صفحات ثقافية

بين سيـلـفـيـا وفــروغ: إبداع الكآبة

null
بين الشاعرة الاميركية سيلفيا بلاث التي ترجم الشاعر سامر أبو هواش أخيرا مختارات من شعرها الى العربية بعنوان “أكثر من طريقة لائقة للغرق” لدى دار “الجمل” ومشروع “الكلمة”، وبين الايرانية فروغ فرخزاد التي ترجم خليل علي حيدر مختارات من ديوانها “الاسيرة” عن سلسلة “ابداعات عالمية” في الكويت، ثمة تقاطعات في الحياة والشعر والزواج والموت المأسوي، وفي ألق شعرهما وسواد حياتهما. نقول انهما الصوت الآخر، الصوت الآتي من بلاد الخميني، والصوت الآخر الآتي من بلاد “العم سام” او “الشيطان الأكبر” كما يسمي الخمينيون أميركا. صوت فروغ يخترق الخطاب الايديولوجي و”النووي الايراني”، وصوت سيلفيا يتخطى الخطاب الامبراطوري الاميركي.
فروغ وسيلفيا هما الصوت الانساني الوجودي نقرأ من آثارهما حلو الشعر، ونستنبط من عباراتهما مرّ الحياة وجحيمها وطيفها. من عنوان كتاب سيلفيا بلاث نستطيع تأويل حياة هذه الشاعرة “الغريبة” التي عكست من خلال علاقتها بالموت مرايا الحياة، فهي التي تقول في قصيدتها “السيدة اليعازر”: “الموت فن ككل شيء آخر/ اتقنه بشكل استثنائي”. تكتب في “ثلاث نساء”: “إني متوحدة كالعشب. ما هذا الذي افتقده؟/ هل أعثر عليه يوماً، أياً يكن؟/”، التوحد والبحث الدائم، تحول مرثية طويلة تتسرب عبر الكثير من قصائد بلاث، حيث اعادة تركيبة الأب الذي لم تعرفه كثيرا، والذي اصبح غيابه رمزا لغياب الحياة نفسها، لحتمية لا شفاء منها، ليتحول هذا الاب احيانا  صورة الموت التي بقدر ما تجد الشاعرة نفسها منجذبة اليها، بقدر ما تخشاها وتريد قتلها. وفي قصيدتها “الكترا على درب الأضاليا”، تكشف عن تأثير موت أبيها، وهي في الثامنة من العمر، على مزاجها أو شيطانها الشعري الذي يمزج الثلج بالنار: “كأنك لم تكُ يوماً/ كأني جئت إلى هذا العالم/ من رحم أمّي وحدها:/ سريرها الواسع ارتدى ثوب القداسة… متّ كأي رجل/ فكيف لي أن أشيخ الآن؟ أنا شبح انتحار شائن/… كان حبّي هو الذي قاد كلينا إلى الموت”.
عانت سيلفيا منذ نشأتها أزمات نفسية ونوبات عصبيّة، وعانت حبّها لهيوز “الحبيب الخائن”، واختارت أن تضع حدّاً للمرايا المتعدّدة لمعاناتها: “يشبهني أكثر أن أستلقي/ وأخوض مع السماء محادثةً مفتوحة،/ وسأكون مفيدة في نومي النهائي:/ عندئذ قد تلمسني الأشجار مرّة،/ وتجد الأزهار بعض الوقت لي”.
ليس علينا أن نقف طويلا عند موت الشاعرة او انتحارها، وليس علينا ان نجعل شعرها في اسر انتحارها الذائع الصيت، فلها من الشعر ما هو اقوى من صوت الانتحار وإن كان الحديث عن الانتحار هو ذروة الشعر، وإن تعاملت هي مع الموت في اعتباره “فنا ككل شيء”.
من عنوان كتاب فروغ فرخزاد، نعرف الحياة العالقة وراء القيود. على ان مجرد استعراض عناوين دواوينها او افلامها القصيرة يمكن ان يعطي فكرة عن عالمها المتوتر المتراكم بين الوجع: الاسيرة، حائط، عصيان، نار ما، البيت الاسود. تُظهر فروغ في “الاسيرة” ديناميتها الخاصة، فقصائد الديوان كلّها ممزوجة بالحرارة والإثارة الداخلية، والهيجان والمشاعر الحادة نفسها. تبحث الشاعرة عن شعور وذكرى، عن ألم وأمل ما، تحرك بهما روحها وقلبها. قصائد رقيقة هادئة ذات نبرة خافتة تستبطن الذات اكثر مما تقرأ الواقع وصراعاته، لكنها جريئة في الاهتمام بتفاصيل حياة الشاعرة، التي لا تختلف كثيراً عن حياة نساء من جيلها يعشن الواقع نفسه. تقول في قصيدة “بين يدي الله”: “أنتَ وحدك المدرك وأنت تعرف/ أسرار تلك الخطيئة الأولى/ أنت وحدك القادر على أن تمنح/ روحي ذلك الصفاء الأول/ آه… رباه… ماذا أقول/ إنني متعبة معذبة من جسدي هذا/ أقف كل ليلة على أعتاب عظمتك/ في انتظار جسد آخر”.
الموت حاضر بقوة في حياة سيلفيا بلاث وكذلك في حياة فروغ فرخزاد التي قضت بحادث سير عام 1967. فهي كانت شاعرة متشائمة، تنبأت بموتها المبكر، من دون أن يساورها شك ولو لمرة في أنها ستعيش سعيدة يوماً ما. وكأن القدر وافقها في تطلعاتها وآمالها، فأخذها إلى التراب قبل أن تتم عامها الثاني والثلاثين. لكنها، على ما يبدو، كانت سعيدة بموتها، لأنها كتبت قبل أن ترحل بفترة قصيرة بأنها وجدت نفسها أخيراً، وهذا ما كانت تبحث عنه طوال حياتها. قبل وفاتها، كتبت فرخزاد قصيدة لابنها كاميار الذي ربما علمت أنها لن تتمكّن من تربيته، تقول له فيها: “هذه آخر التنويمات على مهدك،/ لعلّ الصوت المتوحّش لصرختي/ صدى في سماء شبابك./ ليكنْ ظلي التائه منفصلاً وبعيداً عن ظلك/ وإذا، يوماً ما، التقينا ثانيةً/ فلن يفصل ما بيننا إلا الله./ أعلمُ أن صراعي لم يكن سهلاً أمام هؤلاء الزهّاد الأتقياء الكذبة/ إن مدينتي ومدينتك،/ أيْ طفلي الحلوَ،/ كانت على الدوام عشاً للشيطان./ سيجيء يوم ترتعش فيه عيناك بحزن أمام هذه الأغنية الموجعة/ ستفتش عني في كلماتي/ قائلاً لنفسك:/ هذه كانت أمي…”.
تنبئ اشعار فروغ بمثل ما انتهت به حياتها، الى درجة اننا نقرأ سطورا في واحدة من رسائلها الى صديقها القاص الايراني ابراهيم كلستاني تقول فيها: “سعيدة انا، لأن شعري صار ابيض وجبيني تغضن وانعقدت بين حاجبي تجعيدتان كبيرتان رسختا على بشرتي سعادتي هي اني لم اعد حالمة. قريبا سأبلغ الثانية والثلاثين، صحيح ان الـ 32 عاما هي حياتي التي تركتها خلفي واتممتها، لكن ما يشفع لي هو انني وجدت فيها نفسي”.
الزواج أيضا يحضر بقوة في شعر فروغ، فقد تزوجت مبكراً للتحرر من سلطة الأب، فكان زواجاً فاشلاً خرجت منه، مع ولدها كاميار بالطلاق، وهذا ما ألمحت إليه في قصيدة “البيت المهجور” التي نظمتها في طهران في ربيع عام 1955. أما سبب فشل زواجها وطلبها الطلاق فيظن بعض الكتّاب أنه عائد الى أن العلاقة بين الزوجين وصلت الى حيث لم تعد الشاعرة في حاجة الى أن تحتمل طباع زوجها الأبوية، فشعرت أن عليها الانطلاق بمفردها. عاشت فرخزاد لفترة وجيزة في منزل والديها في طهران عقب طلاقها من شابور. ثم تشاجرت مع أبيها، الذي طردها من المنزل، لأنها بحسب رأيه، ألحقت العار بالعائلة. لم توفَّق فرخزاد في حياتها الاجتماعية، فقد كان والدها ضابطاً عسكرياً تغلّب واقعه المهني على كل نوازع ثقافية قد تنميها في نفسه مكتبته العامرة بكتب الأدب، والتي التهمت فرخزاد كثيراً منها، وخصوصاً دواوين الشعر. كان طبيعياً أن تكثر الشائعات حول حياة فرخزاد الخاصة بعد طلاقها، بسبب الصراحة التي تضمّنتها أشعارها، ولأن عدداً من الأدباء الرجال كان يدّعي إقامة علاقات عاطفية معها. وقد ارتبطت فعلاً بعلاقة صداقة بالشاعر نادر بور، قبل أن تتعرف الى الكاتب القصصي إبراهيم كلستاني.
الطريف أن الذين حاربوا فروغ هم الذين انبروا لمديحها عندما ماتت ودافعوا عن سعيها إلى الحرية وتمردها على الظلم واعترفوا بفرادتها الشعرية وبمكانتها الخاصة في الشعر الإيراني. ما إن طالع القرّاء والنقاد في طهران “الأسيرة” في طبعته حتى ثارت زوبعة من الانتقادات والردود حوله، وتبارت تيارات المجتمع في مهاجمة الشاعرة وديوانها أو الدفاع عنهما. وأتاح الجدال فرصة استفاد منها المثقفون والاجتماعيون، لمناقشة أوضاع المرأة الإيرانية وعلاقتها بالأدب والشعر وبالتحولات الاجتماعية وحقوقها المختلفة، وخصوصاً بعدما نفدت الطبعة الأولى من الديوان وأعيدت طباعته.
يقول الناقد الإيراني شمش لنكرودي: “لم يخلُ سوى القليل من الصحف من إشارة ما الى فروغ”. لقد اعتقد بعض القراء والنقاد عندما صدر “الأسيرة”، أن مثل هذه الأشعار قد تفسد المجتمع الإيراني. واستمرت وجهة النظر هذه الى الثمانينات حين أوقفت السلطات الخمينية صاحب أكبر دار نشر بطهران عام 1981، واتهمته بـ”جريمة” نشر أعمال فرخزاد. ولعل ما كتبته مجلة “سُخن” الايرانية بعد موت فروغ بأيام فقط كان نموذجاً معبراً عن رد الفعل الجماعي للاوساط الايرانية على تلك الخسارة بقولها: “كانت فروغ اول كاتبة في الادب الفارسي تعبر عن المشاعر والاحاسيس الرومنطيقية في قصائدها بأسلوب تميز بالصراحة والاناقة، وعليه فقد استلهمت فصلا جديدا في الشعر الفارسي. قبلها كانت الكاتبات يعبّرن عن مشاعر عامة لا تنطوي على خصائص انثوية مميزة. لذا جاء موتها المبكر في وقت لا تزال فيه قادرة على ابتداع اعمال مدهشة مدعاة لأقصى مشاعر الاسف والأسى”.

الموت فن
حياة سيلفيا بلاث الزوجية كانت اشد قسوة من حياة فروغ فرخزاد، فهي من اكثر شاعرات القرن العشرين شهرة، وقد اثارت بعد رحيلها، وجزئيا بسبب طريقة رحيلها، اهتماما شعبيا، ونقديا حتى، اكبر من الذي اثارته في حياتها، وخصوصا قصتها مع تيد هيوز. نعرف ذلك من يومياتها الصارخة، التي تكشف عن ميولها الانتحارية ورغبتها العارمة في الموت الذي وصفته في واحدة من قصائدها بأنه شيء يشبه الفن: “الموت فن…”. كما تسرد وقائع احتجازها في مصحة للأمراض النفسية ومحاولتها الانتحار وهي في العشرين من عمرها قبل أن تتعرف إلى الشاعر تيد هيوز، أثناء دراستهما معاً في جامعة كمبريدج البريطانية، وتصبح زوجة له.
تقول بلاث في إحدى هذه اليوميات: “العيش مع تيد شبيه بالاستماع إلى حكاية سرمدية. إن عقله لامع وخياله عظيم” (22 تموز 1956). لكنها بعد يوم واحد كتبت: “أشعر أنني وحيدة… الألم يعتصرني حاداً مثل سكين، والدم الأسود يصرخ في داخلي”. ووصفت في يومية أخرى علاقتها بهيوز قائلة: “نحن الاثنان غريبان لا يكلم أحدهما الآخر. وعندما نعود من نزهتنا القصيرة أشعر بالمرض ينمو  ويكبر، بنومنا وحيدين، وبالاستيقاظ ذي الطعم الحامض”. وفي اليوميات: “إلهي، أهذا هو كل شيء، تردُّدُ صدى الضحكات والدموع المنسكبة في الدهليز؟ تبجيلُ الذات والاشمئزاز منها؟ التألق والشعور بالقرف؟”. توضح المقاطع السابقة من يوميات سيلفيا بلاث الحال النفسية غير المستقرة التي كانت تعانيها، كما تكشف في الوقت نفسه عن الظلم الذي لحق بهيوز إثر وفاتها منتحرة بالغاز عام 1963، مما ألّب عليه عدداً من الجمعيات النسوية والنسويات والنسويين الذين اتهموه بأنه كان سبباً في انتحارها، وتظاهروا ضده في الكثير من الأمسيات الشعرية التي كان يقيمها، كما قاموا بمحو اسمه عن قبرها أكثر من مرة. من المثير للجدال أن زوجها عمل بعد موتها على التخلص من بعض أعمالها التي وجد أنها قد تمس بسمعته الشخصية وبأولادها في المستقبل.
لقد أصبحت سيلفيا بلاث مثالاً للمرأة – الضحية، فيما أصبح تيد هيوز مثالاً للرجل – المضطهد غير الوفي وكاره النساء. ورأت إحدى الناقدات أن بلاث من أوائل الشاعرات اللواتي تنبأن بمولد النسوية. فمع مولد الحركة النسائية في أوائل السبعينات، بدأت الناقدات بالتركيز على وعي الشاعرة والكاتبة النسوي في خصوص البنية الأبوية للمجتمع وللأسرة. وتشير بلاث في قصتها القصيرة هذه بعنوان “صندوق التمني”، إلى أزمة تأكيد الهوية الشخصية والصعوبات التي تواجهها المرأة الخلاّقة التي لا تستطيع أن تحلم أحلاماً كبيرة متنوعة، وهي سجينة عالم ذكوري يفرض قيوداً متينة لا على حركتها فحسب، بل على أحلامها وآمالها التي ينبغي ألا تتجاوز إطار الزواج والمنزل الذي يقضي على خيالها الخصب الذي طالما كانت تتمتع به في طفولتها. فهي لا ترى أمامها سوى الكراسي والطاولات، ولذلك فأحلامها اليومية لا تتجاوز حدود المنزل”. وترمز بلاث في هذه القصة إلى معاناة المرأة الخلاّقة والحالمة في عالم يحرر الرجال ويسمح لهم بتحقيق أمنياتهم، بينما يكبل النساء ويفرض على أحلامهن قيوداً صارمة، فينتهي بهن المطاف بأن يفقدن أحلامهن وخيالهن الخصب إلى الأبد ولا يجدن لهن مكاناً في عالم الفن والأدب.‏
ومع أن هيوز آثر طوال 35 عاماً (1963 – 1998) الصمت حيال الاتهامات التي وجهتها اليه المؤسسة الأدبية البريطانية، وكذلك الأوساط النسوية، في ما يتعلق بوفاة بلاث، إلا أنه خرج عن صمته في العام الأخير من حياته حين نشر مجموعته الشعرية التي كرسها لذكرى سيلفيا بلاث. في إحدى قصائد “رسائل عيد الميلاد” (ترجمت ضمن سلسلة ابداعات عالمية (1998) يتذكر هيوز سيلفيا بلاث بوصفها عروساً خجولة: “بثوبك الصوفي الزهري اللون/ وقبل أن يلطخ أيُ شيء أيَ شيء / وقفتِ على المذبح / وكان شكلك مختلفاً / ذاتَ قوام أنحف، جديدةً وعارية،/ غصناً مزهراً مترنحاً من الليلك الريّا / كنت ترتجفين وتبكين من البهجة،/ كنت بعمق المحيطات/ يحرسك الله”. وفي قصيدة أخرى من “رسائل عيد الميلاد” كتب هيوز عن لقائه الأول بسيلفيا بلاث: “كنت نحيلة ولينة الأعطاف وناعمة كسمكة/ كنت عالماً جديداً، عالمي الجديد/ إذاً هذه هي أميركا، فصرخت مندهشاً:/ أميركا، أميركا، ما أجملك”.
عاشت سيلفيا وفروغ ممزقتين بين الكلمات، الاولى وصفها تيد هيوز قائلا “نظرة عينيها تذكّرني بلوحات الطبيعة الميتة… طبيعة مهجورة”. والثانية كانت تعتقد ان “من الممكن اخذ الحديقة الى المستشفى”، لأن “قلب الحديقة تورم تحت الشمس/ قلب الحديقة ينزف، بهدوء، ذكريات خضراء”.
هيفاء شدياق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى