أوباما وامتحان القضية الفلسطينية
د. برهان غليون
يكاد تأثير زيارة الرئيس الأميركي أوباما للمنطقة العربية على القضية الفلسطينية يستقطب اهتمام العرب جميعاً، مسؤولين ومراقبين. وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يسيطر سؤال: هل يحمل أوباما في جعبته مبادرة حقيقية لاستئناف مفاوضات التسوية بين العرب والإسرائيليين، أم أنه بسبب تحالفاته الداخلية والتزاماته تجاه إسرائيل واللوبي اليهودي، يسعى كأسلافه إلى كسب مزيد من الوقت، بانتظار أن تتمكن الولايات المتحدة من استعادة صدقيتها الدولية وترسيخ قواعد نفوذها المتداعي في الشرق الأوسط؟
على كل حال هناك رأيان أحدهما يرد إيجاباً على السؤال أعلاه، ولأصحاب الرأي حجج لا يستهان بها. منها أن الرئيس الجديد يحمل بالفعل رؤية مختلفة ليس لقضايا الشرق الأوسط فحسب، وإنما لدور الولايات المتحدة وأسلوب تعاملها مع العالم، وأن أصوله الإثنية والأسرية، وتكوينه الفكري والسياسي، وتربيته الشخصية… تجعل منه رئيساً مختلفاً عن كل الرؤساء الأميركيين السابقين، وتؤهله لعمل يتجاوز سياسة المصالح القومية الضيقة، حتى ولو كانت مصالح الدولة العظمى، كما تمكنه من النظر إلى دور أميركا وقدراتها الاستراتيجية نظرة نسبية. ثم إن أوباما لا يمكنه أن ينسى الفشل الذريع الذي منيت به سياسة سلفه التدخلية ونهايتها المرة، وهو لم يتردد في إعلان رغبة واشنطن في ما يمكن أن نسميه المصالحة مع عالمها ومحيطها للخروج من الأزمات الدولية وبناء مستقبل مختلف لجميع سكان الأرض.
أما فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فقد بينت المداخلات والخطب العديدة التي كرسها له أنه، على خلاف ما دافعت عنه الدبلوماسية الأميركية منذ كسنجر، لا يتمسك بالحلول الجزئية، وإنما يميل إلى تصور حل شامل للنزاع الإقليمي. وهذا ما كنا ندافع عنه- نحن العرب- منذ عقود، فنرفض أن يأتي حل المسألة الفلسطينية على حساب المسألة السورية أو العكس، أو أن يكون حل مسائل الاحتلال أجندة لاحقة بأجندة الحرب الأميركية ضد الإرهاب، ورهينة بالانتصار فيها، وبالتعاون الكامل ومن دون شروط في خوضها.
لا ينفي أصحاب الرأي المقابل ما تحمله ظروف انتخاب أوباما رئيساً للدولة الأعظم، ولا تأكيداته على ضرورة إيجاد حل سريع للمسألة الفلسطينية، من معاني وما تشير إليه من احتمالات إيجابية. لكنهم يعتقدون أن أوباما، مهما كانت صفاته الشخصية وأسلوب عمله وتفكيره، ليس ساحراً، وإنما رئيس الولايات المتحدة الأميركية. وكأي رئيس أميركي فإن ما يشغله قبل أي شيء آخر هو مصالح الولايات المتحدة القومية، والحفاظ على التحالفات الداخلية التي تسمح له بأن يحكم بصورة طبيعية، ولا يتعرض لهزات أو معارضات أو إعاقات قوية داخل الكونجرس أو داخل الحزب الذي رشحه ودعم انتخابه. فهو شاء أم أبى مضطر إلى أن يحترم مصالح القوى التي ساهمت في إنجاحه ولا تزال تشكل قاعدة حكمه الرئيسية، وهي قوى الرأسمالية القوية ومراكز القوى السياسية واللوبيات المنظمة، وفي مقدمها اللوبي الإسرائيلي الذي أظهر في العقود السابقة أنه أحرص على تفوق إسرائيل الإقليمي وأمنها من إسرائيل نفسها. فلا ينبغي أن تخدعنا الخطابات الدعائية. لقد كان بوش الابن هو أكثر رئيس أميركي وضوحاً في إعلان فكرة الدولتين، الفلسطينية والإسرائيلية، على أرض فلسطين، قبل أن يتحول إلى المناصر الأشد لسياسة الاستيطان والاحتلال والاستعمار الإسرائيلية، ويلغي أي أفق محتمل لاستئناف مفاوضات التسوية السياسية. ومثل أوباما اليوم، أعلن بوش أيضاً في مطلع ولايته، في خطاب 4 إبريل 2002، أن نشاطات إسرائيل الاستيطانية في الأراضي المحتلة ينبغي أن تتوقف، وأن تطبق قراري مجلس الأمن 242 و338، وأن على الحكومة الإسرائيلية تخفيف نقاط المراقبة والتفتيش والسماح للفلسطينيين بالحركة الطبيعية. ووعد بتحقيق الدولة الفلسطينية في أقل من خمس سنوات.
في هذه الحال، هل تحمل زيارة أوباما للمنطقة جديداً بالمقارنة مع سلفه، حتى لو أطلق مبادرة، أو أعلن عن ملامح مبادرة سلمية؟ وهل من المستبعد أن ينقلب أوباما على أقواله ومواقفه التي أعلن عنها منذ استقراره في البيت الأبيض، أم أن هناك سبباً وجيهاً يدفعنا إلى الأمل بسياسة مختلفة ومتسقة بالفعل؟ وفي هذه الحالة يطرح سؤال أصعب: هل يستطيع أوباما إكراه إسرائيل على القبول بمبادرة لا ترضى عنها القوى الإسرائيلية، والائتلاف القائم بشكل خاص؟ وسؤال مواز لا يقل أهمية عن السؤال الأخير: هل يستطيع الطرف الفلسطيني، “حماس” و”فتح”، إيجاد قاسم مشترك يمكنه من دخول مفاوضات سياسية فعالة على قاعدة الدولتين، أم أن المبادرة الأميركية ستعمق انقسام الطبقة السياسية الفلسطينية؟
لا أعتقد أن هناك تناقضاً بين الحجج المختلفة التي أشرنا إليها. فكلاها صحيح. إن أوباما يحمل إرادة قوية في تغيير السياسة الأميركية الخارجية، ليس في الشرق فحسب وإنما في علاقة واشنطن مع دول العالم الأخرى. وهو يصدر في ذلك عن رؤية مغايرة لرؤية سلفه، تستمد قوتها وشعبيتها بالضبط من الإخفاق المريع لسياسة بوش التدخلية والاستعلائية. لكن أوباما مثله مثل أي رئيس أميركي، لا يستطيع فرض السياسة التي يريدها، وإنما عليه القبول بتسويات متعددة مع القوى والأطراف القوية التي يستند إليها النظام الأميركي. وهذا يعني أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لم تحسم بعد، وإنما هي في طور الإعداد، وأن بلورتها تشكل محور معركة جديدة في واشنطن بين تيارات الإدارة الأميركية.
وعلى فرض أن الأمر قد حسم في واشنطن لصالح تطبيق سياسة أوباما الجديدة، هل الأطراف المعنية، العرب وإسرائيل، جاهزة للانخراط في مفاوضات جدية والتوصل إلى تسوية تاريخية؟
في محاولة لقطع الطريق على واشنطن، أعلنت الحكومة الإسرائيلية رفضها مبدأ وقف الاستيطان أو تجميده. لكن الواقع أن إسرائيل، مهما كانت حكومتها، لا تستطيع أن تقاوم طويلاً إرادة أميركية قوية تدفع في اتجاه التسوية. فرغم الحظوة التي تتمتع بها في أوساط الرأي العام الأميركي، الرسمي والشعبي، فإن حاجتها إلى الولايات المتحدة، لبقائها وتفوقها، أكبر بما لا يقاس من حاجة الولايات المتحدة إلى خدماتها الإقليمية. وإذا كان أوباما، ومن ورائه أطراف كثيرة في الإدارة الحالية، يعتقد أن انتشال الولايات المتحدة من السقوط السياسي والأيديولوجي والاستراتيجي المدوي، لا يتحقق من دون العودة إلى تطبيق منطق القانون والشرعية الدولية في المنطقة، ولو في حدودهما الدنيا، فمن مصلحة تل أبيب أن تظهر تعاونها. فإسرائيل في النهاية، من وراء مظهر الاستقلال والقوة وهامش المبادرة النسبي الذي يميز سياستها، كانت ولا تزال تدين بقوتها، وليس فقط بوجودها، للدعم الشامل والمتواصل الذي قدمته لها ولا تزال تقدمه الولايات المتحدة وأوروبا.
لا يختلف الوضع عن ذلك بالنسبة للفلسطينيين. فبإمكان “حماس” أن تعلن معارضتها لتسوية لا تضمن الحقوق الكاملة للفلسطينيين. ومن شأن هذا أن يعزز الموقف الفلسطيني والعربي ولا يضعفه. فلا ينبغي أن تظهر إسرائيل وحدها اعتراضاتها. لكن في النهاية لا تستطيع “حماس” أن تقطع نفسها عن الدول والأطراف العربية التي تسعى جميعاً إلى التسوية وتعتبر نفسها صاحبة الخيار التفاوضي.
جريدة الاتحاد