودة، الا أن الملاحظة الوليدة للأولى هي أن الموضوع المتمثّل في فيلم رون “فروست/ نيكسون” عن اللقاء التلفزيوني الغريب والساخن بين الصحافي ديڤيد فروست في أول تجربة سياسية له، والرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة ريتشارد نيكسون، وهو اللقاء الذي تم بعد استقالة الرئيس تبعاً لفضيحة “ووترغيت” الشهيرة، حوى ما رصد الفترة الزمنية (الستينات والسبعينات) أكثر مما استطاع فيلم ستون فعله عن الرئيس جورج بوش الذي صوّر خلال ولايته الرئاسية وعرضته صالات السينما بينما كان دبليو وزوجته يشرفان على ترتيب الحقائب والأغراض الشخصية التي سينقلانها من البيت الأبيض في واشنطن الى مزرعتهما في تكساس.
للحقيقة، فإن من بين كل الأفلام التي ورد ذكرها في لوائح مسابقة الأوسكار (أعلنت نتيجته في الثاني والعشرين من شهر شباط)، نجد حفنة لها علاقة بالوضع الراهن وأكثر من ذلك بقليل تلك التي لها علاقة بالأوضاع السياسية والثقافية – الإجتماعية حول العالم من دون أن تكون مرتبطة بأوضاع راهنة.
من المبكر الحديث عن انعكاس فترة رئاسية جديدة لأول رئيس أفرو-أميركي يحتل البيت الأبيض، على السينما الأميركية او سواها، وذلك لأن الأوضاع السياسية لا تختلف باختلاف اللحظة التي يُعلَن فيها فوز هذا المرشّح او ذاك، بل تستمر في تداول ما كان بوشر تداوله في المرحلة السابقة والى حين تثمر المرحلة الجديدة عن متغيّرات صلبة تتيح طرحها في أفلام جديدة. على رغم ذلك، فإن البوادر موجودة.
قبل ستة أعوام فقط حاول الجمهور في حفلة الأوسكار آنذاك إسكات المخرج اليساري مايكل مور عندما هاجم سياسة جورج دبليو بوش الخارجية. هذه السنة، المفارقة أن فيلم أوليڤر ستون لم يظهر له وجود، بل ذهبت جائزتان أساسيّتان الى فيلم “ميلك” الذي يؤرخ لحياة هارڤي ميلك، ممثل حركة المثليين في التاريخ الأميركي الذي انتهى مقتولاً. ليس أن فيلم غس ڤان سانت يسرد حكايته فقط، بل يسردها بغية بيعها وتسويقها للجميع في الفترة الحالية.
الجائزتان اللتان ذهبتا الى هذا الفيلم، تمثّلتا بأوسكار أفضل سيناريو أصلي ناله الكاتب (المثلي) دستين لانس بلاك والممثل (المستقيم) شون بن الذي لعب دور هارڤي ميلك.
وحدها، هذه الفترة الوجيزة توضح ليس ما حدث من تحوّل خلال ست سنوات بين خطاب مايكل مور الذي لم تصفّق له الا حفنة وبين فوز “ميلك” الذي صفّق له غالبية الحضور، في الخطاب السياسي الأميركي الداخلي مروراً بفيلم   Brokeback Mountainالذي سبق “ميلك” في تسجيل ملامح هذا التحوّل حين فاز بثلاثة أوسكارات عام 2006 في الكتابة والإخراج والموسيقى.
أحلام الواقع المرفوض
وفي حين أن بعض الأفلام التي تتعاطى شؤوناً سياسية واجتماعية إنما تصب في الوقت الراهن مصادفة، كموجة أفلام الهولوكوست التي صاحبت بعروضها العدوان الإسرائيلي على غزّة، فإن البعض الآخر يقصد أن يأتي ملازماً طويل الأمد للحالين السياسية والثقافية الإجتماعية في أميركا وحول العالم.
نجد ذلك متوافراً بكثافة في فيلم سام مندس “ريڤوليوشن رود” على الرغم من أن حوادثه تقع في إطار الخمسينات. إنه عن رواية هي أشهر ما كتبه ريتشارد ياتس وأفضل تعبيراً عنه أيضاً، تدور حول إخفاق الحياة الزوجية في تأمين أسباب استمرارها وفق المبادئ التي قامت عليها، ومن بينها الإشتراك في تنفيذ حلم المؤسسة الواحدة، والإخلاص العاطفي.
في الفيلم فرانك (ليوناردو دي كابريو) الموظّف في شركة مصرفية يتزوّج من أبريل (كيت ونسلت) الممثلة على خشبة المسرح بعدما رآها تلعب دورها وانفرد في الإعجاب بتمثيلها بين كل الحاضرين. الزواج في الأفق القريب وبعده مباشرة فحص الحياة بالنسبة الى الزوجين: هو يمارس عملاً لا يرغب به ولا يحقق له أحلامه، وهي توقّفت عن التمثيل وأخذت تهتم بالبيت. لكن عقلها كان يحاول دائماً معالجة ما بدا لها أزمة حياة مقبلة. وفي يوم تفاتح زوجها (الذي كان بدأ يخونها مع سكرتيرة المكتب الجديدة) بأن الحل المثالي لتجديد حياتهما هو الهجرة الى فرنسا حيث تستطيع أن تعمل ويستطيع هو الإنصراف الى تحقيق بعض أحلامه المؤجلة التي دحرتها وظيفة لا تعني له شيئاً.
فرانك يمتنع في البداية عن قبول الفكرة لكنه يقتنع بها من دون أن يقتنع فعلياً. صحيح أنه يقدّم استقالته من الشركة وينشر حوله خبر قرب بيع المنزل والإنتقال الى باريس، الا أنه ما إن يسمع بأن ترقيته على الطريق وبأنه سينتقل الى موقع جيّد ويحسّن مستواه المادي، وتتواصل علاقته العاطفية بسكرتيرته (التي تبدو كما لو كانت استكمالاً لعالم النجاح: وظيفة ثابتة، زوجة في البيت، عشيقة على الجانب) حتى يبدأ بتغيير رأيه والعودة عن اقتناعه.
والحال هذه، فإن المواجهة بينه وبين زوجته الحالمة لا بد أن تكون وبالاً. تراجعه عن مجاراتها في حلم النقلة النوعية، يعيدها الى أرض الواقع المرفوض بشدّة. لقد اعتدنا أن الرجل هو الذي ينشد الإنتقال والمضي بعيداً، لكن في الحالة الماثلة فإن الحادث هو العكس ولسبب وجيه: كيف يمكن الرواية، والفيلم من بعد، تجسيد قبول الحلم الأميركي الكبير وأفوله على شخصية الزوج إذا لم يكن هو الذي يكتشف أن الواقع أقوى من أحلامه وأن الحياة التي يعرفها أفضل من تلك التي سيتعرف اليها؟
لولب
حوادث هذا الفيلم الجيّد تقع في الخمسينات أيام أيزنهاور وبعد الحرب العالمية الثانية ومع بداية العودة الأميركية الى العالم الخارج من ويلاتها، مطلع عهدنا بالتلفزيون وحين كانت السيّارات لا تزال تحمل طوابع مختلفة وتصاميم منفردة تنتمي كلٌّ الى صانعها. السيارة كجزء من الحلم، لكن فرانك كان يترك السيارة بين البيت والعمل ليأخذ القطار الى منتصف المدينة. والرمز هنا واضح، فهو ملازم لحال رجل كان عليه أن يترك الحلم في المكان نفسه قبل ولوجه العمل.
ما فعله سام مَندَس عن إقتناع وأكاد أقول عن حكمة، هو أنه لم يسع كثيراً الى ربط الحاصل درامياً بالفترة الزمنية التي تقع فيها الحوادث. نعم، إنها الخمسينات: الملابس وتصاميم الشعر والسيارات تقول ذلك، لكن هناك قيمة خاصّة لموضوع تراه فتشعر بأنه يتحدّث عن أي فترة زمنية بما فيها الزمن الحالي. تعميم ناتج من عاملين: اختيار ممثل منتم الى الجيل الحالي من الممثلين، والتعامل مع حلم كثيرين من الرجال المقموعين بسقوطهم في اللولب الإستهلاكي للحياة والإنتقال من مشروع رجل سيحقق أحلامه الى مشروع رجل سيرضى بما وجد نفسه عليه وهو ينظر الى طريق ساقته اليه الظروف يبتعد فيه عن الطريق الآخر الأقل سفراً، بحسب شعر روبرت فروست الرائع.
هناك ما يكفي في الفيلم ليناسب الفترة الحالية. هي أيضاً فترة نهاية حرب أميركية في العراق، وفترة يقين أن الحياة كما هي اليوم قد تستقر الى مستقبل أفضل بوصول رئيس جديد مليء بالنيات الحسنة والأفكار البعيدة عن تلك التي تسببت بها أفكار سلفه من فقر واضطرابات على كل صعيد. في الواقع، كان يمكن سام مَندَس نقل القصّة الى السنة الحالية من دون أن تخسر القصّة أياً من مدلولاتها. لكن المخرج إذ سعى الى إبقائها في صرح الفترة التي وضعها فيها كاتبها ريتشارد ياتس، كان لا بد أن يترك الفيلم ينتقل في أذهان متابعيه الى ما بعدها. الى اليوم إذا شاؤوا. واليوم هو الفترة الزمنية الثانية الوحيدة الممكن فعلياً ترجمة الحوادث في البال اليها وليس الستينات او السبعينات مثلاً، وذلك لأن العلاقة القائمة بين المشاهد والفيلم هي علاقة بين ماض محدد (الخمسينات كما ديكور الفيلم والأجواء) وحاضر محدد (الزمن الراهن).
من الطفولة الى الطفولة
هذه القيمة المتمثّلة في نقلة طبيعية الإيحاء بين الماضي والحاضر مع إسباغ المرامي في القصّة على احتمالات مماثلة في زمن اليوم (مثل صورة فوتوغرافية ملتقطة من أمس بعيد تزيّن جدار منزل تم بناؤه اليوم) ليست موجودة حتى في الفيلم الأصعب إخراجاً (والأفضل الى حد ما) “قضية بنجامين باتون المثيرة للفضول” لديڤيد فينشر الذي يسبر الخمسينات والستينات وبعضاً من اليوم كما يفعل فيلم “القارئ” لستيفن دودري، الذي يبدأ في نقطة من اليوم ثم يعود الى الأمس قبل أن يختم باليوم مجدداً.
بالنسبة الى فيلم ديڤيد فينشر، فإن المنحى الذي اتّخذه فلسفي. طرحه من نوع “ماذا لو…”، تالياً فيه قدر كبير من التنظير، تماماً كما الرواية التي اقتبس منها للكاتب ف. سكوت فيتزجيرالد.
في الرواية الأصلية، فإن الوقائع تبدأ بالعجوز بنجامين باتون وتعود به الى الوراء. في الفيلم نبدأ باختيار أصعب بكثير: بنجامين حين وُلد طفلاً بوجه عجوز وقصّة نموّه الغريبة في اتجاهين متناقضين.
في الرواية الأصلية، تنتهي القصّة وبنجامين يؤم المدرسة الإبتدائية مع حفيده الصغير (كونهما الان طفلين). في الفيلم يتجاوز بنجامين سن الدراسة صغيراً عائداً الى الطفولة التامّة الى حين إغماض عينيه والعودة الى الموت الذي جاء منه محمولاً بين يدي المرأة التي أحب – وهو شاب كما وهو رجل- والتي أصبحت بمثابة أمّه الوحيدة، وهي الشاهدة الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة.
في الفيلم يقص علينا المخرج الحكاية عبر مذكّرات تحتفظ بها ديزي  (كايت بلانشيت) لبنجامين وقد أصبحت الآن في أواخر عمرها مستلقية على سرير في مستشفى على بعد ساعات من عاصفة هوجاء ستضرب المنطقة. إبنتها (جوليا أورموند) هي التي تقرأ المذكّرات، وأمها هي التي تعلّق، وينتقل المخرج بين هذا المشهد والتعبير الصوري عن كل مرحلة من مراحل حياة بنجامين المثيرة لما هو أكثر من الفضول.
وإذ يجد المخرج المفتاح الذي من خلاله يروي حكايته، فإنه ينطلق من اللحظة التي وُلد فيها بنجامين في أسرة بيضاء صغيرة. سيكون الطفل الأول لأبيه توماس باتون (جاسون فليمنغ) الذي يقف وراء باب الغرفة الموصدة على الطبيب والممرضات منتظراً ولادة زوجته. يهرع الى داخل الغرفة. الأم تموت خلال الوضع وهو ينظر الى طفله ويهلع. يأخذه من فراشه ويهرع به الى الشارع هارباً ويريد تركه عند شاطئ النهر. رجل بوليس يشاهده ويطارده. في هربه يدخل منزلاً مخصصاً للكبار سنّاً. يضعه على الدرج داخل المنزل المؤلّف من طبقتين ويختفي.
تعثر عليه كويني (ترايجي هنسون)، إمرأة أفرو- أميركية تدير المكان، ومثل والده تبهت لملامح بنجامين لكنها تتبنّاه على كل حال. إذ يكبر بنجامين مقعداً بادئ الأمر ثم ماشياً على عكّازين ثم منطلقاً على النحو الطبيعي للبشر، فإن هناك حوادث كثيرة تقع معه وشخصيات عديدة تدخل حياته وتخرج منها، بمن فيها عودة والده إليه. الأب يعرف أن هذا الرجل (الذي يكبره سنّاً) هو إبنه، ولاحقاً يدرك بنجامين (وقد أصبح الآن في ذروة الرجولة) أن توماس أبوه، وهو القبطان الذي يقود سفينة الصيد الصغيرة عبر أنحاء العالم مانحاً بنجامين الفرصة لمشاهدة الدنيا والذي يقرر أن الحرب العالمية الثانية هي حربه فيشترك بسفينته غير الحربية فيها. الأم بالبتنّي كويني تكبر بينما بنجامين يصغر. ثم ديزي، الفتاة التي جذبته منذ أن كان كبيراً وهي فتاة صغيرة والتي يلقاها لاحقاً وقد أصبحت أصغر منه قليلاً، ثم في عمره ثم أكبر منه.
الحرب بتمويل مصرفي
في مشهد من الفيلم يعلّق بنجامين على هذا الموضوع بقوله: “ليس المهم متى نولد ومتى نموت بل كيف نمضي حياتنا”.
بين بدايات الأشياء والعلاقات والأعمار ونهاياتها، هناك الكثير من الأفكار الفلسفية المطروحة وخصوصاً حين يجري البحث عن الزمن المفقود داخل الزمن الوليد. لن يستطيع بنجامين أن يكون القائد المبادر بسبب نشأته غير الطبيعية. كل ما يستطيع أن يقوم به هو تقبّل مصيره بهدوء العارف (فكرة فلسفية أخرى) بذلك المصير، باستثناء حين وقع في حب ديزي فلحقها الى باريس ليعرض عليها العيش معاً. حينذاك كانت مرتاحة لما أنجزته وتتطلع الى المزيد وتعيش سعيدة بعلاقاتها المفتوحة وتجد أن بنجامين لم يعد مطلبها كما كان حين كانت أصغر سنّاً. لكن بنجامين يصر بطريقته الخالية من الإلحاح، عبر وجوده فقط وخصوصاً بعد أن تتعرّض ديزي الى الحادثة.
الصلة بين هذا كله وما يجري اليوم، لا تتبدّى بسهولة، وهي دائماً لا تتبدّى بسهولة في أفلام فينشر (مثل “سبعة” و”زودياك”) لكنها توحي بوضع غير مستقر في زمن كالذي نعيشه اليوم.
لكن “القارئ” مختلف من حيث أنه إذ يتناول الهولوكوست في بعض جوانبه، يوعز بأن الحديث عنه لن يُجدي اليوم والعيش في ذكراه لا ينفع. او كما تقول شخصية يهودية في نهايات الفيلم: “لا شيء يمكن أن يستخرجه المرء من تلك الفترة”. في ذلك يفتح المجال لقراءة نقدية ضد فكر ساد لفترة ويحاول أن يبقى سائداً الى الأبد.
في معالجات أكثر مباشرة للأوضاع الحالية، يطل علينا حالياً “الدولي” للمخرج الألماني تيم تيكڤر الذي افتتح مهرجان برلين الأخير. إنه فيلم تشويقي جيّد الصنع في بعض نواحيه وأقل من ذلك في نواح أخرى، حول تحقيق يجريه الإنتربول والـ”سي آي أيه” في خصوص مصرف كبير مركزه لوكسمبورغ يسلّح الفصائل والدول المتحاربة لأن الحرب سبيل لوضع تلك الدول تحت الديون تجاه المصرف، ما يمكّنه من السيطرة على الحياة الإقتصادية لتلك الدول.
يلوّح السيناريو بأزمات اليوم، من قضايا الإرهاب الى الحروب الأفريقية الى الحرب المحتملة بين ايران وإسرائيل، من خلال ما تكشفه تحقيقات التحريين (كلايڤ أووان وناوومي ووتس في الفيلم)، وفيه تلك النبرة المتسائلة عما حدث للعالم بعد إنهيار الجدار الألماني والنظم الشيوعية في أوروبا. إنه موضوع راهن، لكنه لا يمثّل خرقاً لأن النبش في هذا المضمون يلد ضمن غاية سرد الفيلم التشويقي وليس الفيلم الباحث في أرض موضوعه وعمقه. لذلك يمر معظم “الدولي” في سلسلة من الحالات التلقائية، من إكتشاف الإحتمال الى محاولة إثباته فالى دفاع النظام عن وجوده والصدام الكبير. ذلك كلّه ضمن نظرية المؤامرة على غرار أفلام السبعينات الأميركية الأفضل شأناً مثل “بارالاكس ڤيو” لألان ج. باكولا و”ثلاثة أيام للكوندور” لسيدني بولاك.
أفضل منه تناولاً هو شريط المخرج الإيطالي ماتيو غاروني  “غومورا” الذي يبحث في الجريمة الإيطالية المنظّمة اليوم كما بحث فيها مواطنه فرانشسكو روزي في الستينات. أحد الفوارق المهمّة التي لا تلغي التشابه، هو أن روزي انتقل الى حيث كانت المافيا الإيطالية منتشرة في جنوب إيطاليا، بينما  يختار غاروني الإنتقال الى حيث تنشط اليوم في أنحاء نابولي.
ليس هناك مجال في فيلم غاروني لتأليف درامي يحلّي به الواقع وليس هناك من لقطات للتنفيس عن الحقيقة الآنية التي تعيشها البلاد: لا موسيقى من البوب ميوزك ولا لقطات من السخرية او حوار يصلح لأن تتداوله مواقع الإنترنت ترفاً. كل ما هناك هو جحيم على الأرض، غريب على الناظر بسبب تعوّده على سينما المافيا الصقلية ومهاجريها الى الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. أكثر ما يدهم هذا العالم الذي يعرضه المخرج أنه يبدو كما لو كان غريباً على العين. كما لو أنه فبركة لا تستحقها إيطاليا. كيف يحدث أننا نصدّق بومباي كما ترد في فيلم البريطاني داني بويل “مليونير صعلوك” ولا نصدّق نابولي كما يقدّمها غاروني؟
أمل وتفاؤل
السينما في كل ما سبق إنما لا تكتفي بعكس الرغبة في أن تشاهد هذا العالم يتغيّر ويتبدّل، بل تنتهج، مجدداً، سبيل طرح ما هو في حاجة الى تغيير وتبديل. خذ مثلاً “وول- إ”، فيلم الأنيمايشن الذي حققه أندرو ستانتون وفاز بدوره بأوسكار أفضل فيلم تسجيلي. إنه لا يصوّر حكاية حب بين روبوت قديم (ذكر) وروبوت حديث (أنثى) بقدر ما يجعلها خلفية لطرح قضية البيئة. قصّته في صميمها تدور حول هجران الأرضيين كوكبهم واستقرارهم في كواكب اصطناعية تعفيهم من الحياة على الأرض بعدما أدّى استهلاكهم لها الى فساد بيئتها، وكيف تمكّن الروبوت القديم الذي خلّفوه وراءهم من إقناعهم بضرورة العودة الى الأرض والبدء بالحياة فوقها من جديد بنظرة متفائلة لا يماثلها الا ذلك التفاؤل الذي يبعثه فيلم “مليونير صعلوك” او  Slumdog Millionaire للبريطاني داني بويل. فهو في نهايته يتجاوز كل المصاعب والإحباطات التي عايشها بطل الفيلم جمال، هندي مسلم فقير يدخل مسابقة “من يريد أن يصبح مليونيراً” ليلفت نظر حبيبته التي لا يعرف مكانها لكي تتصل به. هذا التجاوز يوصل الفيلم ومشاهديه الى تلك الخاتمة السعيدة التي تعكس أملاً بالحياة وتفاؤلاً بما سيحمله المستقبل.
ذكريات حرب قريبة
ثم هناك فيلم اري فولمان “فالس مع بشير”، الفيلم الإسرائيلي الذي وُلد في حقبة القلاقل للرئيس بوش ليحكي عن حقبة القلاقل التي شهدتها حقبة الرئيس الراحل رونالد ريغان. عن تلك الحروب (غير المنتهية؟) في هذا الجزء من العالم العربي. وهو الفيلم الذي بوشر عرضه التجاري مع وصول باراك أوباما الى السلطة وخلال الإعتداء الإسرائيلي على غزّة، ما كلّف الفيلم، على ما يبدو، أوسكاره كأفضل فيلم أجنبي (نالها عوضاً عنه الفيلم الياباني “مغادَرات” الحامل رصداً للحياة والموت ونَفَساً إنسانياً رقيقاً سطا به على المواقف).
الفيلم في صلبه تسجيلي مع معالجة كرتونية (بمفهوم الأنيمايشن وليس بالمفهوم الساخر) مع تدخل روائي في بعض مراحله. تحديداً هو ليس فيلما تسجيلياً، ولا فيلماً كرتونياً ولا فيلماً روائياً، بل فيلم هجين من الأنواع الثلاثة، يستخدم الرسوم المتحركة لإيداع فكرة بطريقة الفيلم التسجيلي. وهو فيلم جيّد ليس فقط في ابتكار هذا الشكل الجديد له بل في معظم ما يطرحه في ثنايا هذا الطرح أيضاً. كتبه وأخرجه آري فولمان، وفي نيّته، وبوضوح، أن يكون معادياً للحرب، مذكّراً اسرائيل والعالم، بالحرب التي خاضتها إسرائيل في لبنان عام 1982. الفيلم قائم على ذكريات آري فولمان نفسه، إذ كان اشترك في تلك الحرب وخاضها من جنوب لبنان ثم، وبحسب قوله، من بحر بيروت حين حطّ الإسرائيليون على الشاطئ البيروتي عند الرملة البيضاء. يبدأ فيلمه بمشهد لكابوس يؤرقه: كلاب متوحّشة تطارده ليلاً. هو يحاول الهرب وهي تلاحقه وتدنو منه. يحمل هذا الكابوس ليستدل الى معانيه مدركاً منابعه. فهو اشترك في حرب يراها الآن غير ملائمة لنفسيّته. وهو، بحسب قوله، لم يكن أساساً معها. هذا الموقف لم يدفعه الى رفض الإشتراك في الخدمة، لكنه دفعه الى ملاحظة مهمّة ترد في عبارة تتوسّط الفيلم على صورة اقتراب الجنود الإسرائيليين من سيارة مدنية أطلقوا عليها الرصاص فأبادوا من فيها. سيكتشفون حين يقتربون أن من فيها كانوا مدنيين لبنانيين هاربين من جحيم الموت الى أمل الحياة. العبارة تقول: “فجأة كل ما تعلّمناه من ضبط نفس لا يعني لنا شيئاً. نطلق النار على كل شيء يتحرك”. وبذلك هو كما لو يصف منهجاً لا استثناء صاحب كل حرب اسرائيلية على كل دولة عربية حاربتها من مصر الى لبنان الى فلسطين.
لب الموضوع المطروح طبعاً هو المذبحة التي وقعت في صبرا وشاتيلا. وهو إذ يُسمّي حزب الكتائب تحديداً، يوضّح مسؤولية الجيش الإسرائيلي الذي كان يحيط بالمخيمين ويعرف ما كان يجري لكنه لم يتدخّل.
فيلم آري فولمان يخطئ في بعض خطواته من بينها تحييد آرييل شارون وإبعاده جغرافياً عن مكان المذبحة (على عكس ما ذكر شهود عيان عديدون) وبينها تصوير بيروت (الغربية آنذاك). في نهايته ينتقل الى مشهد واحد الى صورة أرشيفية حيّة (ليست مرسومة) لإمرأة فلسطينية تخرج من بيتها في المخيّم وتصرخ: “وينكم يا عرب”. الصرخة نفسها رددتها فلسطينيات غزّة إثر كل غارة إسرائيلية كما لو أن بعض الأمور كُتب لها أن لا تتغيّر على الإطلاق ¶

محمد رضا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى