أربع قصص بحجم حبّة كرز
علي جازو
غمزاتُ القاضي، المختارُ وكَسْرُ الظَّهر
إنه يغمزُ بعينٍ واحدة. عينه سوداء مكحلة، يبتسمُ بها و يغمزُ في الآن نفسه. قاضٍ، أشبَه برياضي موفور الصحة أو فارس باكستاني شهير، يغمز لصبيّةٍ ريفية شاحبة. رافق الأبُ ابنتَهُ القاصرَ، فهي تحتاج موافقته مذيَّلَةً بإذن القاضي الشرعي حتى يُعقَد نكاحها. نادراً ما يجرؤ المرء على الدخول إلى غرفة المحكمة. إنها مكان عقد الجلسات حيث يُفتَحُ قوسُ العدالة ليفصل الخير عن الشر. العدل، نعم أتذكَّرُ بفرح كبير، قالها جوستنيان: إنه تسديدُ الالتزام على كل حال. ضوء نهار صيفي يتسرب ثقيلاً، خلف كرسي من الخيزران، عبر ستارة بيضاء سميكة ومخرمة بزهور حمراء. كل زهرة من خمس بتلات متطاولة مبسوطة مستوية الحواف وفي قلبها كرة سوداء نافرة. حول الكرة تطريز متكسر بخيط في لون العشب. يلقي تسرُّبُ الضوء بقعةً خافتة ساكنة على كتفي القاضي، وهو في كَدِّهِ مواصلةَ التبسُّمِ المبالَغ به وتعزيز البسمات بغمزاتٍ صغيرة متلاحقة. الصبيَّةُ مذهولةً خجلة تكاد تضحَكُ. الأبُ..، ينظر الأبُ في الحائط المقابل، على يمين القاضي، كأنه دون دراية منه، أو لعمْقِ بصيرةٍ مفقودة، يتحاشى النظرَ في وجهه. أ هذا جزاءُ الفكرةِ العفنة عن الالتزام، ضرورة الاحترام الجبان، وحفظ هيبة القوانين والشرائع؟ خارج المحكمة، أحد المخاتير يرافق أحد المحامين: ألا تدري بما يقوم به المختارُ ذو الظَّهْر الأعوج المكسور؟ الحقَّ هو الذي يكسرُ ظهورَنا. يُمَشِّي معاملةَ زواج أجنبيَّةٍ (يقصدُ المختارُ الأكرادَ المقيدين كأجانب في سجلات الأحوال المدنية السورية) من مواطن أصيل بمبلغ ضئيل. الأسوأ أن موظفي المحكمة يتواطأون معه. شغْلُهم مخالف للقانون. ألستَ محامياً؟! أكمَلَ بتوسُّلٍ وانزعاجٍ مخاطباً في نفسه مهنةَ المخترة الممنوحة من وزارة الداخلية لأناس على الأغلب لا يستحقونها: ما عدنا قادرين على الاستفادة من هكذا عمل.
أين أختي
انبثقَتْ فجأةً، كما لو أنها قدمَتْ من بلاد بعيدة! قميصٌ أبيض نقي ـ ثلجٌ لم يمس، مع بنطال أسود ضيّقٍ تماوجَ وضوءَ النهار الضئيل. التصاقٌ مثل دمغة أخذَتْ من تطاول قامتها الخفّةَ والبهجةَ معاً.
سألَتْني: أهذا ما يليق بي؟
حرْتُ أيَّ ردٍ يناسب لهفتَها ويجاري سرعةَ حفيف نظراتها.
تجرِّبُ الأختُ قطعتين من لباسٍ حديث اشترتهما من أرض دمشق النائية. أتكون الملابسُ الآلةَ الجديدة التي بدأت تسيطرُ على المشاعر! إنها مشغولةٌ بضيوف المساء الآتي من خلف غيوم الظهيرة اللجوجة المتفرقة الرطبة. أهي موشكةٌ تنافِسُ الضيوفَ في إظهار بهائها الرقيق؟ ضيوفٌ ستلهيهم أطباقُ الفواكه وصحون البسكويت المنزلي الصغيرة بزجاجها العسلي الشفاف. أتخيَّلُ القهقهاتِ كما لو أنها تنْبُتُ من أكتافهم العريضة لا من أفواههم المشغولة بأنياب الحاجات البغيضة. كم يشبهون أولئك الذين أنهَوْا حياتَهم للتوّ. آنَ لهم أخيراً إبداءُ الرأي في كل شيء، من باكستان وأفغانستان وسوريا وكردستان حتى آخر أواخر أرض الأحلام. ما تسعى إليه الأختُ ليس أبعدَ مما يتوقعون: النيْلُ الخاطفُ من أسبقيَّتهم بالمعرفة وتبدُّلِ الأحوال. ربما تكون الملابس الشكل المرئي من رغبة متكتمة وعميقة ومترددة. ضربٌ من الاستحواذ الخفيِّ على مشاعر أناسٍ يلهبهم حقاً من يقدر أن يقلعَ سِنَّاً من أسنان لحم خيالهم المترهل.
أتكونُ الملابس محلَّ تبادلٍ سري في الأماكن المعهودة للنظر والتفكير وطرق إبداء الرأي. تبادُلُ الأفكار الصامت والصعب. التبادلُ الذي لا يخلف شيئاً وراءه عدا المزيد من التشوش والاضطراب. أهو من جرَّاء التسرع في الحكم على شيء جديد لم يُرَ من قبل؟ كرَّرَتْ الأختُ، بإلحاح أعادَتْ سؤالها:
ـ أ هذا يناسبني، أم الآخر؟
كساني سؤالها قلقاً، وتمنيتُ لو تطوي وجهَها عني. خجلتُ، أخفضْتُ رأسي. كأنني سأعثرُ على جوابِ عَيْني المحتارة بين أصابع قدمي. كأنني سأرفعَ الجوابَ الميت من عمق أرض خائرة. قلتُ: أجَلْ. الأبيضُ هو الأفضلُ. هذا ما يناسبكِ حقاً. وفي اللحظة نفسها صرختُ داخل قلبي:
ـ آه..! يا أختُ: لستُ أنا من يجزم بهكذا احتمال.
الصَّفْعةُ والهديَّةُ إلى خُناف شمدين (4سنوات)
إنها طفلةٌ. طفلة بوجه حليبي متورد، وعينين خجولتين. إنها تتعثر بالكلام، لكنها لا تتكلم إلا مع رفيقاتها! مساءً دعوتها إلى حجرتي. فوجئت بقبولها الدعوة! حقاً فوجئتُ وفرحتُ حدّ أنني تسرعت في الحديث معها. لكأنها خشيَتْ ضربةً مني! لقد تذكَّرتْ بغتة كلَّ صور الصفع والتعنيف والزجر والصراخ. ما كانت تجرؤ على النظر في وجهي. يا لكآبتي وخيبتي حينها! ما كانت الطفلة لتجرؤ فتنظر إليّ!! عيناها مثبتتان على موكيت الأرضية المجعد. نظراتها جدُّ خفيضة ومتكتمة ومنحبسة. حسبتُها حوصرتْ بالغرفة المضاءة والموكيت الأخضر المجعد والدعوة غير المتوقعة قط!! عينان مترقبتان خائفتان باردتان مثل رجاء مسحوق، مثل طيف تلويحة مرير! بدا من الصعوبة أن ترفع عينيها نحوي! ثقلٌ مثل عجزٍ يضغط على جفنيها العلويتين. فاجأتُها حين أهديتُها كرةَ دحْلٍ شديدة الصغر! كرة شفافة صغيرة وملساء، بخفة مثل ريشة بلا وزن، استقرتْ داخل انبساط كفها اليسرى. ما كانت كفُّها تتوقع أبداً أن تتلقى هدية في هذه الأمسية الصامتة! كانت كفُّها، مثل وجنتيها المظللتين بمقاطع ناعمة من رموشها الطويلة ، تتوقَّعُ صفعةً أو صراخاً هائجاً!!
لثَّةُ العريف ناجي إلى جنود جبل الشجرة
ضُرِبَ العريفُ المجنَّد نهاد ناجي. ضربه العقيدُ السمين ذو الوجه اللاحم المحمَرّ، والعينين الجاحظتين، والشارب الأبيض العريض . تفجَّرَ الدمُ في لثة العريف المسكين، وأحرق الألمُ باطنَ شفته السفلى. ظلٌّ صخريٌّ غطَّى الهواء المغمور بلعنات العقيد المزبدة. عضَّ الغيظُ لسانَ الجندي المعقودة داخل فمه، واختنق لونُ الصباح في عينيه الدامعتين. بعد الحادث بخمسة أشهر، حين سُرِّح من الخدمة الإجبارية، طفحتْ عيناه بابتسامة طويلة ساكنة. كان قميصه أبيض نظيفاً، و أثَرُ خط المكواة البارز يلمعُ بثباتٍ على طول سرواله الجينز. بتلك الثياب- ثياب العودة الأخيرة إلى منزل العائلة- تلاقى الأثرُ المتناغم لحرارة جسمه الخفية مع وضوح شوقٍ هادئ. شوقٌ في مزاج أنفاس الربيع . خلف هذه العلامات السعيدة تراكمت عتمةٌ جامدة تطبق على روحه. لطخةٌ ثقيلة التصقتْ بدمه والوجهِ الآخر المنزوي خلف وجهه. عارٌ لا يمكن نزعه عن وجهٍ هارب، تقلّصَ وتحجَّرَ في دم اللثة وحُرْقة باطن الشفة السفلى. كان لوجه العريف المسرَّح خزيٌ ضامرٌ عنيفٌ، عصْفُ قسوةٍ سريةٍ لا توقفها كلماتُ الوداع بانفعالها المرتبك، ولا تمنياتُ أصدقاء طيبةٌ يعدِمُها- بعد حين- انهيارُ الأيام القادمة…