خاسران على الناصية لكيم أدونيزيو بالعربية: الاتكاء على الجحيم
مازن معروف
“خاسران على الناصية” هو عنوان المختارات للشاعرة الأميركية كيم أدونيزيو (ترجمة سامر أبو هواش)، الصادرة ضمن أنطولوجيا الشعر الأميركي المعاصر، عن “دار الجمل” و”دار كلمة”. من مواليد 1955 (تذكر بعض المراجع أنها من مواليد 1954)، كيم أدونيزيو امرأة مطلّقة، تعيش مع ابنتها، تحمل شهادة ماجستير في الآداب، وتمارس التدريس الجامعي في كلية غودار وتعيش في أوكلاند (كاليفورنيا). لكيم أدونيزيو أربع مجموعات شعرية هي “نادي الفيلسوف”، “جيمي وريتا”، “قل لي” (تنافست فيها على الجائزة الوطنية للكتاب)، و”ما هذا الشيء الذي يدعى الحب”. إضافة إلى روايتين هما “روعات صغيرة” و”أحلامي هناك في الشارع”. أصدرت أيضا بالاشتراك مع الشاعرة دوريان لوكس كتاب “رفيق الشاعر: دليل إلى متع كتابة الشعر”، كما صدر لها حديثاً كتاب عنوانه “عبقرية عادية”.
كيم واحدة من أبرز الشعراء الإعترافيين من مثل روبرت لويل وسيلفيا بلاث وآن ساكستون. لكن أدونيزيو استطاعت أن تحفر ملامح مملكتها الشعرية الخاصة، باتكائها على موضوعات الخسارة والفقدان والغياب، والأخير يحضر شبحه في معظم القصائد حتى يبدو كأنه المحفز الأكثر تأثيرا في اتجاهها الشعري، وطريقة كتابتها للقصيدة، استعراضا ومعالجة، حتى يمتد هذا الغياب ليبدو قاسما مشتركا في كل ما يقع داخل رؤيتها الخاصة لأشياء العالم.
من الناحية التقنية، فلا بد للقارئ من أن يلاحظ، وإن من طريق الخداع، أن السمة الأبرز التي يتمدد تحتها الشعر الأدونيزيوي، هي التلقائية. تلقائية هادئة، مشغولة بمزيج إنساني، يتنقل بين الغضب، والاعتراف، واللؤم، واللامبالاة، والرقة، والانكسار، والتعاطف، وأحيانا محاولة تشتيت صورة تم سلخها مسبقا عن كيان الشاعرة نفسها، كأنثى. يخيّل اليك أن هذه القصائد مكتوبة بعصب واحد، عصب مئات الكائنات البشرية المتشابهة. ومن خلاله تتتالى عناصر القصيدة وتتكثف على الورقة وفي وقت قصير. وكأن المشاهدات اليومية التي تصيب عين أدونيزيو تترافق مع رد فعل شعري وسريع يجرها الى الكتابة في الشارع، أو على رصيف مجاور لسوبرماركت، أو على كنبة مملة، أو في الردهة الجامعية، أو في غرفة مريض، وذلك بسبب قدرة الشاعرة على استيلاد القصيدة من حركة المجتمعي، والحياتي (لا يخص هذا البشر، بل يطاول الحيوانات والحسي- اللامرئي كالذرة مثلا). يخيّل اليك أن الشاعرة الجميلة واقفة شديدة القرب من موضوعها الشعري، أو على الأقل من عناصره، لتدوّن شعريا ما تصادفه. لكن ولادة القصيدة هي بشرط الوجود المسبق لمحفز الكتابة العاطفي أو الفكري، سواء ضعفا أو قوة.
لا يزيح شعرها عن المربّع الوجودي الشديد الغليان. تعمل ذاكرتها على تمديده أو تقليصه بحسب متطلبات التعبير عن وعيها، وبحسب كمية التوتر الذي يغلب على نبرتها الشعرية في أكثر قصائدها. من هنا تعمل على طي الزمن، لتكتفي بعصر المكان في الفعل الإنساني سواء أكان هذا الفعل مباشرا أو غير مباشر. وهو يستلزم انسحابا إلى داخلها، إلى ماضيها الشخصي، المرتبط بفترة النضج بشكل أساسي أكثر من ارتباطه بمرحلة الطفولة. هذا ما يصل الى القارئ وهو أمام سياق شعري رفيع وغير متشرذم، واضح وصارخ في آن واحد، من دون أن يصاب بالتشتت. لأن النبرة الشعرية تتفاوت من قصيدة إلى أخرى وذلك بغية السيطرة على الوحدة العامة للموضوع كمغلف برّاني، أو كنواة شعرية جوّانية.
قصيدة كيم أدونيزيو ممنهجة بين الشكلين الشعري والقصصي (أو حكايا اليوم الواحد)، وكأن السياق القصصي شرط للتعبير الشعري ولتماسك الموضوع أو “الحبكة” أحيانا، الأمر الذي يقع ضمن المنظور العام للاتجاهات الأميركية المعاصرة حول القصيدة. وإذ يستعاض بشعرية الفكرة على حساب فكرة الشعر، نجد غيابا للجملة الشعرية المنفردة، أو الاستعارة أو المجاز. ذلك أن الشكل القصصي يسحق الجملة الشعرية الواحدة بشكل تام، لكنه يجعل لبعض الجمل قيمة جمالية تشعّ بوقاحة في وجوهنا. تستعيض الشاعرة عن المجاز، كأحد أهم شروط القصيدة، والذي لا يزال كثر يعتقدون بضروريته. تنحّيه جانبا وتختزله، باستعمالها أسلوبا تصويريا كليا يجري توظيفه من أجل تصوير مشهد شعري واحد، لكن شديد الأناقة. هكذا يتم العمل على متتالية من جمل عادية، تتلاحق كأنها أجزاء من مشهد عام، بل كأن إحداها شرط لوجود الأخرى. مفرغة من وحدة الزمن، وشيئا ما، من المكان. فغالبا ما تتم الاشارة إلى المكان بتجريد عال، وما يهيمن هو الفعل الانساني، خيرا أكان أم شرا، وهو الفعل الذي يؤسس لدراما شعرية الحياة، تلتقطها الشاعرة بخلفيتها الخاصة ووعيها الخاص بالمحيط- الخسارة. هناك الكثير من التروي عند كتابة هذا الشعر، بسبب ما تحمله الجملة الشعرية الخاصة به من مسؤولية. ذلك أنها جملة ثقيلة، مؤطرة بالخاص والعام في الوقت نفسه، ومنفلتة من ركاكة التصريف، وتقريرية المعنى أو انزلاق اللحظة الشعرية. لتظهر بملابس الشعر- الموقف الذي تجاوز لحظته للتو. لكنها لا تقدم الى قارئها شعرا متحذلقا أو متشاوفا، بل ولا تسمح لهذا القارئ الغريب بأن يسافر في تأويلاته بعيدا، أو بأن يتجاوز العبارة المباشرة. فهي تضع المتلقي تحت إمرة حيزها الخاص، بالمعنى المادي المرافق لضرورة العيش، أو متطلبات الحياة الخاصة والمدينية. وهي بذلك متخففة وقارئها مرتاح، ورشيق. يستطيع أن يستشعر قساوة شاعرته من دون أن يصاب بضيق التنفس.
هذا هو سر كيم أودينيزيو: أن ترفع الأشياء البسيطة، من رمزيتها الوظيفية الى شراكة عاطفية تؤلف بدورها ذاكرة مغايرة، وأكثر نشاطا من الذاكرة السابقة أي الماضي. وتعيد ترتيب حياتها السابقة فيتم تجيير ما كان تفصيلا مهملا لإعادته إلى الحياة من جديد وإلى دائرة الضوء، لتؤنس وحدتها بها. بذلك تستطيع رفع الحياة برمتها لتصبح حالة شعرية قائمة، وليهبط الشعر على مقومات الحياة التي تعيشها سواء أكان ذلك من الكماليات أم من الضروريات. فيعاد تشييء الشيء، لوضعه في حيز آخر، له علاقة بالخسارة، وتصبح خسارتها الخاصة أكثر بريقا عندما تتشارك بها جميع ملامح الغرفة، البيت، الحديقة، الزوج، الحب السابق …إلخ. فتزيين الحياة، لا يتم بغير أشياء الحياة، ولا حاجة للاستعانة بسوريالية هنا، أو بميثولوجيا هناك، ولا برمزية متعالية، ولا بحس امتلاك الأنا الشعرية. تزيين بغرض محاولة ترتيب غرفة مشاعرها الخاصة، كي تبتعد مثلا عما هو مشترك اجتماعي وتدخل القارئ في قاموسها الخاص الذي تستخدم مفرداته لإعادة وضع العين على المشاعر بدلاً من أن تكون هذه المشاعر، هي ملك الجزء الأنثى منها.
قلة هم الشعراء الذين يكتبون الشعر خارج المؤثر الحياتي اليومي كالمدينة والعمل والمنزل والمزرعة والتلفزيون والاحاطات البصرية العامة والتفاعلات الحسية، والتي تشكل نسبة هائلة في حياة إنسان التكنولوجيا، والانسان الأميركي المبرمج وفق “السيستم” والسرية. هنا تكمن براعة الشعراء الأميركيين عموما، في تحويل اللحظة الحياتية العابرة، والخاصة بهم، إلى المساحة الشعرية التي تتجاوز ثنائية الفعل – اللحظة. هذا يشترط توافر الحساسية التي تمكنهم من ولوج العالم المتكثف حولهم في أكثر اللحظات انعطافا، لتفكيكه وفقا لمزاج فلسفتهم الخاصة وفهمهم العام لقوانين الحياة والطبيعة والجسم البشري (الصحة، المرض، الموت، ذبول العاطفة، …إلخ) وشروط البقاء في المدينة التي يمكن تشبيهها بفكي تمساح، في احتمال أن يطبقا عليك بشكل فجائي، سواء توقعت هذا أو لم تتوقع.
النهار