إدوارد سعيد والسؤال العلماني
صبحي حديدي
كنتُ، الأسبوع الماضي، ضيف ‘رابطة الإعلاميين العرب’ في برلين، حيث تشرّفت بإلقاء محاضرة عن حياة وأعمال الناقد والمفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، أتيح لي في نهايتها، وعبر طائفة واسعة من الأسئلة التي طرحها الحضور، أن أتعلّم المزيد عن جانب مركزي في شخصية الراحل الكبير: أنه كان، ويظلّ، رجل الأسئلة الجدلية المفتوحة، وليس الإجابات القارّة المغلقة؛ وباعث القلق والتشكك والبحث، وليس حامل الإستقرار والطمأنينة واليقين… تماماً كما أراد لنفسه من نفسه، وأراد لها من الآخرين.
ذلك الحوار البرليني، على اختلاف هواجس المشاركين فيه، بدا لي فصلاً جديداً من سيرورة حوارية اكتنفت عمل سعيد على الدوام، منذ كتاباته السجالية، والإشكالية، المبكّرة وحتى أيامنا هذه، بعد مرور ستّ سنوات على رحيله الفاجع. الدليل الأحدث عهداً هو العمل المميّز الذي حرّره اثنان من كبار أعلام النظرية النقدية المعاصرة، و. ج. ت. ميتشل وهومي بابا، وصدر بعنوان ‘إدوارد سعيد: متابعة الحديث’، لكي يعكس روحية ‘محادثة انقطعت، وزيارة لها تتمة، ورسالة تنتظر جواباً، وسؤال معلّق في الفضاء’، كما جاء في تعريف الناشر (مطبعة جامعة شيكاغو). وللمرء أن يدرك طبيعة الحوار الذي يتمّ استئنافه، إذا استعرض لائحة المشاركين فيه، طيّ صفحات الكتاب: ليلى أبو لغد، دانييل بيرنبويم، عقيل بلغرامي، بول بوفيه، تيموثي برينان، نوام شومسكي، راناجيت جحا، هاري هاروتينيان، ساري مقدسي، عامر مفتي، روجر أوين، غيان براكاش، دان رابينوفيتز، جاكلين روز، وغاياتري سبيفاك.
وفي مطلع الثمانينيات كان سعيد قد طوّر سلسلة مفاهيم جديدة تصبّ في هذه الدائرة، الحوارية النقدية الإنشقاقية، فتحدّث عن ‘النظرية المترحلة’، حيث الأفكار والنظريات تسافر مثل البشر ومدارس التفكير، منطلقة من شهادة ميلاد، ونقطة بدء، ومسار رحيل، وشروط وصول، ومقتضيات رحيل جديد؛ و’النقد الديني’، حيث يجري نسخ الثقافة إلى شعائر وشعائر مضادة، وإلى لافتات مطلقة تلغي أي تمييز جدلي. غير أنّ الأهمّ بينها كان مفهوم ‘النقد العلماني’، الذي استخدمه سعيد في مقالة تمهيدية لكتابه ‘العالم، النصّ، والناقد’، 1983، جاءت بمثابة ردّ فعل شجاع على انحدار النظريات النقدية الأمريكية نحو نزعة تجريدية تقدّس النصّ في ذاته، وتعزله عن محيطاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية، بل تجعله بديل التاريخ أحياناً.
المفارقة، كما أوضح سعيد، أنّ هذا الميل إلى عدم التدخّل في الشؤون المحيطة بالنصّ الأدبي، كان قد ترافق مع صعود الفلسفة الريغانية، وتكريس نزعة التدخل العسكري في شؤون الشعوب الداخلية، وتعزيز التوجهات اليمينية في مسائل سياسية وفكرية وثقافية شتى.
وكتب سعيد: ‘ليست ممارسة نقدية تلك التي تُشَرْعِن الوضع القائم، أو تلتحق بصفوف طبقة من الكهنة والميتافيزيقيين الدوغمائيين. إنّ كلّ مقالة في هذا الكتاب تشدّد على الرابطة بين النصوص والوقائع الوجودية للحياة الإنسانية، وللسياسة والمجتمعات والأحداث. ذلك لأنّ حقائق القوّة والسلطة ـ فضلاً عن أشكال المقاومة التي يبديها رجال ونساء وحركات اجتماعية، في وجه المؤسسات والسلطات ومراكز الجمود العقائدي ـ هي عينها الحقائق التي تجعل النصوص ممكنة، وتُسلمها إلى قرّائها، وتجلب اهتمام النقاد. وإني أقترح أن تكون تلك الحقائق هي الجديرة بأن تصبح محطّ اعتبار النقد والوعي النقدي’. ولقد قصد وضع تلك الحقائق في صلب الممارسة النقدية، بأشكالها الأربعة السائدة: النقد العملي، كما يتجلى في المراجعات وموادّ الصحافة الأدبية؛ وتاريخ الأدب، كما يُمارس في اختصاصات أكاديمية تدرس الآداب الكلاسيكية وفقه اللغة والحضارات؛ والنقد الثالث القائم على تثمين الأعمال الأدبية، وتأويل مضامينها، ودراسة أشكالها؛ وأخيراً، النقد الذي يستولد النظرية الأدبية، في غمرة اشتغاله على النصوص.
وفي جزء لاحق من مقالته، توقف سعيد عند مثال الناقد الألماني الكبير إريك أورباخ، الذي وجد نفسه، أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، منفياً في مدينة إسطنبول التي توجّب أن تمثّل في نظره ـ كأوروبي يهودي هارب من النازية الألمانية، ومتمرس بالآداب الرومانية ـ شخصية ‘التركي المخيف’، و’الإسلام الرهيب’، والسوط المسلط على الكون المسيحي، وتجسيد الردّة الشرقية الكبرى. لكن أورباخ رأى في المنفى التركي فضاء مختلفاً للعيش والعطاء، ولاح له أنّ النأي عن موطنه ألمانيا هو الذي سيهبه فرصة إنجاز ذلك العمل النقدي الرائع، ‘المحاكاة: تمثيل الواقع في الأدب الغربي’، 1946. أكثر من هذا، يقرّ أورباخ أنّ إنجاز الكتاب لم يكن ممكناً لو أنه بقي في أوروبا، بالنظر إلى حجم ما كان سيخضع له من ضغوطات ناجمة عن شبكات الثقافة الغربية السائدة، المهيمنة عليه والمتقاطعة في وجدانه وبصيرته.
ويستخلص سعيد أنّ أمام ناقد هذا العصر أن يختار بين موقعين: التواطؤ مع الثقافة الطاغية، في مختلف صلاتها بأنظمة القوّة وأنساق السلطة؛ أو النظر، على نحو علماني منفتح ومفتوح، إلى الإنتاج الأدبي في صلاته الوثيقة بالعالم الاجتماعي والسياسي والثقافي. وبين هذا الخيار أو ذاك، ثمة دائماً خطر مسخ المنهج النقدي إلى صنم جامد، وإلى كتلة إيديولوجية صمّاء يمكن أن تقتل في الناقد روح المقاومة والشكّ والموقف العلماني، فتحيل النقد إلى ديانة أو عقيدة.
وغنيّ عن القول إنّ حاجة النقد العربي المعاصر إلى هذا الدرس، قبل سواه، ليست ماسّة فحسب؛ بل هي، كذلك، أحد أرقى أشكال الوفاء للمعلّم الكبير الراحل.
خاص – صفحات سورية –