صنف آخر من المثقفين
عبيدو باشا
ليس التريض مقتصراً على علوم الفلك والبصريات الدارجة في الحياة الثقافية اللبنانية. اتسع مجال التريض منذ سنوات. أضحى مجال التريض مجال المثقفين اللبنانيين الذي هاموا شوقاً – قبل ذلك – بكل ما له علاقة بالثورات والانتفاضات والقضايا. تريضهم تريض القافز من ضفة الى ضفة. اضحوا في الفترة الاخيرة – من جراء ذلك – على علاقة واسعة بكل ما له علاقة بالمحن.
لعلهم باتوا يحتقرون ما قام به غيفارا بعدما مجدوه طويلاً. ولعلهم أضحوا من ألدّ أعداء الثورة الكوبية القديمة. ولن يعوزهم بعد ان يسمعوا ببريشت أو بسكاتور أو ماير خولد أو ما له علاقة بالرواية الجديدة أو بمعارض الانشاءات في بيروت والعالم، بعدما روجوا لكل جديد بالقديم. إنهم أصحاب فلسفة طبيعية في الراهن، نقلتهم من متن كتاب الى آخر. نقلتهم من متن الى متن. لا فرق بين المتنين عند المثقفين طالما ان المتنين هما متنا سلطة.
تدورت زوايا علاقة المثقف بالسلطة. تتجلى الحقيقة هذه، بوضوح تام عند تأملنا مسيرة بعض المثقفين، وبدون تأمل. خطوا في انحيازهم هذا منذ نهاية الحرب الاهلية اللبنانية في طبعتها الاخيرة. باتوا براغماتيين أكثر. يعرفون من أين تؤكل الكتف بلحمها الحي أو مملحاً بالأطايب. ليس بالملح وحده. سقطت في ميكانيكاهم الجديدة هذه شواهدهم المغبرة. حُفر على الاخيرة عداؤهم للسلطة بالاطلاق. انجزوا المرحلة هذه، قبل أن ينتقلوا الى المرحلة الجديدة. مرحلة الالتحاق الكلي بالسلطة. ولبنان سلطات متنازعة على السلطة. اصبحوا، او امسوا، أبناء السلطة، بعد تمردهم عليها باستمرار. لا صلة لهم بعد بالحلم الافلاطوني او بمدينة الفارابي او بالحلم الفيتاغوري.
لن يأبهوا بعد بالحضارة اليونانية ولا بأرسطو ولا بابن الهيثم او البيروني. لأن حضارتهم الراهنة حضارة ركوب الموجة فوق الماء الطائفي والمذهبي. سقطت في طرقهم – بل انتهت – اوصاف المثقف. لا مثقف عضوياً بعد. ولا هامشياً. انه ما هو عليه. ونقطة على السطر. الامثلة كثيرة. غير اننا لن نخوض في مجال الاسماء. حيث ان المثقفين هم مثقف واحد تقريباً في لبنان او في بيروت بالتحديد. لا علامات على اختلافهم، وهم او جلّهم يروجون لهذا الزعيم او ذاك. يرفعون هذا الزعيم او ذاك. او يشتمون هذا الزعيم او ذاك، في مصلحة هذا الزعيم او ذاك. هذه ارضهم الجديدة. هذه سماؤهم الجديدة. لذلك قلّت الترجمات. حيث لم يعودوا بعد في حاجة الى أفكار الآخرين الجديدة، لكي يختبروها في حيواتهم السديمية.
تتواتر الاخبار من جراء ذلك عن بطلان العلاقات بين مثقف وآخر. لقد استنفدت لجنة الحوار المسيحي – الاسلامي، وهي لجنة متواضعة الدور وكاريكاتوريته، آخر حواشي المثقف في متن السلطة. لم يعد صاحب خيار العقل الخالص والانسنة ورفض الفكر الارسطوي والمناهج الرياضية الجامدة وهو يراشق الآخر بالألسن او الأيدي في المؤسسات العامة والخاصة وفي الصحف. لا خوف عليهم، أبطال المرحلة الجديدة وكل المراحل، لأنهم غالباً ما استندوا الى خطط التناسب والهندسة المعمارية في العلاقات القائمة بينهم. الشيوعي القديم صار امبريالياً بالوصفات الاميركية الراهنة. والامبريالي القديم صار اصولياً لا يهمّه سوى التطابق بين الاعداد والاشكال.
استطيع أن ابشر بأن المثقفين اللبنانيين شفوا في الفترة الاخيرة من “سم الفلسفة” ومن “سم العلمانية” ومن “سم الانفتاح والتواصل والتواضع”. لن يبحثوا عمن يحبهم وعمن يحبون وهم يستبدلون أقدامهم بأقدام الارانب. توفى حسن قبيسي نفسه منذ فترة قصيرة لأنه تحسس على الارجح ما سوف تؤول اليه أحوال المثقفين بعد الذي آلت اليه. رعبه من صورة المثقف، قتله. وهي صورة ترصد المتناسل الرياضي دائماً في قصور السلطة او فوق منصاتها. لا صيغ مختلفة لأشكال المثقفين.
انتهى عهد ذلك. اصبح من الكماليات التفاضلية خارج حسابات الاحتمالات. انهم خارج الشوط الخاص بالعلم الحديث والمعاصر. سقطت تواريخ الميلاد النسبية لديهم. باتت تواريخ ميلادهم تاريخاً واحداً، هو تاريخ التعنت.
اخطر ما في الراهن اللبناني من وجهة نظر المثقفين اللبنانيين، سقوط الاطاريح الخاصة باحتمال وجود اكوان ممتلئة وعديدة. وسقوط الشياطين، حيث ان سقوطهم حملهم الى لعب ادوارهم. انقلبت المعادلة من جراء ذلك الى: المثقفون هم الشياطين. رشقنا احدهم بمقالة منذ مدة تشير الى أن القتلى في العراق هم من الطائفة الشيعية. لا تمايز لديه بين شيعي مقاوم للاحتلال، وشيعي ملتحق. يرشقنا آخرون بكلامين متناقضين بين مذهبين ضخّم تقاتلهما بطريقة هائلة، على ألسنة المثقفين وبأدواتهم. وسوف تصطاد فئة من المسيحيين والمسلمين كل المسيحيين او بعضهم في الحملات الصليبية. وقد ترشقنا فئة ثالثة بكلام على “شهداء القاعدة” و”طالبان” بصفة هؤلاء من السنة. انه عالم اليوم، عالم متجانس ومسطح في غياب دور المثقف الرافض لـ”الواقع الكلي” و”الوقائع الكلية”. لم تعد بيروت أم المساحات المشتركة. وهي مساحات عمارة وديموغرافيا وجغرافيا وفكر وثقافة وسياسية. انها مدينة العدم. في الأيام الحزينة هذه، تهلل لفريق وتناكف آخر. وبالعكس، وتقود الى اسوأ النظريات والتقلبات الخاصة بالعدم ذاته.
آلية قديمة لزمن جديد. نهاية زمن الحداثة وما بعد الحداثة والاكسترا حداثة مع مثقفي الأموال العامة والتسلق على المواقع والى المواقع، عبر القربى الشخصية أو الدينية او الطائفية أو المذهبية. سوبر حداثة مالية. سوبر حداثة بالنطح. تراجيديا مكوث في مطارح خطرة وحساسة، لاهوتانية بكل المقاييس. تجد المواقف هذه تفاسيرها في الذكاء المشغول بسطحية غبي درجة رابعة او غبي خشب فورمايكا. نشاط ذو مرام دنيوية عابرة لن تنتهي عند اللهو والتسلية. لا تفكير جاداً ولا وقوف متأملاً، ما لا يحمل الى اقحام الحقيقة بكل ما هو نهائي ومطلق. النهائي اكثر. وهو نهائي نهاية كل محارب لكل بداية. وهذه سمة رفاقنا القدامى واصحابنا القدامى، سوى الذين غادروا او هاجروا يائسين الى بلاد الله.
ليس أشرس من صورة “مثقف” غائب لأنه منفصل ومتعال ولا مجرد. كائن خرافي غبي، يتراجع عن تجربته، يتأخر عن تجربته، ينكر تجربته في مصلحة الصراع الداخلي ومباشرته ومعايشته. لم يعد شاهداً ولا كائناً حقيقياً او متجسداً. انه وثني حلولي، وثني في حلوله الجديدة، وحلولي في وثنيته. الطريق التي يسلكها مخجلة. بفضلها، تبتسر الروح، تقود الأمة الى مزالق ومهاو خطيرة. تشوّه كل شيء وتختزل الشيء الى مجرد ضرورة بالحسابات الماتيماتيكية الصبيانية.
مثقفو اليوم يقودون التقاتل في لبنان، بغطرسة وانحدارية عنصرية هائلة. شيء خارج التصور ان ترصد مثقفا يقود سياسيا الى ترويع المواطنين. آخر المشاهد المختزنة لديَّ: مثقف يعاني عقد نص يروّج للعنصرية. ويقود سياسياً الى حرب ليست حرباً والى أن يخلع عن نفسه وناسه قصص التوحيد والوحدة والواحدية لمصلحة تواترات وتوترات وتقلبات ارادة القوة. ارادة القوة بلا قوة. ثم ان قوة تمارس على شقيق او صديق ليست قوة. بل منزلة دون انسانية بلا تردد.
السفير