صبحي حديديصفحات العالم

راهن الشرق الأوسط: مراجعات قاصرة ونبوءات فاسدة

null
صبحي حديدي
خصّصت أسبوعية ‘تايم’ الأمريكية غلاف عددها الأخير للإحتفاء بمرور عشرين سنة على العام 1989، أو ‘عام المعجزات’ كما سارت تسميته على أكثر من لسان في حينه، واختارت طائفة من الأحداث الفاصلة التي سبقته أو عاصرته، فاشتركت في صناعته، بينها هذه: سقوط جدار برلين، ‘الثورة الروسية’، بمبادرة ميخائيل غورباتشيف؛ نداء الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، الداعي إلى تهديم جدار برلين؛ ارتقاء صيغة الإنترنت، على يد تيم برنرز ـ لي؛ أحداث ساحة تيانانمن، في الصين، اجتماع نلسون مانديلا وف. و. دوكليرك، وما أعقبه من إسقاط نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا؛ اغتيال العلامة عبد الله عزام زعيم، أحد أبرز قيادات المجاهدين الأفغان، في بيشاور؛ إنسحاب القوات الفييتنامية من كمبوديا؛ منح جائزة نوبل للسلام على الدالاي لاما، الزعيم الروحي لإقليم التبت؛ موت 92 من مشجعي فريق ليفربول لكرة القدم، في ستاد هلزبورو؛ تجربة الإنصهار البارد، بما انطوت عليه من آمال، وأوهام، حول بدائل الطاقة الشمسية؛ رواية سلمان رشدي ‘الآيات الشيطانية’، وفتوى الإمام الخميني؛ ترخيص زواج المثليين للمرّة الأولى، في الدانمرك؛ أولى بذور تلفزيون الواقع، مع مسلسل ‘عائلة سمبسون’.
غير أن النبرة، في ما يخصّ الوقائع السياسية، لم تكن احتفائية تماماً، أو بدت بعيدة عن روح الغطرسة التي اكتنفت تغطية ‘تايم’ ذاتها لتلك الوقائع إياها، في أزمانها؛ كما أنها خلت من بلاغة انتصار الغرب، وانطواء صفحة الحرب الباردة، وإعلان نهاية التاريخ. الواقعية، وحسّ وطأة الراهن، ومسحة لا تخفى من التشاؤم، هي سمات استعادة ‘تايم’ لوقائع تلك السنة العجائبية، وهي في هذا لا تنفرد عن نغمة الإستعادات التي تسود هنا وهناك في الإعلام الأمريكي، بهدي من ضغط الحاضر على الماضي، وعلى المستقبل أيضاً. وفي هذا نقرأ مقالة الكاتب والمفكر السياسي روبرت د. كابلان، في مجلة ‘أتلانتيك’ الأمريكية، التي تتساءل: ‘إيران، العراق، كوريا الشمالية: ماذا بعد’؛ فتأخذ الإجابة صيغة نعوة صريحة لفلسفة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، حول ‘محور الشرّ’.
لكنّ كابلان هذا كان، في خريف 2006، قد زوّدنا بنعوة من طراز آخر: ‘البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم يكن لها إلا القليل من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسورية والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (…) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإنه المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية’.
هذا اقتباس من مقالة بعنوان ‘تحريك التاريخ’، نشرها كابلان في الطبعة الأوروبية من صحيفة ‘وول ستريت جورنال’ الأمريكية، واستهلها بالزعم أنّ أيّ زعيم منذ نابليون بونابرت لم يعكّر صفو الشرق الأوسط كما فعل ويفعل الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن، طبعاً)؛ وختمها بتشجيع الأخير على المزيد من تهشيم النظام ما بعد ـ العثماني هذا، حيث لن تكون العواقب أشدّ كارثية ممّا جرى بعد تقويض الإمبراطورية السوفييتية. وليس دون فضيلة المصارحة، وإنْ تجرّدت من كلّ قيمة أخلاقية أو حتى نفاقية، أنّ كابلان هتك المسكوت عنه، ولم يتردد في بلوغ الخلاصة التالية، بالحرف: ‘بدل الديمقراطية، خير لإدارة بوش أن تستقرّ على نوع من إدارة الحكم اياً كانت، ولنفكّرْ في خرائط العصور الوسطى حيث لم تكن هنالك حدود واضحة، بل مجرّد مناطق غير متمايزة في كردستان وبلاد الرافدين وسواهما، خاضعة للتأثير الفارسي’.
وللإيضاح، أوربما لمزيد من تفصيل مشهد يبدو في حدّ ذاته مكشوفاً مفصّلاً، توقف كابلان عند معيار انهيار البلقان التاريخي الذي تفكك، أو بالأحرى تَبَلْقَن، على مراحل عدّة لا بدّ أن تُختتم بانحلال ‘دويلات الباحة الداخلية’ مثل سورية والعراق، أو كما عبّر الرجل: سورية الكبرى وبلاد الرافدين. كانت مخاطر العراق ما قبل الغزو الأمريكي تتمثل في استمرار دكتاتور مثل صدّام حسين على رأس ‘مجموعة رعاع من السنّة’، وتخيّلوا كيف ستكون الحال مع ارتفاع أسعار النفط وتحوّل النظام إلى قوّة إقليمية غنّية قوية، يتابع كابلان. سورية، من جانبها، سوف تراكم المزيد من الإنقسامات الطائفية والإثنية، وستتفاقم أزمات نظامها الدكتاتوري، ويتسع نطاق الصحوة الدينية في صفوف أغلبيتها السنية، وستنقلب هذه وسواها إلى عوامل شبه مستقرّة، معيقة لأيّ إصلاح ديمقراطي. ما الحلّ، إذاً؟ الغزو العسكري في العراق (كما فعلت إدارة بوش)، وأمّا سورية فإنّ كابلان يسكت عن الحلّ العسكري المماثل، وكأنه يستبطن تفكيك البلد… إلى خرائط العصور الوسطى!
وقبيل انقضاء القرن العشرين، وربما من أجل إلقاء تحية وداع نبوئية على عقده الأخير، كان كابلان قد وضع دراسة مماثلة عن سلام الشرق الأوسط، نشرتها ‘أتلانتيك’ أيضاً، ونهضت على سلسلة نبوءات واسعة الخيال، متحرّرة بالمطلق من أي وازع في استخدام حقّ التكهن السياسي. وهو اليوم يعيد إنتاج خطوطها الرئيسية دون تغيير يُذكر، وكأنّ كلّ الاحداث الجسام التي شهدتها المنطقة، والعالم بأسره، لم تكذّب أياً من تلك النبوءات. وتجدر الإشارة إلى أنّ كابلان ليس متأملاً عادياً للمشهد الشرق ـ أوسطي، وليس مجرّد كاتب يلقي الخلاصات على عواهنها. لقد مارس ويمارس تأثيراً شبه سحري على كثير من صانعي القرار وراسمي السياسات في الولايات المتحدة، داخل الإدارة وخارجها، طيلة عقود. ومنذ العام 1993 يتربّع على عرش تأويل ‘العالم الجديد’، بوصفه واحداً من أكثر الكتّاب جسارة على التفكير في المحظور، وحماساً لصياغة سيناريوهات مستقبلية حول مسير الأرض نحو الكوارث.
وفي ذلك العام كان قد نشر كتابه ‘أشباح البلقان’ مع سقوط القذائف الأولى في حرب البوسنة، فتلقفته الدوائر المختصة في البيت الأبيض واعتمدته كوثيقة تحليلية للماضي والحاضر والمستقبل. وفي كتابها ‘على الحافة’، كادت إليزابيث درو أن تقسم بأغلظ الأيمان أن تخطيطات كابلان هي التي ردعت (نعم: ردعت!) إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، فحالت دون تطبيق سيناريوهات عسكرية أشدّ بأساً في يوغوسلافيا العتيقة. بعد عام واحد نشر دراسة كارثية أخرى، حول أفريقيا هذه المرة، بعنوان ‘الفوضى القادمة’ اعتبر فيها أنّ القارّة السوداء لم تعد بكراً، ولكنها ساحرة شيطانية حبلى بآلاف الأهوال المرشحة للإنتقال بالعدوى إلى أصقاع العالم المتمدن، وغير المتمدن. ومرّة أخرى تلقفت الإدارة خطّ تفكير الرجل، بل وذهب تيموثي ورث (مساعد الرئيس للشؤون الدولية، آنذاك) إلى حدّ وصف المقال بـ ‘الإنذار الهام’، وأخذ يقتبس فقرات كاملة منه كلما توجّب على الإدارة أن تواجه قضية أفريقية.
ولأنّ كابلان سائح نشط في الشرق الأوسط، ولا يمرّ عام دون أن يقطع أصقاع بلداننا بهدف جلاء الغموض وتأويل المستعصي، فإنه بالتالي يعتبر نفسه الأقدر على رصد التبدلات السلوكية والمزاجية التي تعقب التبدلات السياسية والاجتماعية. خذوا وادي النيل على سبيل المثال: لم يعد من قبيل الصواب، في قناعته، القول إن المصريين هم ‘طليان العالم العربي’، لأنّ استبدال الفقر الريفي بالفقر المديني جعل المصريين يفقدون الكثير من طبائعهم وأمزجتهم التقليدية، وهم اليوم أكثر حدّة وأقلّ مرحاً، أكثر سوداوية وأقلّ احتمالاً للمشاقّ، أكثر تماهياً مع الخطاب الأصولي وأقلّ وعياً بمتغيرات العصر. أو خذوا مثال إيران: مَنْ يتجوّل اليوم في هذا البلد، بعد زيارة مصر مباشرة، ويجد المساجد شبه خالية، والصحف تنتقد فساد السلطة، والناس تناسوا شعارات عداء أمريكا وأي شيطان أكبر غربي سواها… فإنّ المرء سوف يرتاب في أنّ إيران ـ وليس مصر ـ هي البلد الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بنفوذ أقوى وعلاقات دبلوماسية أطيب!
يهود إسرائيل، من جانبهم، سوف يلعبون الدور ذاته الذي لعبه أجدادهم في الشرق الأوسط زمن القرون الوسطى، أي دور الوسطاء الاقتصاديين بين قبائل وأفخاذ وزمر تتصارع وتتنافس دونما استقرار حول معطيات سلطة واحدة، أو في مركز عمراني محدد متجانس. ويقول كابلان إنّ المجتمع الإسرائيلي يتبرجز أكثر فأكثر، في حين أنّ القشرة العليا من ضباط الجيش تتديّن أكثر فأكثر، فما الذي يستنتجه العرّاف: خير على خير، كما يقول، لأنّ انتقال المجتمع الإسرائيلي خطوة متقدمة على طريق الموقف المادّي من الحياة، وانتقال الجيش خطوة على طريق الموقف الروحي، أمر ليس في صالح إسرائيل وحدها، بل في صالح المنطقة بأسرها. لا كلمة، بالطبع، عن انتقال هذا المجتمع وجيشه، بالتكافل والتضامن، خطوة أثر أخرى على طريق الموقف الهمجي البربري من الفلسطينيين ضحايا الإحتلال.
السلام بين إسرائيل والعرب سوف يجلب (بالرضى أو بالإكراه) المشاريع والإستثمارات المشتركة، وتقاسم الثروات والمياه، والنموّ الاقتصادي، وكل ما يحلم به شمعون بيريس. ولكنّ ذلك كله لن يحرّر الجماهير العربية الغفيرة من وطأة الإنفجار الديمغرافي المقترن بتدهور الحياة السياسية والمؤسسات المدنية، وستحدث المعجزة المزدوجة التالية، حسب كابلان دائماً:
ـ الفئات الاجتماعية العربية التي تحتل مراتب عليا في السلّم الطبقي، سوف تقترب أكثر فأكثر من المواطن الإسرائيلي النموذجي المتوسط (الذي يتمتع برفاه اقتصادي متقدّم على جيرانه)، وسيجري الإقتراب على مختلف المستويات، بما في ذلك الميول السيكولوجية اليومية والثقافية والحضارية؛
ـ الفئات العربية الأفقر سوف تنأى أكثر فأكثر عن التحالف أعلاه، ولن تدور خطوط الإنقسام بين إسرائيل وهذا أو ذاك من الأنظمة العربية، بل بين الجماهير العربية الفقيرة في قطب أوّل، وإسرائيل مضافاً إليها الأنظمة العربية كافة في قطب ثان مقابل.
ههنا يكرّر التاريخ أمثولة البلقان والبلقنة، على نحو معكوس، كما هي حال التاريخ حين يكرر نفسه: مسيحيو الشرق سوف يلاقون المصير ذاته الذي لاقاه مسلمو البلقان. وههنا، أيضاً، سوف تبدأ الأحلام الإثنية القديمة في الاستيقاظ من سبات طويل، ثم تنقلب إلى مشاريع دويلات لا تفلح في تهدئة جنونها سوى نيران الحرب وأنهار الدماء. سورية ستنقسم إلى دويلات، وستلحق بها مصر، ثمّ تركيا وإيران. وعند هذه النقطة من السيناريو ينسى كابلان المعيار الطبقي الذي اتكأ عليه مراراً، وينساق على هواه في تحويل الطبقة إلى حلم إثني، والإنتماء الديني إلى مشروع قومي.
وإذا كانت سيناريوهات كابلان تتناول الشرق الأوسط بوصفه المنطقة المفضّلة لاستصدار نبوءاته، والسلام العربي ـ الإسرائيلي كحاضنة للتغيّرات الكبرى السياسية والاقتصادية والسوسيولوجية؛ فإنّ سيناريوهات أسبوعية ‘تايم’ لا تنتخب من أحداث المنطقة المشاركة في صنع اعاجيب العام 1989 إلا اغتيال عبد الله عزام وفتوى الإمام الخميني بحقّ سلمان رشدي، متجاهلة كلّ ما مرّ بالمنطقة من أحداث جسام. وبين هذه وذاك، ثمة في الشرق الأوسط كلّ ما يعتمل ويلتهب ويشتعل، فيحرق النبوءات الفاسدة قبل أن يأتي على المراجعات القاصرة!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى