الشيخ نعيم قاسم ومسرحية “خمسون”
محمد علي الأتاسي
قبل أسابيع وتحديداً في السادس من شهر نيسان الماضي، أطلق نائب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم سلسلة من المواقف السياسية في شأن خيار المقاومة والتصدي للمشروع الأميركي في المنطقة
ولمن يعتبرهم أتباعه في لبنان، وشدد المسؤول الثاني في الحزب في رده على المناورات العسكرية الإسرائيلية التي كانت جارية وقتذاك، على جهوزية المقاومة للتصدي للعدوان في أيّ حرب مقبلة.
هذه المواقف السياسية للشيخ نعيم قاسم، جاءت في سياق كلمة ألقاها أثناء رعايته حفل تكليف أقامته مدارس جمعية التعليم الديني الإسلامي لمئات الفتيات من عمر التسع سنوات، لمناسبة ارتدائهن الحجاب. وعلى رغم أن كلمة الشيخ طغت عليها آراؤه المحافظة حول المرأة وجسدها ومعنى حجابها والكيفية التي يجب بها ارتداؤه وصولاً إلى التدخل في ضرورة عدم زمّ التنورة وعدم اختيار الألوان الفاقعة للحجاب، إلا أن جميع وسائل الإعلامية اللبنانية من تلفزيونات وإذاعات وصحف، وصولاً إلى الوكالة الوطنية للأنباء، اعتبرت أن تصريحات الشيخ قاسم عن الحجاب هي من باب تحصيل الحاصل، وفضلت تالياً أن تتجاهل مواقف الشيخ قاسم الدينية والاجتماعية حول مكانة المرأة ودورها وحجابها، وأن تقتصر في نقلها على المقتطفات القليلة التي تبيّن مواقف “حزب الله” السياسية الراهنة من أميركا وإسرائيل والموالاة اللبنانية.
الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي خالفت القاعدة، ونقلت في نشراتها الإخبارية المتتالية بعض المقاطع التي يتكلم فيها الشيخ قاسم عن شكل الحجاب وألوانه، إلى جانب مواقفه السياسية المعتادة، كانت قناة “ال بي سي”. وإذا كان البعض، نتيجة انفراد “المؤسسة اللبنانية للإرسال” بنقل بعض المقاطع التي تتناول الحجاب على رغم أن جزءاً معتبراً من جمهورها غير معني مباشرة بتعلم طريقة ارتداء الحجاب من الشيخ قاسم، قد فسّر هذا الإنفراد على أنه يندرج في إطار التوظيف السياسي من خلال تقوية الصور النمطية التي يحملها قسم من هذا الجمهور في المناطق المسيحية عن “حزب الله” وأتباعه، فإن هذا الرأي، وبمعزل عن مدى دقته، لا يعفي مع ذلك نائب الأمين العام للحزب من مسؤولية إطلاق آراء غاية في المحافظة والتزمت عن المرأة وحجابها (هي آراء مختلف عليها حتى في إطار الإسلام عموماً والطائفة الشيعية خصوصاً، وربما داخل “حزب الله” نفسه) من على منبر عام، وفي إطار خطاب سياسي من المفترض أنه يتوجه به إلى اللبنانيين كافة.
لكن ما هي بالضبط هذه الآراء في خصوص الحجاب التي أعلنها الشيخ نعيم قاسم على الملأ في حفل التكليف الشرعي هذا؟
يُخرج الشيخ نعيم قاسم، حاله حال بقية شيوخ الإسلام السياسي، الحجاب من حيز الممارسة الدينية الشخصية والتقاليد المتوارثة، إلى حيز الممارسة السياسية بامتياز، ويقول في هذا السياق: “قبل حوالى أربعين سنة تقريباً، كان الحجاب قد تحوَّل إلى زي وتقليد، وبدأنا نلمس تخلي البنات في عمر الصبا عن الحجاب تدريجياً، لكن في أجواء الصحوة الإسلامية، وخاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة في سنة 1979 بقيادة المسدد الإمام الخميني، بدأت الصحوة الإسلامية تأخذ مدىً مختلفاً، وبدأت العودة إلى الحجاب بشكل كثيف”. ويخبر الشيخ قاسم الفتيات من عمر تسع سنوات لماذا فرض عليهن الحجاب بالقول “البنت مخلوق إلهي جميل، أراد الله تعالى أن لا يكون هذا الجمال سبباً للفتنة والانحراف والفساد، فطلب منكِ أن تضعي هذا الجمال في إطار حجاب، فمجرد حجاب البنت تفهم أن جمالها ليس للإغواء، وأن جمالها ليس للناس، وإنما لترتاح هي بما خلقها الله تعالى عليه، فتشكر نعمته بالسجود كما شكرت نعمته بالحجاب“.
أما إذا سألت الفتيات لماذا لا يتحجب الرجال؟ فإن الجواب عند الشيخ قاسم هو “أن الرجال يمتلكون مواصفات أخرى، فالله تعالى منحهم القدرة الجسدية والقوة، لماذا؟ لأن لهم دوراً في الحياة، نرى أن الرجال يذهبون إلى الجبهة ويقاتلون”. وإذا كان المعنى المضمر في كلام الشيخ قاسم أن الرجال لا يملكون نعمة الجمال ولا يمكن أن تنجذب نحوهم البنات، فإن الشيخ قاسم يقارب في كلمته بين معشر الرجال ومعشر النساء في أن يقاتل كل منهما على طريقته ويقول في هذا السياق: “الله تعالى قال: أعطيتك أيها الشاب قوة فاذهب وقاتل، وأعطيتك أيتها الفتاة جمالاً فتحجبي وقاتلي الانحراف بحجابك، فإذا قاتلَ الأعداء بسلاحه وقاتلتِ الانحراف بحجابكِ أصبح المجتمع سعيداً وارتفعت راية محمد وآل محمد”. الحقيقة أننا لا نعرف هنا كيف للفتاة اللبنانية في سن التاسعة أن تقاتل من خلال حجابها ومن ستقاتل من “المنحرفين” في لبنان وما هي أوجه الشبه في ذلك مع من يقاتل العدو الإسرائيلي!
أما لماذا يمنعون الحجاب في بعض الدول الغربية، وهو للمناسبة موقف مدان كما هو مدان موقف فرض الحجاب في السعودية وإيران، فإن الشيخ قاسم يجيب بالآتي: “يمنعونه لأنهم يعلمون أن هذا الحجاب نور، والنور يدخل إلى كل مكان، وبالتالي يخشون أن يؤثر الحجاب على غير المحجبات، فيمنعون الحجاب حتى لا يصل الطهر إليهم، لأنهم يتفاخرون بفسادهم“.
ويشرح الشيخ للفتيات الطريقة التي يجب عليهن فيها ارتداء الحجاب، واضعاً على كاهل من تخالف ذلك مسؤولية التحرش بالرجال من خلال ثيابها! يقول في هذا السياق: “يوجد ظاهرة خطرة في الحجاب، أن البعض يحتال على الحجاب، من ناحية الألوان ، أو من ناحية الزمزمة إلى درجة تفسير الجسم. لماذا هذه الأمور فالحجاب له شكل معين، لون هادئ، فضفاض (قليلاً)، يستر حيث أمر الله تعالى بالستر الشرعي ما عدا الوجه والكفين… فهناك ثياب ستر وهناك ثياب حركشة، فثياب الحركشة هي التي تقول للآخرين، أي للشباب والرجال: انظروا إلينا، فالمحجبات عندنا لا يقمن بهذا العمل ولا يفعلن ذلك“.
ويبيّن الشيخ قاسم المنطق من وراء ما يعتبره فرض الحجاب على الفتاة في سن التاسعة، وهو ما يمكن أن نستشف منه انه عائد في رأي الشيخ لسهولة ترويضها في هذه السن، ويقول “من نعمة الله تعالى أن الحجاب كان للبنت من تسع سنوات، لأنه عندما يصبح عمر البنت 12 أو 13 سنة لم تعد تتحجب، لماذا؟ لأنهم يغنِّجونها، شعرك حلو، ورقصك جيد، والوقفة على المرآة، والتعطير واللبس، وعندما يصبح عمرها 14 سنة وهي في عز مرحلة المراهقة، اقلبي حياتك وتحجبي هذا غير صحيح، بينما التكليف من تسع سنوات فالبنت ما زالت طرية وتتقبل الأمور بطريقة مختلفة، وعندها جرأة أن تحمل موقفاً وتدافع عنه للمستقبل“.
“خمسون” جليلة بكار والفاضل الجعايبي
بعدما شاهدت على التلفزيون جانباً من كلام الشيخ نعيم قاسم عن الحجاب، واطلعت على الباقي في موقعه الشخصي على الانترنت، تولدت في نفسي الرغبة في كتابة مقالة تناقش هذا الخطاب النكوصي على المستوى الاجتماعي والديني، لكن طبيعة الاحتقان السياسي والطائفي والمذهبي في لبنان، دفعتني إلى أن أصرف النظر عن الخوض في هذا الموضوع مخافة أن يوظَّف هذا النقد في إطار الصراعات السياسية المحتدمة، فيفقد بذلك مبتغاه من حيث أنه يريد أن ينتمي إلى عموم الناس الذين يتوجه إليهم الشيخ قاسم أو غيره من شيوخ الإسلام السياسي، وهو تالياً ينطلق من مسلّمة الرفض المطلق لأن تحتكر تيارات الإسلام السياسي على اختلاف مذاهبها، الحق في التكلم من داخل دائرة الإسلام في أمور من مثل ممارستنا لديننا وعقائدنا وعباداتنا وصولاً إلى أدق تفاصيل حياتنا اليومية بما فيها من مأكل وملبس.
لكن كان عليَّ أن أنتظر مسرحية “خمسون” والمفاجأة الرائعة التي فجّرها الفاضل الجعايبي وجليلة بكار على مدى عشرة أيام من شهر نيسان في سلسلة عروض متتالية في كل من دمشق وبيروت، لأعود وأدرك مدى التقاعس واللامبالاة وأحياناً الخوف الذي بات يصيبنا نحن المنتمين إلى الثقافة العربية في مواجهة الاستبداد الممسك بخناق مجتمعاتنا من جهة والتيارات الأصولية التي راحت تتغلغل عميقاً في بنانا المجتمعية وفي أدق تفاصيل حياتنا. هذا فضلاً عن احتفاء الكثير من المثقفين اليساريين والعلمانيين ببطولات “حزب الله”، وهي بلا أدنى شك إنجازات قائمة ومشكورة، وسكوتهم في الآن نفسه عن الكثير من سياساته الاجتماعية والدينية المغرقة في المحافظة، على رغم أنها تصيبهم في صميم بيئاتهم الاجتماعية وتشكل نكوصا حاداً عن مجمل ما أنجزته تياراتهم السياسية على المستوى الثقافي والاجتماعي.
اما مسرحية “خمسون” للثنائي التونسي المبدع، وعلى خلاف الكثير من الأعمال الفنية والدرامية الرائجة اليوم في العالم العربي، فإنها فضلت أن تذهب عميقاً إلى منبع الوجع، راصدةً في بناء درامي وملحمي رائع من حيث تقشفه ونضجه، واحداً من أكثر التغيرات دراماتيكية في مجتمعاتنا العربية خلال السنوات الثلاثين الماضية، وأعني بها نكوص الكثير من أبناء الطبقة الوسطى الواقعة تحت نير الاستبداد السياسي عن قيم الحداثة والتقدم والانفتاح، في اتجاه التعصب الديني والتقليد والانغلاق. نجحت جليلة بكار من خلال هذا النص البديع الذي أنجزته للمسرحية في أن تتجنب الوقوع في اللغة الوعظية والخطابية التي تكرس نفسها مالكة وحيدة للحقيقة، وروت من خلال نص مفتوح على الأسئلة والتسامح وقبول الآخر، قصة مناضلين يساريين عتيقين ضد الاستبداد، تغادرهما ابنتهما للدراسة في فرنسا وتعود إليهما محجّبة بعد الحادي عشر من أيلول، وعندما يرفض الأب المتحجر والمصاب بسرطان الحنجرة القبول بابنته المحجبة، تغادر هذه الأخيرة للعيش مع مجموعة فتيات متشربات الأفكار الأصولية، وينتهي المطاف بواحدة منهن إلى تفجير نفسها في باحة المدرسة الخاوية، حيث تدرّس، لتُدخل باقي أفراد المجموعة في دوامة لا تنتهي من التوقيف والتحقيقات والتعذيب على أيدي عناصر الشرطة السرية التونسية. وعلى رغم النقد العميق، لكن المحب، الذي يوجهه النص لتناقضات البيئتين اليسارية والإسلامية، فإنه يظل حازماً في موقفه من الاستبداد السياسي كأصل البلاء الأول الذي ينخر عميقاً في مجتمعاتنا العربية. إلى هذا كله، فإن الأداء المتألق للممثلين وطليعية الإخراج المسرحي لفاضل الجعايبي سمحا بأن يلغي المخرج الديكور المادي عن خشبة المسرح ويستعيض عنه بالإضاءة المحكمة وبحركات الممثلين وظلال أجسادهم وبالخلفية الموسيقية التي لا تشبه إلا انسياب ماء الوضوء الذي تعمل على استحضاره.
إلاّ أن أهم ما أعادت هذه المسرحية تذكيرنا به، هو أن التفكير العميق في المآل الذي صارت اليه أحوالنا في المجتمعات العربية، لا بد له أن يكون في الأساس ثقافياً تنويرياً، لا سياسياً إيديولوجياً. ولمن يشك في ذلك، ليس عليه إلا أن يشتري القصة التي كتبها الشيخ نعيم قاسم للفتيات المكلفات، والتي تم طبعها في العام 2005 في كتاب تحت عنوان “قصتي مع الحجاب” عن “دار الهادي”، وهي الآن في طبعتها الخامسة. وليقرأ القصة الوعظية التي كتبها الرجل الثاني في “حزب الله” ويروي فيها حكاية فتيات في سن التاسعة يشاركن في حفل تكليف ويتعرضن لأسئلة محرجة من صحافية تحاول أن تختبر مدى اقتناعهن بالتحجب. ليقرأ وليقارن “قصتي مع الحجاب” مع مسرحية “خمسون”، وليكتشف من أي اتجاه يأتي الجواب عن السؤال النهضوي الأول: لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟ ¶