صفحات ثقافية

ليست الموسيقى ساعي بريد

null
عبد الوهاب الملوح
وهو يرتاد حلقات الخميس للرمزيين المبكرين من شعراء الحداثة الفرنسية سنة 87 وما كانت تخوض فيه من أفكار ثورية وحول الإبداع الأدبي ؛ أظهرت اشتغالات بودلير ورامبو ومالارمية وفرلان حولها مدى الاختراق الذي أحدثته في مفهوم الفن عموما؛ لم يكن ديبوسي يفكِّر وقتها إنَّه بدوره سيُحدث تغييرات جوهرية وعميقة في مجال فني آخر ليس غريبا عن الأدب بل من صميمه وهو الموسيقى وإنه سيزيد من حجم الاختراق الذي بدأه بيتهوفن حين أطاح بالمعمار الهارموني في بعض مقطوعاته ودعَّمته الانفعالات الإشرافية لسرافنسكي وعمَّقت شرخه تداعيات شونبرغ الهذيانية ومجمل هذه الأعمال كانت في صميمها بحوثا واشتغالات عملت على تعديل فكرة ان الموسيقى مجرّد أداة تعبيرية .
ليست الموسيقى ساعي البريد أي يؤمِّن إيصال الودائع إلى أهلها وليست سياحة روحية للترفيه عن النفس بما هي نقل لهواجس الروح عبر أنغام وإيقاعات وحركات وأنفاس الخ الخ… حتما إن بعض الموسيقى شيء من هذا القبيل وهي في جوهرها غير ذلك؛ إنها فن يعمد إلى تأويل الزمن والمكان بالإيقاع ويعمل على إيجاد الديمومة عبر وحدات تتشكل وفق رؤيا الفنان للوجود والكينونة ضمن هذا الأفق المفتوح سوف تُفصح الميلودية الهارمونية الأركسترالية والنغمية المنضبة لدرجات السلم عن قصورها في تلبية النداءات الخفية والمتوهجة والمتطلعة للخلق والتجدد وبالتالي ستعبر عن فشلها في تحويل اختلاجات الجسد ونبض اضطرابا ته الجوانية القلقة إلى كيان حقيقي بإمكانه تأويل الوجود وإعادة تشكيله .
في الموسيقى جملة. للعبور إلى هذه الجملة وإنشائها ينبغي التقـيّـُد بمجموعة من القواعد والشروط أولها المرور عبر البوابة الرئيسية وحيازة تأشيرة الدخول. مفتاح الصول هو رجل الجمارك الذي يفتح باب الدخول إلى السلم ومنه إلى حيث تركيب الجملة التي تبدأ من نوتة على درجة معيَّنة في منزلة محددة لتكتمل بقفلة تؤمِّنها نوتة من المهم أن تكون على نفس الدرجة وفي نفس منزلة الانطلاق ؛ سوف يوفر هذا المجال إمكانات خصبة ومتعددة للموسيقِي فيؤلف فقرات نغمية مختلفة وإيقاعات بلا عدد وسوف يمنحه حرية التركيب وفق ما تمليه عليه أحاسيسه وأفكاره لكنه يبقى مجالا محدودا بما إنه على المؤلف أن يتقيَد بدرجات السلم وينضبط لخيارات مهما تعددت هي محدودة… ثمَّة سقف مهم وإن علا يبقى واطئا وليس من مجال لتجاوزه إلا بالتمرد على القاعدة والقفز على درجات السلم وهو ما سيعتبره البعض لغوا ونشازا غير انه في حقيقته إفصاح عن وعي مسكون بهاجس البحث والتجريب بما إن الإبداع خلق متجدد لا يخضع للنمطية التي تولدها شدة الالتزام الحرفي بقوانين التأليف الموسيقي وتشريعاته كما يؤكدها الكونسرفتوار.
من الممكن كتابة الجملة الموسيقية من خارج المجال الذي يقترحه السلم وهناك من اختلق نغمية مختلفة بابتكار آلات غير معهودة في الوسط الموسيقي شأن الفرنسي كلود ديبوسي عندما قام بتعديلات على دواسة البيانو لتصدر أصواتا مبتكرة غير مألوفة وتوسع من درجات السلم وجاءت السمفونية الشعرية « البحر » تجربة مهمة في هذا المضمار ومن قبله كانت بحوث موزارت حيث جاءت سوناتاته مقاربات مغايرة ومتمردة عما لقنه إياه أساتذته واعتبره حدا من حريته الإبداعية مما يؤكد ان كل جنس فني تمرد عن الإطار الذي تم وضعه فيه وهي كذلك بما إنها تمرد عن الثوابت المعتادة وإفلات من بين أسوار السلم تقفز على درجاته لتصغي إلى نبض الجسد وإيقاعه في تفاعله مع ما يحدث حوله
هي بلاغة إيقاعية تزداد توهجا باختراقها لمحدودية اللحظة الزمنية وإدراكها للديمومة
وهي الجسد حين يصنع إيقاعه المتفرد فيرقص الهواء ثملا تعتقه مزامير الريح ؛ ليس السلم من ينتج الموسيقى وإنما فوضى ازدهار وهو يتطلع إلى أي التجلي والتحرر وتشكيل وجوده بشكل مبتكر.
(كاتب تونسي)
ملحق السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى