صفحات ثقافية

«1984» جورج أورويل… الكابوس مستمرّ

null
منذ ستين عاماً، كتب جورج أورويل خيالاته الواقعيّة المفزعة عن عقل قمعي مستبد وآثم. «1984» التي اختارتها مجلَّة «التايم» بين أكثر الروايات تأثيراً في القرن الماضي، تنبّأت بمآسي القرن الحالي
خليل صويلح
«لم يعد هناك مكان آمن سوى سنتيمترات مربعة في الجمجمة»! نستعيد هذه العبارة من جورج أورويل (1903 ـــــ 1950)، في مناسبة مرور ستين عاماً على صدور روايته الشهيرة «1984». كأنّ الزمن لم يتغيّر أبداً، أو لعلَّه ازداد طغياناً وشراسة وعنفاً. فشاشات المراقبة التي اخترعها هذا الروائي البريطاني لم تعد مجرد فكرة تخيّليّة لعقل قمعي ومستبد وآثم. «الأخ الأكبر» في «1984» أكمل دورة الرعب والقسوة والخوف، وبات قدراً محتّماً، يترصدنا في أسرّة النوم ووراء الأبواب المغلقة، ليحتل السنتيمترات القليلة في الرأس، تلك التي منحنا إياها أورويل في لحظة بهجة عابرة.
«1984» التي اختارتها مجلة «التايم» من بين أكثر من مئة رواية مؤثرة في القرن العشرين، يُتوقَّع أن تجد مكانتها بسهولة في قائمة روايات قرننا المضطرب. تنبّؤات أورويل أضحت وقائع ملموسة، تتجوَّل في وضح النهار في الشوارع وأقبية التعذيب وأجهزة الرقابة والدورة الدموية. فحص بسيط للدم وسنكتشف نسبة عالية من الخوف استوطنت الأوردة والشرايين وأنسجة الدماغ.
أينما التفتَّ، ستجد شخصية ونستون سميث على شكل حلزون في قوقعة، يشبه ونستون سميث آخر، في نسخ مكرَّرة كما في متاهة مرايا. «بيغ براذر» ليس مجرَّد لعبة مسلية في «تلفزيون الواقع»، بل حالة طغيان مكتمل. طغيان تدميري يتجاوز اللغة ليصنع لغةً بديلة ومعجماً للخراب الروحي، في أنظمة استبدادية تشبه طائراً خرافياً يجثم فوق جغرافيا واسعة بحجم بيضة الرخ. كان على أورويل أن يسمّي روايته «الطغيان للمبتدئين»، نظراً إلى التطوّر التقني المذهل في وسائل التنكيل ضد العقل البشري. لعلَّه استكمل فصول تحفته هذه بما بدأه في «مزرعة الحيوانات» (1945) التي صدرت عشية انتهاء وليمة الحرب العالمية الثانية. وإذا بالخنازير تقود العالم إلى الحضيض وتتحكم في مقدّراته. الأسماء والإشارات ليست مهمة هنا: هل كان يقصد ستالين أم ماركس وحتى تروتسكي؟ النموذج هو الأصل، أو الماركة المسجَّلة للقمع. تلفيق سيرة تمجيدية للطاغية بات أمراً مشروعاً ونافلاً، فالشعارات الضخمة التي تغطّي الجدران والساحات والجسور والأنفاق والمكاتب والقمصان، والممرات وزجاج السيارات، هي جزء من هذه الحملة المنظّمة لتحريف التاريخ وزخرفته بما ليس فيه.
«الجهل هو القوة» واحد من شعارات «الحزب الأوحد»، وما على «وزارة الحقيقة» إلا أن تصدّر الأكاذيب يومياً حتى يصدّقها الجميع، أما بقية الوقت فهو من اختصاص «وزارة الحب»: علينا أن نهيم عشقاً بـ«الأخ الأكبر» ونذوب في رضاه وفي الولاء التام له، وإلا فستفضحنا تعابير وجوهنا! كابوس طويل لن نستيقظ منه أبداً، هذا ما أراد أورويل تنبيهنا إليه، في رسالة مدموغة بطوابع تزيّنها صور الأخ الأكبر وحده.
لكن هل كان أورويل شيوعياً أم فوضوياً؟ الأرجح أنه لم يكن معادياً للشيوعية، بل صفعه هواء «خيانة اليسار». يكفي أن نستحضر تقرير جدانوف المتخم بالرعب والإرهاب، كي نتمثّل انهيار المثل الاشتراكية. ألم يتداعَ الاتحاد السوفياتي، وبعده جدار برلين؟
الشرق الأوسط الذي اختاره أورويل ساحةً للحرب ومناطق للنزاع بين القوى الكبرى، استكمل اليوم الصورة التنبّؤية المرسومة له في نسيج هذه الرواية الكابوسية التي تبزّ مخيلة كافكا. ربما سعى عبد الرحمن منيف أيضاً، في « شرق المتوسط»، إلى كتابة تاريخ مماثل للقمع الشرقي، بإثارة الرعب المحلي الموروث جيلاً وراء جيل. «الأورويلية» تمدّ أذرعها في كل مكان من العالم، باعتبارها وصفةً نموذجيةً لطغاة العالم، وضربة احتجاجية «للخيانات الموجعة التي ارتكبها اليساريون»، بعدما وجدت الماركسية الحقّة نفسها في «مزبلة التاريخ»، وفقاً لما يقوله الروائي ألفريد كوستلر.
مرور ربع قرن على توقعاته لعام 1984، سيصيب المرء بكابوس آخر. ذلك أن حروب بوش الديموقراطية التي تشبه فضيحة معلنة، أوصلت العالم إلى حافة الهاوية، أكثر مما توقعه أورويل نفسه. هناك صورة قديمة لأورويل بشاربي هتلر، لعله كان يسخر من هذا الديكتاتور على طريقته الخاصة، وربما سنجد حياته الحقيقية في متن كتابه «متشرداً في باريس ولندن»، عن ذلك الشاب الذي كان يغسل الأطباق في المطاعم بوصفه نموذجاً للعبودية في ظل رأسمالية شرسة حوّلت الإنسان الصغير إلى كائن مطحون وجائع ومستلب.
ليست الدولة البوليسية وحدها إذاً، مَن أوصل حياة البشر إلى الحضيض الأخلاقي. علينا أن ننظر بإمعان إلى الحقائق المغيّبة بشأن الشركات العملاقة التي تصدّر الرعب يومياً بأشكال برّاقة: «انتبه هناك كاميرا تراقبك»، لكنها هذه المرّة تسجّل نسبة الكراهية التي تكنّها لـ«حظيرة الخنازير البريّة»، بحسب وصف بازوليني في أحد أفلامه.
مانيفستو اليأس
جورج أورويل صاحب تاريخ شخصي ملتبس، بدءاً من اسمه المستعار الذي عرف به (اسمه الأصلي إريك آرثر بلير). إنّه رجل يائس تماماً من إصلاح العالم، وخصوصاً إثر اكتشافه الوجه الآخر للحقيقة الشيوعية، وانهيارات أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إبان صعود الفاشية والنازية. تجربته في التطوّع في الجيش البريطاني الاستعماري في بورما، ومشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية، فتحت عينيه على حجم الدمار والخراب والعسف الذي يحيق بالبشر، فلم يجد بدّاً من الانكباب على فضح ما يحدث (وسيحدث) للكرة الأرضية الملتهبة بالحروب والاستبداد. الأديب البريطاني الذي ولد في الهند حيث كان يعمل والده، بدأ رحلته روائياً منقِّباً في أحياء لندن الفقيرة، وعاش فترة كبوهيمي في شوارع باريس، ما انعكس على نبرة رواياته. عندما كتب «1984» بين 1947 و1949، كانت صحّته تتدهور تدريجاً، وقد فارق الحياة بعد عام على صدورها.

أورويل ــ وو: الرجل نفسه في الحبّ والحرب
زياد عبد الله
يمكنك منذ الطفولة أن تعرف إن كنت ستصبح محافظاً أو ليبرالياً، وذلك من المدرسة تحديداً التي تشكّل في النهاية مجازاً أولياً عن الحياة نفسها. إن كنت مثل جورج أورويل الذي أمضى طفولته يتلقّى لكمات الأقوى، ويبلّل سريره في مدرسة داخلية لا تعرف الرحمة، ويهرب حين يحتفلون بعيد ميلاده، فأنت ليبرالي. أمّا إن كنت مثل إيفلن وو عنيفاً ذا قبضة لا تعرف الرحمة، وتعتبر المدرسة مكاناً مثالياً لإثبات الذات، فإنك ستكون من المحافظين. هذه خلاصة كتاب «الرجل نفسه: جورج أورويل وإيفلن وو في الحب والحرب» (راندوم هاوس ـــــ لندن) لدايفيد ليبدوف، حيث نتتبع سيرة الكاتبين الإنكليزيين في محاولة توثيقيّة تسعى للمجاورة بين حياتيهما. مفارقات السيرتين المدهشة، تؤكد خصوصية كل واحد منهما. التباينات بين حياتيهما تمسي تصاعدية منذ الصفحة الأولى من الكتاب، ما يجعل من عنوانه مدعاة للرثاء والضحك في آن، رغم محاولات ليبدوف المضنية إثبات العكس عبر تحليل أخلاقي لرؤى الكاتبين المستقبلية.
في الحقيقة، لا شيء يجمع بين جورج أورويل وإيفلن وو سوى ولادتهما عام 1903 وحملهما الجنسية البريطانية. وما بقي من عوامل فهو شبه متروك للكتاب المليء بالأحداث والشخصيات: آلام أورويل ومسرّات وو، وعورة حياة الأول، تدفقها وسلاستها مع الثاني، ليبرالية الأول ويساريته التروتسكية، محافظة الثاني ثم كاثوليكيته المتطرفة. علاقتهما الشخصيّة، إذا صحّ التعبير، لا تتجاوز إلا بضع مقالات متبادلة، ونسخة من «مزرعة الحيوانات» أرسلها أورويل إلى وو لدى صدورها عام 1945، ولقاء يتيم كان فيه أورويل على فراش الموت.
مقدمة الكتاب سينمائية بامتياز: نحن في حفلة أرستقراطية تحتفي بإيفلن وو في حزيران (يونيو) 1930 بعد إصداره روايتي «هبوط وسقوط» و«أجساد بغيضة». ثمّ ينتقل بنا ليبدوف إلى شاب يصارع الآلة الكاتبة، في علّية بيت أخته، وزوجها يقول لها «لم أعد قادراً على احتمال ذلك». الرجل الذي في العلية هو إريك آرثر بلير (اسم أورويل الحقيقي)، وذلك بعد عودته من باريس، والرواية التي يكتبها هي «متشرداً في باريس ولندن».
يتضح منذ البداية أن الطبقية هي الكلمة المفتاح في الكتاب والمشكل الرئيس لوعي الكاتبين. أورويل من «أرستقراطية مقطوعة» يسمّيها هو «أدنى الطبقة العليا». والده ريتشارد بلير يعمل في المؤسسات الاستعمارية البريطانية وتحديداً في «الوكالة الهندية للأفيون» التي تؤمن له دخلاً لا بأس به (400 باوند سنوياً)، يقتطع منه الكثير ليدرِّس ابنه في «أيتن» أعرق المدارس البريطانية مصنع صنّاع القرار، المتبوعة عادةً بدراسة في جامعتي «كامبريدج» أو «أكسفورد».
في المدرسة، سيتشكل وعي أورويل السياسي. لقد وقع ضحية ظلم طبقي يمارسه عليه زملاؤه الذين يجدونه الأفقر بينهم، وأسهمت في تعزيزه بنيته الضئيلة وحساسيته المفرطة وانطوائيته. هو يقول عن نفسه: «لم أكن ذا نفع ولم أستطع أن أكون… لم يكن انعدام المال فقط سبباً في ذلك: كانت القوة، الجمال، السحر، البنية الرياضية وشيء يسمّى «المآثر» أو «الشخصية» والتي هي في الواقع القدرة على فرض إرادتك على الآخرين. لم يكن لديّ أيّ من تلك الخصال».
لم يمض أورويل إلى «أكسفورد» أو «كامبريدج» بل لاذ بالفرار إلى بورما وعمل هناك في الشرطة الإمبراطورية الإنكليزية، وصار يتنقّل من عزلة إلى أخرى. الحياة لم تهبه أي شيء بيُسر، بما في ذلك الكتابة التي كانت تتطلب منه «بذل جهد مضاعف لتستسلم له الكلمات».
«كان أورويل حيواناً سياسياً، لا يستطيع أن ينفخ أنفه ما لم يتبين مدى أخلاقية صناعة المناديل». كان مسكوناً بمجاز الخنازير في «مزرعة الحيوانات» بعد مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية. كان مسكوناً أيضاً بنظرة مستقبلية نعيشها اليوم في «1984»، وكانت سبب مواصلته الحياة حتى فرغ منها، وحيداً مع ابنه بالتبنّي ريتشارد بعد وفاة زوجته، يدخن رغم السل الذي ينهش رئتيه، ويكتب بلا توقف في كوخ بقرية اسكتلندية نائية. قبل وفاته بشهر عن عمر يناهز السابعة والأربعين تزوّج للمرّة الثانية.
على الضفة الأخرى وبالتناوب، تمضي حياة إيفلن وو، أو «الفلوريد» (صاحب الوجه المتورد)، الذي ينحدر من طبقة وسطى لا خلفية أرستقراطية لها. والده كان صحافياً ومحرراً في دار نشر. لم يدرس في «أيتن»، لكنه كان يتمتع بـ«المآثر» و«الشخصية» ويلقّن الضعفاء درساً في القوة. أصبح لاحقاً طالباً في «أكسفورد» من دون أن يكمل دراسته فيها. هناك كان أخوذاً بعوالم الجامعة أكثر من مواد الأدب اللاتيني، وعينه على الأرستقراطية الإنكليزية. هذه الطبقة سيدخلها من الباب العريض عبر شهرته ككاتب كوميدي، وعبر زواجه بإيفلن غاردنر سليلة الأمراء والدوقات التي تقع في غرام رجل آخر وتطلب منه الطلاق. انتقم وو من غاردنر في روايته «حفنة من التراب» عبر شخصية زوجة خائنة يكون نبأ وفاة ابنها أخفّ وقعاً عليها من وفاة عشيقها. لاحقاً تزوّج مجدداً من لورا هربرت وهي أيضاً أرستقراطية بـ«امتياز».
أصبح لإيفلن وو الكثير من الأولاد والكتب وتحوّل من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، وفي الحرب العالمية الثانية ذهب مع رالف وينستون تشرشل إلى يوغسلافيا للقاء تيتو الذي قاد حركة المقاومة ضد النازيين حينها. انتقل في أدبه من حسه الساخر ولسانه السليط إلى حساسية أخلاقية دينية، تجد الإيمان بالحياة الآخرة معبراً لصلاح الحياة الدنيا. روايته Brideshead Rivisited «برايدزهيد معادة» شهدت تحولاً كثيفاً للتخلص من المتع والملذات مقابل ما بعد الحياة، بنثر كان مثار إعجاب أورويل رغم إيمان الأخير بأن ما بعد الحياة يعطل الحياة.
تبقى انطباعات إيفلن وو عن جورج أورويل في زيارته الوحيدة له محط حيرة وبحث في «الرجل نفسه». رغم حرص وو على كتابة يومياته، إلا أنّه لم يكتب شيئاً عن تلك الزيارة، واكتفى بالقول لصديقه مالكوم ماغريدج: «كان أورويل قريباً من الله». يجد لبيدوف تفسيرين لهذه العبارة: الأولى أن أورويل قريب من الموت وبالتالي من الله، أو أنّ وو رأى فيه إلهاً. ويرفض الكاتب توصيف ماغريدج للكاتبين بـ«لوريل وهاردي» ويستبدله بـ«ليو تروتسكي وكولونيل بلمب» (شخصية كرتونية إنكليزية ساخرة).
من جهته، كان أورويل يأخذ وو على محمل الجد. بعكس النقاد اليساريين الإنكليز، كان يفهم تماماً من أين يأتي أدب وو ويراه ناثراً عظيماً من دون أن يمضي معه. كل ما في الكون بالنسبة إلى أورويل سياسي، كما كان الإيمان بالنسبة إلى وو المفهوم الذي يتمحور حوله العالم. السياسة لدى أورويل لا علاقة لها بالنتائج الانتخابية، إنها صراع يومي بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، والإيمان في الحياة الآخرة ليس إلا عذراً لانعدام الفعل.
في النهاية، تبدو كل محاولات ليبدوف لدمج الرجلين في رجل واحد عبثية وخصوصاً أمام المقالات التي كتبها كلاهما عن روايات الآخر وتضيء عمق الاختلاف رغم الإعجاب الذي لا يتخطى تقنيات الكتابة والسرد.
الطريق المسدود
يؤكد أورويل في أحد مقالاته أن «سياسة الاقتصاد الحر وإلغاء الدور الحكومي قد ماتا بعد الحرب العالمية الثانية». لكنّ صاحب «1984» سرعان ما يكتشف خطأ تحليله كون الولايات المتحدة صارت الأقوى في العالم مع اقتصاد هو الأكثر رأسمالية وخصخصة. يبقى السؤال ما الذي كان سيقوله أمام الأزمة الماليّة الحاليّة، بعدما وصل الاقتصاد الحرّ إلى حائط مسدود؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى