خطاب أوباما القاهري: نبيذ فاسد في دنان جديدة
صبحي حديدي
في الموقع الرسمي للبيت الأبيض على شبكة الإنترنت، يتذكّر أحد المدوّنين تاريخ العلاقات بين أمريكا والعالم المسلم: الرئيس توماس جيفرسون علّم نفسه اللغة العربية، مستخدماً نسخة من القرآن كان يحفظها في مكتبته الشخصية (هي ذاتها النسخة التي سوف يستخدمها أوّل نائب مسلم في الكونغرس، كيث إليسون، لأداء القسم سنة 2006)، وأوّل من أقام مأدبة إفطار رمضانية، كان ضيفه فيها السفير التونسي؛ والرئيس دوايت أيزنهاور حضر الافتتاح الرسمي للمركز الإسلامي في واشنطن، صيف 1957؛ والرئيس بيل كلينتون كان أوّل من أصدر تهنئة رسمية بحلول شهر رمضان، كما عيّن أوّل سفير أمريكي مسلم (عثمان صدّيقي، سفيراً في فيجي)؛ والرئيس جورج بوش الابن هو الذي نقل نسخة القرآن الكريم من مكتبة جيفرسون الخاصة، إلى مكتبة البيت الأبيض سنة 2005…
ويبدو أنّ المدوّن لم يكن قد استمع، بعد، إلى خطبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في جامعة القاهرة، وإلا لكان بدأ تاريخ العلاقات بين أمريكا والعالم المسلم من هذه الحقيقة الدراماتيكية، التي شدّد عليها أوباما: أوّل اعتراف رسمي بحكومة الولايات المتحدة الأمريكية لم يصدر عن حكومة أوروبية مسيحية، أو شرقية غير مسلمة، بل كان السبق فيه قد انعقد لحكومة المغرب، المسلمة! كذلك فإنّ أوباما شاء المضيّ خطوة أبعد في تشخيص هذا الملفّ، حين اعتبره ـ وإنْ على نحو تضميني، غائم، وغير صريح الصياغة ـ أكثر من مجرّد علاقات ثقافية ـ دينية، لغوية أو رمضانية أو بروتوكولية، فأقرّ أنّ الإسلام جزء من أمريكا، بدلالة وجود سبعة ملايين مسلم، وأكثر من 1200 مسجد هنا وهناك في مختلف الولايات.
وفي جانب كبير من فقرات خطابه، إذا تناولها المرء في ذاتها وحتى دون الأخذ بسياقاتها الخاصة ضمن القضايا السبع الرئيسية، لا يفوت المرء ملاحظة حرص أوباما الشديد على إعطاء صورة مخالفة، أو عكسية نقائضية أحياناً، للخطاب الرسمي الذي اعتمدته الإدارة السابقة، تجاه مسألة العلاقات الأمريكية مع العالم المسلم عموماً، ومسائل الشرق الأوسط بصفة خاصة. ثمة رغبة خفية، وأحياناً جلية تماماً، في توبيخ جورج بوش الابن، ونائبه ديك شيني، ووزير دفاعه السابق دونالد رامسفيلد، وعقائد المحافظين الجدد، أو حتى صمويل هنتنغتون وأطروحته حول صدام الحضارات؛ من جهة أولى؛ وفي الإيحاء، من جهة ثانية، أنّ هذه الإدارة تختلف، أو سوف تخالف، ذلك الماضي الحزين، لاستشراف مستقبل أكثر سعادة، أو أقلّ حزناً. غير أنّ الخطبة، كما توقّع سوانا وتوقعنا، لم تأتِ بأي جديد ـ مفصّل، ملموس، أو انعطافي ـ في ما يخصّ القضية الأكبر التي عكّرت وتعكّر علاقات الولايات المتحدة بالعالم المسلم: انحياز الولايات المتحدة الأعمى للدولة العبرية، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، في انتهاك صارخ دائم لكلّ ما يتشدق به قادة أمريكا أنفسهم حول قرارات الشرعية الدولية، واستهتار بالمصالح الأمريكية الستراتيجية ذاتها (كما اعترف أوباما نفسه، قبل أيام سبقت زيارته إلى المنطقة). وكما أنّ الحديث عن تجميد المستوطنات لم يكن جديداً (وكان جيمس بيكر، وزير الخارجية في إدارة بوش الأب، أشطر فيه بما لا يُقارَن، حين ذكّر حكومة إسحق شامير بأرقام هواتف الخارجية الأمريكية، قائلاً: حين تكونون جديين حول السلام، اتصلوا بنا!)؛ فإنّ إطراء التسامح في الإسلام، وامتداح الشعر العربي والعمارة الإسلامية، لن تصنع أيّ فارق بالقياس إلى ما قال وفعل السابقون من رؤساء أمريكا في الأحقاب الراهنة.
كذلك فإنّ حرص أوباما على طيّ صفحة المبدأ الذي اعتمدته الإدارة السابقة حول فرض الديمقراطية عن طريق التدخّل في شؤون الأمم الأخرى (وهو المبدأ الذي كان خاطئاً في الأصل، ونفاقياً دعاوياً صرفاً لم يُطبّق أيّ من عناصره على أرض الواقع، في أيّ بلد)، هو تحصيل حاصل لحال من الفشل الذريع، وليس انقلاباً سياسياً أو عقائدياً يمكن أن يُشار له بالبنان كإنجاز لهذه الإدارة. ولقد بدا أوباما وكأنه يأخذ الشعب الفلسطيني بجريرة خياره ـ الذي كان ديمقراطياً حرّاً تماماً، بشهادة كلّ المراقبين ـ في تفويض منظمة ‘حماس’ سياسياً، ومنحها أغلبية مطلقة في المجلس التشريعي الفلسطيني. لكنه، بمعزل عن هذه المسألة التي فاحت منها روائح انقلاب الديمقراطيات الغربية على جوهر مبادئها بصدد صندوق الإقتراع ـ تفادى الحديث عن معضلة الخيارات الديمقراطية في ظلّ صعود الإسلام السياسي، وكيف ستتعامل إدارته مع احتمالات تفويض حكومات أخرى إسلامية التوجّه، إذا امتلك الشارع العربي حقّ التصويت الحرّ؟
والحال أنّ الخطاب احتوى على الكثير من تعبئة النبيذ الفاسد، في دنان قديمة عتيقة مكشوفة الطراز، مجرّبة. وقد لا يكون من المبالغة أن يتخيل المرء مواطناً مصرياً يصغي إلى خطاب أوباما القاهري حتى الجملة الأخيرة، ثم يضرب كفاً بكفّ ويردّد ذلك المثل الشعبي الشهير: أسمع كلامك أصدّقك، أشوف أفعالك أستعجب! ذلك لأنّ الأفعال، وأياً كانت المناخات التي تُصنع أو تُصطنع اليوم من حول خلاف إدارة أوباما مع الدولة العبرية بصدد المستوطنات، يصعب كلّ الصعوبة أن تغادر سلسلة العقائد، لكي لا يتحدث المرء عن لائحة ‘القواعد’، التي حكمت سلوك الإدارات الأمريكية السابقة، في ما يخصّ ملفّات الشرق الأوسط، بينها هذه، على سبيل الأمثلة الأبرز:
ـ الرئيس هاري ترومان في عقيدته المسماة باسمه، التي شاعت في الخمسينيات، واستهدفت حماية المصالح الأمريكية شرقي المتوسط، وتأسيس دولة يهودية في فلسطين؛
ـ الرئيس دوايت أيزنهاور في استخدامه حرب السويس، عام 1956، من أجل محق النفوذ الإمبراطوري لكلّ من بريطانيا وفرنسا، وإحلال الإمبراطورية الأمريكية محلّ الجميع، مرّة وإلى الأبد؛
ـ الرئيس ليندون جونسون ونظريته، ابنة الستينيات، حول تكوين تحالف استراتيجي أمريكي ـ إسرائيلي ضدّ التحالف السوفييتي ـ العربي، الذي حاول الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر هندسته، فتلقى ضربة قاصمة في حرب الأيام الستة عام 1967؛
ـ الرئيس ريشارد نيكسون، في عقود السبعينيات، وتوظيف حرب تشرين (أكتوبر) 1973 من أجل فرط التحالف أعلاه، وإعادة مصر إلى الحظيرة؛
ـ الرئيسان جيرالد فورد وجيمي كارتر في ترجمة هذا الخطّ على الأرض (اتفاقيات كامب دافيد)، ومحاولة توسيعه لكي يشمل صيغة تحالف أمريكي ـ إسرائيلي ـ عربي غير معلن، تنخرط فيه الدول العربية ‘المعتدلة’ وتسكت عنه الدول العربية ‘الراديكالية’ التي أخذت تتحسس ارتباك السياسة الخارجية السوفييتية؛
ـ الرئيس رونالد ريغان، في الثمانينيات، وحقن ذلك المشروع التحالفي بأسباب الحياة كلما ساورته عوامل الضعف أو اختلاط الأوراق والمعادلات، خصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران، واندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية؛
ـ الرؤساء جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن، حين كانت سياسات إداراتهم تنويعات تستكمل تلك العقائد في مبادىء قديمة ذات تسميات مستحدثة، مثل ‘النظام الدولي الجديد’، أو ‘الإحتواء المزدوج’، أو ‘الضربة الاستباقية’، أو ‘الشرق الأوسط الجديد’…
وحين يقول أوباما إنّ الرابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل ‘ثقافي’ و’تاريخي’، أي أنه ليس سياسياً ـ أمنياً فقط، فأيّ معنى يتبقى في إلحاحه ـ ضمن فقرة أخرى من خطابه ـ على المساواة في علاقة الأمم ببعضها البعض، وأمام القانون الدولي؟ واستطراداً، هل يمكن أن يطرأ أيّ تغيّر على موقع إسرائيل في ناظر أوباما، فيختلف قيد أنملة عن موقعها الذي تمتعت به، منذ إقامتها، في ناظر جميع رؤساء أمريكا؟ هنا، وفي الاستعادة فائدة دائمة، بعض خصائص ذلك الموقع كما صاغها الصحافي الأمريكي شارلز ريز في حفنة أسئلة: مَنْ هي الدولة التي تنفرد عن جميع دول الشرق الأوسط في امتلاك الأسلحة النووية؟ والتي ترفض التوقيع على الاتفاقيات الدولية لحظر انتاج الأسلحة النووية، بل وتحظر على المنظمات الدولية القيام بأي تفتيش لمنشآتها النووية؟ التي احتلت عسكرياً أراضي ثلاث دول مجاورة، وتواصل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة، متحدية بذلك جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المطالبة بإزالة آثار ذلك العدوان؟ التي ترفض تنفيذ عشرات قرارات مجلس الأمن الدولي، بل وتستخف بها؟ والتي أدانتها محكمة دولية رسمية حول جدار الفصل العنصري، وارتكبت مجازر وحشية وجرائم حرب هنا وهناك، آخرها في غزّة، دون حسيب أو رقيب من ديمقراطيات الغرب العريقة؟
وأخيراً، إذا كان أوباما قد أعلن أنّ محاربة التنميطات المسبقة السلبية عن الإسلام هي بعض مسؤوليته كرئيس للولايات المتحدة، فهل تكفي مهمة كهذه ـ بافتراض أنها حققت أية نسبة من النجاح ـ في إنزال الدولة العبرية عن ذلك المقام الفريد الذي تتنعم به؟ أو تكفي لإحقاق حقوق الفلسطينيين، ليس كما يحلمون بها أو يطمحون إليها، بل كما نصّت عليها تفاهمات ومواثيق مثل ‘خريطة الطريق’، في أقلّ تقدير؟ أو تكفي لكي تنقلب خيارات الولايات المتحدة العتيقة في المنطقة في حماية الديكتاتوريات وأنظمة الإستبداد والفساد، ضماناً لمصالح أمريكا في تأمين النفط وحماية إسرائيل والتواجد العسكري في المنطقة؟ وهل يقول أوباما الصواب، أم يجانبه، حين يقول إن أمريكا لم تذهب إلى أفغانستان عن طريق الصدفة، بل بسبب الضرورة، أي مقتل 3000 بريء على يد منظمة ‘القاعدة’ في نيويورك؟ هنا، أيضاً، ثمة الكثير من الفائدة في العودة إلى ماضي الولايات المتحدة، وإلى إدارة ديمقراطية تحديداً، وإلى زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر، والمهندس الأبرز (حسب معظم التحليلات) وراء توريط السوفييت في أفغانستان، وإطلاق تلك ‘الصناعة الجهادية’ التي أنتجت الطالبان، والأفغان العرب، وأسامة بن لادن، و’القاعدة’، وتتمة المسمّيات والأسماء التي تقضّ مضجع أمريكا اليوم.
ففي حوار شهير نشرته أسبوعية ‘لونوفيل أوبزرفاتور’ الفرنسية سنة 1998، أعترف بريجنسكي بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت إلى خيار التدخّل العسكري، وذلك بعد انكشاف مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان. ولكن، يسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية وما أسفر عنه ذلك الدعم من تدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: ‘ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم، الطالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الهائجين الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة؟’.
وإذا كان بعض هؤلاء ‘الهائجين’ قد تمكنوا من دكّ برجَيْ نيويورك، وقطارات مدريد، ومحطات أنفاق لندن، فإنّ ردّهم إلى ما قبل عقيدة بريجنسكي، أو ‘إعادة تخيّل’ الثقة بين المسلمين وأمريكا، وإطلاق حمائم السلام في سماءات مشتعلة بكلّ أنساق المظالم والمهانات والجرائم والمآسي، هنا وهناك في ‘بلاد أبناء إبراهيم’… يقتضي ما هو أشدّ تعقيداً من مجرّد محاربة التنميطات، أو امتداح فنون الخطّ الإسلامي، أو احترام حقّ المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب، أو اقتباس القرآن الكريم والتلمود والإنجيل…
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –