خلف علي الخلفصفحات ثقافية

رؤى فادحة تتناسلها القسوة والسخط

null

خلف علي الخلف

خلف علي الخلف من الرياض: لن يجد من يتابع تجربة علي العمري الشعرية الممتدة منذ ديوانه الأول “فأس على الرف” الصادر عن دار الجديد 1996 حتى مجموعته الرابعة “أبناء الأرامل” الصادرة عن دار الانتشار العربي في نهاية 2006
مفردة أشد تعبيراً واختزالاً لهذه التجربة من مفردة كـ “القسوة” والقسوة هنا لا تتبدى بالمناخات النفسية التي يشيعها النص فقط، بل قسوة المفردات والتراكيب وقسوة الدلالة أيضاً.

يكتب العمري نصه وهو يُسحن “تحت رَحى الضرورة وسياط الموعظة” لذلك سيكون محالاً على هذا النص الفكاك من ثيمات محدِدة له كالألم، الاحتجاج، السخط، القسوة… وهذه الثيمات لا تشيع في النص عبر مفردات دالة عليها فحسب بل عبر دلالات النص الكلية أيضاً.

ورغم المسافة التي يتركها العمري بينه وبين نصه، وهو ما يمكن أن يلحظ بوضوح في عدة مستويات أبرزها غياب الـ “أنا” كضمير محرك للنص؛ لكنه لا ينفصل عن نصه حتى وهو يعيد عبره تشكيل العالم والذات والأشياء، بل إنه يتوحد حتى مع حلمه الذي يرى من خلاله وينفد إلى جوهر الأشياء التي تحيط به ويشكل منها نصه. إنه نص يبنى على تفاعلات البنية الداخلية لـ “روحه” تلك التي لا تنفصل عن المحيط. بل يشكل هذا المحيط مسار تطورها الذاتي دون أن تستطيع الفكاك منه.

النصوص الحاملة للمجموعة:

الرياض

تبدأ المجموعة بنص فادح بعنوان الرياض لا يلخص علاقة الشاعر “الجنوبي” مع هذه المدينة بل إنه يشكل رؤيته لها. وهو نص مفارق “شكلاً” لنصوص علي العمري السابقة ويتكون من 99 مقطعاً في دلالة مقصودة وواضحة لاتجاه النص ومنطقة احتجاجه أيضاً.

فقد كان التكثيف الشديد والاختصار وتشكيل الدلالة في حيز المعنى الكلي للمقطع، والمقولة التي يريد أن يشكلها كل مقطع عن الرياض، هو المقود الذي يقود هذا النص. وهو لا ينتظر قارئا ذا معرفة أو صلة بهذه المدينة ليذكره بها، بل أن النص ينمو باتجاه تشكيل صورة واضحة ومفصلة عنها لمن لا يعرفها. وهذه الصورة هي فكرة الشاعر عن هذه المدينة ورؤيته لها.

ففي هذا النص لا تجد الرياض “المدينة” بل ستجد أنك تعيش فيها كـ “فكرة” فالنص يخلو في العلاقات البنائية للجمل والمقاطع من المعاش واليومي إلا بقدر ما يجسد فكرة أو مقولة يريد أن يكرسها الشاعر في كل مقطع.

فمنذ مقطعه الأول يحدد النص بوصلة فكرة الشاعر عن الرياض ” قصرٌ أينما حام اللصوص ” ويمضي في بناء أحجار الرياض مقطعاً إثر أخر وفكرة تعضد أختها ليكون رؤيا مُفكر بها وفادحة مملوءة بالقسوة عن الرياض التي “حَارة من العباد تنتظر اليقين” و “ما يبقى من الحواس في الحجر” و “كلُّ غَدٍ مَرَّ بالأمس”. هذا البناء الذي يتم بغرضية واضحة ومحددة قبل الشروع بكتابة النص. إذاً، فهو أقرب إلى “الشظايا” الفكرية منه إلى آليات تشكل قصيدة النثر أو حتى القصيدة بشكل عام.

أبناء الأرامل

“… سيشار إلى يأسنا الماكر، وينادي الحراس: جاء أبناء الأرامل الملعونون القاطنون أوحال الغل من يسممون الرفاهية ويهيجون السلالات فاتحين أورام القبائل، أحفاد الفتنة وقطاع السلامة جاءوا يتنزهون ببغالهم الشيطانية في حدائق الاقتصاد.”

فالنص بني كاملاً بهذه الطريقة السردية الروائية وتكوّن من أحد عشر كتلة نصية يسرد فيها سيرة أبناء الأرامل الذي جاءوا “من عروق مسنة ومن أشد المنابع نشوفة”. نص يسرد حياتهم وتأملهم للعالم الذي يعيشون فيه ويسرد علاقة المحيط بهم ونظرته لهم وعلاقتهم به وتصورهم عنه. نص لا يمكن تلخيصه ولا يمكن التعبير عن مقولته بألفاظ من خارج النص. إنه سيرة جماعية لمن افترضهم النص كتلة متجانسة متوحدة في نظرتها للكون. إذ يبدأ النص بكتلته الأولى بتوصيف هؤلاء “الجماعة” لأنفسهم الذين أطلق عليهم الآخرون “أبناء الأرامل” فمن هؤلاء؟ “نحن المنتظرون تحت سماء تسهر، متلثمين مما هو غبار وحياة لا تلمس ولا إلى صميمها باب” إنهم الساهرون بلا رغبة، الفاشلون، المقصرون، المتكسرون، أرباب الهموم، صناع الكلام، المتكلفون، أبناء الخسارة، ليسوا الحفاة ولا الرعاة، بل إنهم “خطأ مصادفة غامضة وشغوفة بالموت” بينما نقيضهم الذين سموهم أبناء الأرامل والذين يظهرون بوضوح في نهاية النص، يتسللون عبر رؤية أبنا الأرامل لأنفسهم فالنص يحضر النقيض لتكتمل صورتهم. ومن خلالهم يؤرخ الشاعر لحياة تسير على قدمين وتمضي نحو النحر جهاراً.

فالعمري يريد أن يؤرخ لحياة “عبدة الشعر إلى الرمق الأخير” ويصف تفاصيل حيواتهم التي تمضي نحو النسيان وتلتهمها البورصة. وقد شكل النص مصدرا لمعلومات ثرية عن حقبة عاشها هؤلاء. انه يشير إلى حقائق تاريخ آخر غير مروي لتلك “الجماعة” ولا يغفل النص عن التبصر في سيرتهم بعين الشاعر النافذة إلى ما هو جوهري، عبر مخيلة ترفو الثغرات التي تركتها أثارهم. إنه تاريخ مصاغ عبر هذه المخيلة أكثر منه تاريخ واقعي. ورغم كل تناقضاتهم وسلبياتهم و… إلا أن القارئ في النهاية يخرج منحازاً لهم لأن النص قربهم منه وعمق علاقته بهم ليتساءل بيقين في مفاصل كثيرة: أليسوا أنا؟ فقد كان الشعر هنا مدخلا لتنسيق حيواتهم المبعثرة وسند أرواحهم الهائمة والمضطربة. إنه نص يمضي في اقتراح الشعر من مناطق غير المناطق التي شاعت في (قصيدة النثر) منذ السبعينات حتى الآن! إنه نص لا يغفل الفردي هنا بل يدمجه مع المحيط الواسع (سياسة، اقتصاد، علوم، موروث،…) وفق الشرط الشعري ومحدداته، إذ أن الـ نحن التي يتحدث بها النص هي اقرب للصيغة الفردية منها إلى صيغة الجماعة أو أنها نحن لـ جماعة صغيرة ومنهكة. وهو عبر هذه الصيغة يتابع ويصقل مقترحاً قدمه الشاعر السوري عبد اللطيف خطاب لكنه يفترق عنه بأن “جماعة” عبد اللطيف أوسع، فهي جماعة كلية إن جاز التعبير، وكذلك فإن نص الخطاب كان كثير النتوءات غير المصهورة في سياق نصه، ولم يقيض لتجربته أن تستمر و تنتشر، لبعده عن المراكز أولاً ولموته المبكر ثانياً.

هذا النص قصيدة نثر بامتياز تعي ذاتها وأدواتها من حيث بنائيتها، ليس هناك انتقاء وعناية بمفردة لكن هناك وعي لتركيب الجملة كي لا تقع في النثر هناك نزوع في هذه التراكيب لإدخال الفاعلية الدلالية للجملة، وتتنحى جانباً، أو لا يكون النص مشغولاً بالدلالة الفردية للمفردات. ففي كل جملة هناك مفردة أو أكثر ترتفع بها عن السياق المفضوح وتنحو بها نحو فضاء دلالي أوسع (يأس ماكر – تهييج السلالات – أورام القبائل – أحفاد الفتنة – شاحذي المصير…) فالشاعر يدرك هذه الفاعلية الدلالية ولا يتنازل عنها طوال هذا النص. كما أنه استطاع أن يخلق تناغماً صوتياً بين المفردات، وقد ساعد تدفق الجمل المسترسل على خلق تناغما إيقاعيا يتأتى في كثير من الأحيان من تتابع النفس السردي. لقد بدا النص مختبراً يخلط فيه الشاعر بين توصيفه وتحديده لأبناء الأرامل وبين رؤيتـهـ/م للعالم الآن.

وعلى مستوى آخر طبخ الشاعر في هذا المختبر/ النص، المفردات منذ عهد الشعر الأول حتى الكوكا كولا. إنه يقدم، وهو يرى إلى العالم من خلال أبناء الأرامل، مساره الباحث عن ما هو الشعر؟ إذ ليس التجاور بين المفردات “الحديثة” (الشاشات –الكترونية – كوكاكولا – الكهرباء –الجيولوجيين –عصاب –الدلالة –الفيروسات…) وبين مفردات قادمة من زمن بعيد (القفار – نخاسة – رميم – خدور- الفقهاء – الجزع…) هو ما يقدمه النص، بل إن اتساقها من خلال النص وعدم التعثر بنتوءات “مفردة” ناشزة، هو الاقتراح الذي يظهر واضحاً في هذا الاستخدام عبر حشد هذا الكم المتنافر من المفردات ليصهرها وتخرج نصاً متجانساً.

إذ أن هناك وعي لاشعوري –لأن هذا النص متدفق– حاضراً بقوة وحاذقاً في استعمالات المفردات رغم فيضها وتزاحمها وتضادها وتآلفها فليس هناك مفردة فائضة لا تساهم في نسج فضاء الدلالة للجملة وللنص. فلا تكمن شعرية النص هنا بتوسل مفردة لها بريق لتعطي الجملة قوة شعرية بل إن السياق الدلالي هو الذي نسج هذه الشعرية. ويمكن أن نضيف لها ما يمكن أن نطلق عليه الدقة التعبيرية للجمل؛ إنه نص تتشكل دلالته دون أي فائض في المغزى، فلا يوجد في هذا النص جمل هائمة عائمة لا يمكن تحسس أثرها الدلالي لكنها في نفس الوقت لا تغرق في بركة الوضوح. فقد زاوج في تركيب المفردات إلى بعضها بين دلالة اعتيادية للمفردة – تلك التي لا تتشكل من افتراقها عن المعنى وفق مقولة القدماء “بثنائية اللفظ والمعنى” بل بالتصاقها به- وبين دلالة مفتوحة متعددة ومركبة في آن. إذ أن العمري في نصه هذا وفي كل نصوصه، لا يشكل جملة تقطع صلتها بحقل “دلالة المعنى” أي أنه لا يلغي صلته بالقارئ المتلقي ولا يكتب بمعزل عنه، تلك المقولات التي شاعت وجعلت بعض النصوص تقارب الألغاز والأحاجي والمعادلات الرياضية. بل هو ينسج صلة حميمية مع قارئه تجعل قارئه يحتضن النص ويتعانق معه.

ملامح أخرى في المجموعة:

بمكن القول أن نصوص المجموعة تتأرجح بين هذين النصين”الرياض- أبناء الأرامل” شكلاً وبناءا ودلالة. إذ أن نصوص (الرحمة على اليقين- صخب الحوائج- الاثنين- مؤامرة – شبح – عند البياض والتلاوة) أقرب إلى نص الرياض بافتراقات ملموسة. بينما الجزء الأخير الذي جاء تحت عنوان رئيس “الروح تحت الحافر” حاملاً عناوين فرعية (الرسول-السؤال -المعول في الذهن –في الغار –السهر في القعر) هي أقرب لنص أبناء الأرامل. وهناك نصوص جعلها شكل كتابتها تقع في حيرة النسبة (دعاة المبدأ، رعاة اللصوص –مزمار –باحة الله-المقبرة) إذ أن تلك النصوص كتبت بشكل يراعي التقطيعات النصية على هيئة ما يسمى “الشعر الحر”، إلا أن تجربة إعادة كتابتها بشكل كتلة يجعلها أقرب إلى النسق البنائي لأبناء الأرامل.

وعليه فان أبناء الأرامل لا تشكل “روحية” واحدة واشتغالا باتجاه مقترحات شعرية واحدة بل أنها “مجموعة” من عدة جهات اشتغال شعرية فنص الرياض مثالاً لا يتطابق مقترحه الشعري مع نص أبناء الأرامل ولا يقاربه حتى.

اختيارات العنوان:

في أغلب نصوص العمري يجيء العنوان من داخل النص إنه جملة محورية في النص، لا تختزله ولا تلخصه لكنها تعطيه جهته التي يسير فيها. ويلحظ في أغلب النصوص أن العمري يختار جملة من آخر النص ليعنون بها نصه. ولا يبدو هذا الاختيار اعتباطياً. بل إن النص يظل نامياً في سرده حتى تلك الجملة لتتشكل دلالة المقولة التي أراد أن يجعلها عنواناً للنص.

علي العمري وكثيرون من جيله في السعودية شاعر لم يوضع على خارطة الشعر العربي حتى في سياق أبناء جيله لأنه بقي خارجاً عن إقامة شبكة من العلاقات التعويمية، ولم يذهب إلى المراكز العربية “التعويمية” بل إنه مثل كثيرين هنا أيضا، لم يقدموا أنفسهم.. قدموا نصاً ومضوا. وهذا لم يعد يكفي في الثقافة العربية.


2008 الخميس 8 مايو
ايلاف


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى