تحية الى ميشال كيلو
الياس خوري
لم يخرج ميشال كيلو من سجنه نتيجة عرائض الاحتجاج التي وقّعها المثقفون العرب. شرب المثقف الديموقراطي السوري الكأس حتى الثمالة، ودفع ثمن مواقفه المبدئية وشجاعته ثلاثة اعوام من عمره، أمضاها في سجن عدرا. حكاية ميشال كيلو مع السجن تحمل كل الأبعاد الرمزية لعلاقة المثقف بالسلطة في المجتمعات العربية. فهذا المثقف الوطني الديموقراطي المعارض، الذي ناضل طويلا من اجل إحياء المجتمع المدني في سوريا، وجد نفسه في مهجع يضم سجناء الحق العام. وضعوه مع تجار المخدرات واللصوص، كي يضيفوا الى معاناته بعدا جديدا، يتمثل في رفض الأنظمة الاستبدادية العربية اعتبار معارضيها سجناء سياسيين!
كان اعتقال كيلو ثم محاكمته وسجنه اشارة الى ان النظم الاستبدادية ترفض كل نقد، ولا تريد سوى مجتمع الصوت الواحد. وكانت “جريمة” ميشال كيلو الكبرى توقيعه “اعلان بيروت – دمشق، دمشق – بيروت”، الذي دعا الى اقامة علاقات سوية بين لبنان وسوريا.
لم يعد من المجدي تكرار المكرّر حول طبيعة النظام العربي، الذي يصنع سلطة الخوف، مستظلا انظمة الطوارئ الأبدية، التي تحاكم النيات، وتجعل كل مواطن عرضة للشبهات، والرأي الآخر جناية يعاقب عليها القانون. فهذه صارت احدى بديهيات الحياة الثقافية والاجتماعية العربية.
ما اريد التوقف عنده هو فشل المثقفين العرب في التأثير من اجل رفع المظالم عن زملائهم، بحيث صارت بياناتهم اشبه بلزوم ما لا يلزم، وفقدت قدرتها على الفعل ولو في صيغة دفاعية.
نستطيع إرجاع المسألة الى انهيار “ربيع دمشق”، بفعل اليد القمعية التي استخدمها النظام، في ظل ضمور القوى السياسية المعارضة، التي كانت مثخنة بالملاحقة والسجون. كما نستطيع إرجاع السبب الى البلبلة اللبنانية التي اعقبت حرب تموز 2006، حين بدأ المشروع الديموقراطي اللبناني الذي اطلقته انتفاضة الاستقلال يفقد جاذبيته، ويتحول جزءا من الصراع الطائفي الداخلي على السلطة.
هذان السببان ما كانا ليتخذا هذا الحجم لولا التراجع المخيف الذي ضرب مفاصل الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد غياب عرفات، بحيث صارت المقاومة حكرا على الاسلاميين، وفقدت القوى العلمانية بوصلتها السياسية، في ظل نظام عربي اعلن ما يشبه الافلاس الشامل. وهذا ما اشارت اليه حرب غزة الوحشية، حين وقفت جميع الأنظمة العربية على شرفة الموت تتفرج على المأساة.
إرجاع العجز الى هذا السبب ليس كافيا، على رغم انه اساسي. فلقد استطاع النظام السوري، عبر الحرب في الاطراف وعبر الاطراف، ان يدّعي لنفسه النصر، وان يستعيد هيبته وقوته، نتيجة الحاجة اليه، كعامل ضبط لمنطقة مهددة بالانفجار في كل لحظة.
لم تشفع للمثقفين السوريين نضالاتهم ومواقفهم الناصعة، في دعم الثورة الفلسطينية، في احلك الظروف، اي حين كان النظام السوري يحاول تطويعها او قتل روحها النضالية، من تل الزعتر الى حرب المخيمات، فذاكرة بلادنا قصيرة. بل ان احد طبائع الاستبداد هو محو الذاكرة.
غير ان هذا التحليل على رغم وجاهته ليس كافيا. ففي الواقع المصري، حيث لا يلبس القمع قفازات مقاومة اسرائيل، نجد ان قدرة المثقفين في التأثير على قرارات قمع الثقافة والمثقفين، وملاحقة الصحافيين، تبدو محدودة جدا، إن لم نقل انها معدومة.
فالنظام المصري الذي يمارس السياسة النقيض للنظام السوري على المستوى الإقليمي، والذي انكشفت مواقفه خلال حرب غزة، يمارس قمعا شبيها بقمع شقيقه السوري، مستخدما خطابا مناقضا، ومع ذلك فإن يده القمعية لا تهتز امام صراخ النخب الثقافية المصرية، وهي تواجه محاولة وأد الثقافة الحديثة، وقمع حرية الكلمة.
المسألة اذاً، تتجاوز الخطاب السياسي المباشر للنظام. وعلى الرغم من اقتناعي التام بأن ازمة الحركة الوطنية في بلاد الشام، في سوريا ولبنان وفلسطين، يجب الخروج منها، من اجل صوغ خطاب ديموقراطي وعلماني جديد ومقاوم، فإن المسألة التي احاول تحليلها، تضرب عميقا في بنية الثقافة، وفي الشعور بالفشل والاحباط، الذي يحجّب المجتمع، ويدفع به الى الاستسلام للاستبداد. سواء أكان ذلك استبداد النظام، ام استبداد القوى الاصولية، ام استبداد امراء الطوائف “الديموقراطي” كما في لبنان.
هذا الاستسلام لا يمكن كسره الا عبر تقديم نموذج جديد للمثقف. وهنا تكمن اهمية ميشال كيلو ورفاقه.
المسألة ليست في الشجاعة او النبل الأخلاقي فقط، بل في اتخاذ قرار واع بالمواجهة، حتى حين تكون الأمور بالغة الصعوبة. وهي مواجهة جعلت كيلو ورفاقه يؤكدون مواقفهم المبدئية الديموقراطية والوطنية. فالديموقراطية لا تعني الاستسلام، بل هي الاساس الثابت لمقاومة الاحتلال، ورفض تحويل العالم العربي الى رجل العالم المريض.
الاستسلام الذليل لا تصنعه الديموقراطية، بل انظمة الاستبداد، لأن المسألة بالنسبة اليها ليست مصلحة الوطن، بل البقاء في السلطة. وهذا ما خبرناه في جميع مراحل الصراع العربي – الاسرائيلي، من حسني الزعيم الى انور السادات.
قرر ميشال كيلو ورفاقه ان يكونوا طليعة تغيير علاقة الثقافة بالمجتمع. ففكرة النهضة التي تبلورت، على شكل فكر توفيقي في مرحلة صعود الحركة القومية، في حاجة الى تأسيس جديد اليوم، يقوم على فكرتي الديموقراطية ورفض الاحتلال والوصاية الأجنبية. وهذه المهمة لا يقوم بها سوى مثقفين يواجهون السجن والمنافي بتفاؤل الارادة وحكمة التحدي.
يعرف ميشال كيلو ان اعوام السجن لم تذهب اهدارا. فلقد كان في سجنه، اكثر حرية من جلاّديه. وهو اليوم يجسد مع رفاقه السجناء، النموذج الحي لما جسّده فرج الله الحلو وحسين مروة ومهدي عامل وسمير قصير وجورج حاوي.
ألم يستشهد سمير قصير لأنه نادى باستقلال لبنان وديموقراطية سوريا وتحرير فلسطين؟
لميشال كيلو ورفاقه تحية حب وتقدير، فبهم يتجدد الأمل، ومن نضالهم نتعلم حكمة الصمود وبلاغة الصبر.
ملحق النهار الثقافي