هل عملك في الصحافة أو التلفزيون عبء على إبداعك؟
أبو هواش والسيد وكيوان ومحمود يجيبون
وسيلة لكسب العيش قد تغدو عبودية وقد تثري الكتابة الأدبية
عناية جابر
أما لماذا يختار المبدع: شاعر، روائي، قاص، فنان تشكيلي.. الخ العمل في الصحافة، أي المسلك الضيق لرغباته، فالأرجح ان هموما واستحقاقات حياتية، تفرض نفسها على حلم الإبداع عنده، ويضيع هذا بين حسابات مختلفة، حسابات تأمين «معاش ثابت» إذا صح التعبير، وحسابات أخرى تجد تفسيراتها المتباينة عند هذا المثقف او المبدع وذاك. التوفيق بين العمل الصحافي اليومي وبين الكتابة الابداعية الشخصية، عملية ليست بالهينة عند البعض، بانعكاساتها السلبية لجهة حرمان المبدع من التفرغ للكتابة على ما يحب ويشتهي، وبإيجابياتها (وان على حذر) التي تنعكس دربة وثقة مرانا على الكتابة، بمعنى سيولة هذه الكتابة ولا نناقش هنا، ماهيتها او قيمتها ما دامت استهلاكية في أغلب الأحوال، مع غياب او انحسار «الشغف» القديم بالعمل الصحافي بحد ذاته، ومع الفوضى الاعلامية (مرئية ومسموعة ومكتوبة) الآخذة بالاستفحال، جاعلة من مهنة الصحافة ولأسباب كثيرة، مهنة بائسة وعجيبة وغير ذات جدوى أحيانا.
هل «يؤثر عملك الصحافي على عملك الابداعي، الذي يحسب أغلبية المبدعين، انه يحتاج الى تفرغ وتأمل وتخفف من أغلب المشاغل عداه؟ هذا سؤال قلما يُطرح في الغرب، في أغلب الغرب وعلى المبدعين المشتغلين بأمور الثقافة والابداع عندهم. فالتفرغ للابداع او للكتابة من آليات ثقافة الغرب ومن صلب عالمهم ومفهومهم لحيز «التفرغ» لمهنة الكتابة ولا شيء سواها، وعلى وزارات ثقافاتهم تأمين هذا الحيز، وتأمين الكاتب في أموره الحياتية. عندنا السؤال بديهي، وجائز، ومن صلب حياة الكاتب، إذ قلما نرى او نسمع عن مبدع عربي يعتاش من إبداعه، من دون رديف «وظيفي» يعين ويساعد وان في حدود ضئيلة. عن سلبيات وايجابيات تأثير العمل الصحافي على الإبداعي سألنا الشاعر اللبناني ـ الفلسطيني سامر أبو هواش، والشاعر الكاتب اللبناني ناظم السيد، والروائي والكاتب الفلسطيني سهيل كيوان، والكاتب والناقد المصري سيد محمود.
سامر أبو هواش استغرب السؤال:
يُفترض سؤال كاتب عربي عن مدى تأثير عمله، أي وظيفته، سواء أكانت الصحافة اليومية او سواها، على إبداعه، انه يعرف واقعا آخر بديلا، أي التفرغ للإبداع وحده. وهو يشبه سؤال شخص ما عن شعوره تجاه بلد ما لم يزره يوما لكنه يعرف تقديرا انه بلد جميل، ذلك أننا نكاد نعرف هذا المفهوم الذي اسمه التفرغ للكتابة.
استغراب أبو هواش يعقبه تعريفات بالتفرغ للكتابة عند الكاتب العربي، فيضيف: انه مفهوم «أرستقراطي»، بل «يوتوبي» ينتمي إلى عالم غير عالمنا، والى آليات ثقافية غير آلياتنا. فنحن، أي الكتّاب العرب، ولنقل غالبيتهم تجنبا للتعميم، نكاد نخجل من التصريح بأننا كتّاب. فإذا كنا شعراء مثلا ازداد خجلنا، فنجد أنفسنا نميل الى جانب الستر والمواربة حين يسألنا أحدهم عن عملنا فلا يقول واحدنا انه «كاتب»، حتى لا يتلقى من جهة فماً فاغراً يقول له باندهاش، وكأنه يقف أمام طفل او كائن فضائي: «وماذا تكتب»؟ أو من جهة أخرى شخصا يكمل السؤال: «كاتب بالعدل؟». لكننا بكل تأكيد لا نخجل من القول اننا صحافيون. وكأننا نقول بذلك للسائل، أجل إننا ننتمي الى العالم الحقيقي، الواقعي، لا إلى ذلك العالم الغريب الذي اسمه الكتابة.
الشاعر والكاتب ناظم السيد، من فداحة توزعه بين عمله في الصحافة وعمله في التلفزيون، وجد في سؤالنا عبئا إضافيا، يتمثل في كتابة او تأليف رد يزيد من استنزافه: «أجلس الآن في المقهى ـ يقول السيد ـ أرفع يدين مثقلتين لكتابة هذه الكلمات. جسدي المتعب لا يرغب في حمل مسؤوليات إضافية كالتأليف مثلا. انه مستنزف. جسدي هذا عتّال أرسله كل يوم الى العمل. أجعله يعمل بالسخرة. أفرض عليه قوانين النوم والاستيقاظ أنا الذي سهرت ثماني سنوات حتى الصباح، ونمت ثماني سنوات حتى ما بعد الظهر. أشتهي ان تعود تلك الليالي التي كانت لي وحدي. أحيانا أدفع جسدي الى الاستيقاظ. أسلخه سلخا من النوم. أنزعه من أحلام مبتورة. أجره إلى المغسلة وأضع وجهه في الماء. أي عذاب ان يُرفع وجه من النوم إلى المغسلة مرة واحدة؟ لا أتكلم عن فانتازيا أبدا. فعلا هذا الواقع أعيشه يوميا. بالطبع قد يظن البعض أن عملي في مهنة تحتاج الى جهد عضلي. لا، عملي هو الكتابة في الصحافة والاشراف على عدد من البرامج التلفزيونية وإعدادها. عملي الصحفي ـ وان كنت أكرهه أحيانا ـ لا يستغرق مني الوقت الكثير. حدث هذا في ما مضى حين كتبت مقالا يوميا طوال ست سنوات. لقد أخذ مني ذلك المقال مشاريع قصائد ومشاريع كتب أيضا ليمنحني في المقابل دربة في الكتابة. لكن عملي في التلفزيون هو الكارثة بحد ذاتها.
إنها مهنة
لمن لا يعرف ـ يضيف ناظم ـ فإن العمل التلفزيوني يُصيب أصحابه بالتوتر او الـ«سترس». دائما هناك مخاوف من عدم تلبية الشغل في الوقت المناسب من ضيوف وإعداد وتقارير وتصوير وما بين كل هذا من مشاكل طارئة ومستجدة. لهذا فإن العمل في الصحافة المرئية يشبه الاسفنجة بسبب امتصاص أصحابها مشاكل هذه المهنة، في حين ان العمل في الصحافة المكتوبة يشبه المرآة بسبب عكس اصحابها مشاكل هذه المهنة على القارئ.
ما يُثقل على سامر وناظم، يغيب عند الروائي والكاتب الفلسطيني سهيل كيوان، اذ يجد في العمل الصحافي، ايجابيات تنعكس بالضرورة على عمله الابداعي: «الصحافة اليومية تؤثر إيجابا بلا شك، لأنها تغني مخزون المبدع الذي سيجد في جعبته المواد الخام التي سيبدع منها أعماله المستقبلية، قد تظهر هذه النتائج سريعا من خلال قصص قصيرة او قصائد، وقد تتأخر لتظهر في رواية، ولكن بلا شك أن الأماكن والشخصيات والبيوت والتفاصيل التي يتعلمها الكاتب الصحافي خلال عمله تثريه على المدى القريب والبعيد، قوة العمل الصحافي أنها تمنح المبدع فرصة الدخول الى بيوت الناس وتقصي التفاصيل الصغيرة في خصوصياتهم، وهذه خصوصية يحرم منها الآخرون.
في الوقت ذاته ـ يضيف كيوان ـ وعند البدء بالكتابة الابداعية سواء كانت روائية او شعرية فعلى الكاتب ان يتحرر من الشخصية الحقيقية التي واجهها او عرفها من خلال الصحافة، ان يتدخل لاعادة صياغتها فنيا، ما أعرفه ان روائيين كبارا عملوا في الصحافة. صحيح ان العمل الصحافي قد يستنزف الكاتب لأنه يتعامل يوميا مع الحبر والورق او جهاز الكومبيوتر، ولكن كلنا نعرف انه لا بد من عمل للكاتب يعتاش منه، لأن كتاباته عموما لا تشكل مصدر رزق مضمون وخصوصا اذا كان معيلا، وما دام سيشتغل فإن المكان الأقرب برأيي للكاتب هو الصحافة التي تفتح أمامه عوالم قد تكون الى جانبه وبين ظهرانيه ولكنه لا يعرف عنها شيئا، من خلال الكاميرا المعلقة على كتفه وجهاز التسجيل او القلم والورقة، يدخل ويسأل ويستفسر عن أدق التفاصيل وقد يجد هناك كنوزا، ولكن يبقى عليه ان يترجم هذا الى إبداع وهنا يتعلق الأمر به اذا كان قادرا على التحليق بمخزونه الصحافي ليحوله الى إبداع أم يواصل نقله بصورة تقريرية.
سامر أبو هواش يرى ان الكتابة عند العربي هي الترف وليست المهنة، هي «الهواية» وليست «الحرفة» وهذا لأسباب محض اقتصادية. ولا أعرف متى حصل ذلك، ولكن لا بد من ان جذوره ضاربة في القدم، حين قررنا الربط بين الصحافة والكتابة، فبات معظم الكتّاب صحافيين، وبات معظم الصحافيين كتّاباً او على الاقل طامحين الى الكتابة.
ربما تشبه الصحافة بهذا المعنى «دار الرعاية»، اذ ماذا نفعل بكل هؤلاء الكتّاب الذين لا يجدون ما يعيلهم، كيف نطعم كل هذه الأفواه: نشغلهم في الصحافة. وهذه الوجهة في طرح الموضوع كانت لتنتفي لو اننا وجدنا احداً من الكتّاب العاملين في الصحافة سعيداً او راضياً، لكن غالبيتهم للاسف غير راضية، متعبة، سئمة، تسمع بحسرة وغيرة وحسد اخبار اولئك الكتّاب الذين يحصلون من ابداعهم على ما يكفي ليعيشوا بشكل لائق محترم.
من الجانب التقني، فإن العمل في الصحافة كما أي عمل آخر، لا بد من ان يؤثر على نحو ما في العمل الابداعي. السؤال هو عن نوع هذا التأثير. أظن انه حين تكون الصحافة، او المحاماة او الطب، او أي مهنة، خياراً لدى الكاتب، لا اضطراراً معيشياً، يمكن ان تدخل في نسيج عمله الابداعي او على الاقل ان تساهم فيه بصورة ايجابية. اما الافتراض المسبق بإيجابية التأثير فلا اجدني منحازاً ـ يقول سامر ـ له البتة. ثم علينا ان نسأل أنفسنا ايضا: أي صحافة؟ الصحافة التي تطلب من العامل فيها ان يكدح ليل نهار، وان يتخلى عن ميوله واتجاهاته احياناً، وان يكتب احياناً عن امور لا يفقه فيها ولا يحبها، فقط لانها «مطلوبة» مهنياً، والصحافة التي تقدّم سقفاً سياسياً منخفضاً، وتحدد علانية او بالتواطؤ ما يقال وما لا يقال، هذه الصحافة لا يمكن ان يكون لها أي ثمرات ابداعية، إلا لجهة ان المرء بمقتها وينحاز اكثر الى كتابته الشخصية، اذ يجد فيها متنفساً اكبر واصدق وأكثر تعبيراً عنه.
الصحافة كفّت، كما هي الحال في العالم العربي، عن ان تكون مشروعاً رائداً ونهضوياً ومعرفياً، وأضحت هي بحد ذاتها محض مهنة ووظائف وتمويلات… الخ، ترتدي هذا الزي السياسي او ذاك، هذه الصحافة لا يمكن ان تكون رافداً مهماً للابداع، اذ تدخل في ماكينة الانتاج العامة من دون وعي بمسالك وقنوات ونتائج ما تقدمه للقارئ، بما في ذلك للمثقف والمبدع.
عليه، لا أرى ـ يختم سامر ـ أي فائدة جدية تذكر للصحافة ـ صحافتنا العربية ـ على عمل الكاتب المبدع. وافضل كثيراً ان احلم بصورة الكاتب الذي يعيش من كتاباته وقد يكتب من حين لآخر مقالاً او بحثاً ما ينشره في الصحف، فقط لانه وجد حاجة داخلية ابداعية الى ذلك، لا لان المهنة طلبت منه ذلك. لكن هذا حلم كبير على واقعنا الشاق.
عبودية
الحلم الكبير على واقعنا الشاق عند أبو هواش، ينسحب على صراع ناظم السيّد في عمله الاعلامي اليومي مع الوقت: «انني كائن مستعبد للوقت ـ يقول السيّد ـ والوقت هنا ليس سوى قوى الانتاج. ليس سوى النظام او السيستم. لا مجال للخروج على هذا السيستم إلا بالعطالة. من دون هذا الوقت لا مكان للكتابة. لهذا اشعر انني شخص ناقص الزمن. كائن يصرف ساعات يومه خارج رغباته. واذا حدث ان توافر هذا الوقت فإن جسدي غالبا لا يكون حاضراً لاستثمار هذا الوقت. العمل اليومي يأخذ طاقتي كلها. ليس طاقة العمل في الكتابة بل الطاقة النفسية التي تدفع هذه الشحنات الداخلية نحو الخارج. الطاقة النفسية المكبوتة التي تحول الداخل الى كتابة. لنقل ان العمل اليومي لا يأخذ مني الوقت فحسب بل المادة الخام التي تصنع منها الكتابة. ان مزاولة العمل اليومي بالنسبة الى كاتب تؤدي الى هدر الوقت والطاقة، والأهم الى تصريف الغضب والحزن والفرح والخواء والاحباط المشاعر الأولية لأي كتابة كما اظن.
أحسب ان ثمة علاقة ما بين الكتابة والبطالة. يحتاج أي كاتب الى مساحات فارغة في حياته لتشكل مكانا للتأمل والتقاط الانفاس واعادة صياغة العالم. يخطر لي ـ ينهي السيّد ـ ان اقوم بخطوة يجمع الناس على انها جنون: ترك العمل والتفرغ للكتابة. منذ سنوات وأنا اتمرن على هذه الخطوة متقدماً ومتراجعاً كيدٍ تتردد قبل ان تطلق سهماً صائباً. يخطر لي ان أتفرغ لشيء احبه بعدما فقدت المتعة بكل شيء تقريباً. الآن فقط ادرك العلاقة ما بين الكتابة والشفاء. انني ازداد مرضاً بعيداً عن اوهام الكلمات.
سيّد محمود، الذي دخل عالم الكتابة شاعراً، سرعان ما ذهب به عمله الصحافي بعيداً، فذهب الشعر وبقيت الصحافة. يقول محمود: «في بداية عملي بالصحافة، رعبتني مقولة نسبها الراوي الى الصحافي والفنان الكبير حسن فؤاد احد الأعمدة المؤسسة لمجلة «صباح الخير» يقول فيها: «الصحافة مهنة على حافة الأدب، كما ان العلاقة بينها وبين الأدب تشبه الصراع الأبدي بين «البراية» والقلم الرصاص، فلا هدف للأولى إلا التهام الثانية».
بعد سنوات عمل في الصحافة ـ يقول سيّد ـ تصل الى 15 عاماً، اقول إن الصحافة انتصرت تماماً داخلي على الأدب، فقد دخلت المهنة رغبة في الحفاظ على عشق الأدب ولم اجد غير الصحافة مؤهلة لذلك، إلا ان ما حدث على ارض الواقع يؤكد ان الصحافة «أكلت» الأدب تماماً.
صحيح ان كل ما كتبته ـ يضيف سيّد ـ كان عن الأدب والأدباء وقضاياهم، لكن في المقابل اكتشفت ان ما جرى لم يكن إلا على سبيل «التلصص» على كائنات كنت أتمنى صادقاً ان اكون بينها وأعترف بأنني كثيراً ما أشعر بالمرارة لان أصدقاء لي بدأنا معاً كتابة الشعر أصبحوا من مصادري الصحيفة، بينما لم تتح لي الفرصة لكي أكون كذلك على الرغم من ان حضوري الاعلامي قادني الى مواقع مهمة واماكن جاذبة للضوء بحيث بات رأيي من الآراء التي يعتد بها في وسطي المهني.
كثيراً ما أعترف بيني وبين نفسي بأنني كنت بحاجة الى ان يرتبط حضوري بالشعر ولا شيء غيره، وفي مقابل هذا الاعتراف عليّ أن أعترف كذلك بمسؤوليتي عن هجر الكتابة، فالشعر كان بحاجة الى اخلاص لم يتوافر لي في مهنة تقوم على «أكل الوقت».
الآن عندما أكتب نصا أدبيا ـ والكلام لسيّد محمود ـ أخاف من نشره، ليس لإدراكي بأن ما فيه اقل من مستوى ما ينشر ولكن لأني لا أحب أن أكون في موقع «اللاعب» وأمتلك في الوقت نفسه ضمير «الحكم». ومن زاوية اخرى اعرف ان ثمة من سيتورطون في مجاملتي بحيث لا يخضعون نصي للفحص النقدي، فالشخص ـ الذي هو أنا ـ يهمهم اكثر من «النص» لان لي منبراً قد يدفعهم لمغازلتي وربما لابتزازي وهي ورطة لن تسمح لي أبداً بتطوير نصي وقراءته في السياق الصحيح، لذلك توقفت عن النشر ولم اتوقف عن الكتابة التي باتت اقرب الى «عادة سرية» تمارس في فضاء حميم لا اجد نفسي مضطراً مع شعوري باللذة ان أمنحها ساحة للممارسة الشرعية.
السفير