قراءة نقدية فـي بنية العشيرة والقبيلة
عدنان عويّد
في لقاء ضم العديد من وجهاء قبائل وعشائر المنطقة الشرقية, وبعض المهتمين في الشأن الثقافي العام, عقد في منزل أحد وجهاء عشيرة المشاهدة في وادي الفرات منطقة الميادين السورية, وقد تعلق مضمون اللقاء ببحث مسألة الثأر فـي هذه المنطقة وضرورة إيجاد الحلول الكفيلة بتجاوزها, لاسيما أن الثأر هو أحد الظواهر السلبية, المعبرة في الحقيقة عن حالة من حالات التخلف الكثيرة التي لم تزل تنخر في جسد مجتمعنا العربي عموماً وبنيته الفكرية حتى هذا التاريخ, والتي تتطلب منا جميعاً أن نتكاتف لتذليلها والحد منها في عالم تتسارع فيه معطيات الحداثة والتنوير.
ولأني أحد الذين دُعوا لهذا اللقاء, فقد لفت نظري طبيعة تلك الطروح التي دارت في هذا اللقاء، ودفعني بالتالي إلى تناول ظاهرة العشيرة والقبيلة والطائفة, في مجتمعنا العربي, وهي الظاهرة التي لم تزل تشكل المركب الرئيس للوجود الاجتماعي في وطننا العربي الذي على أساسه تحددت معظم معطيات البناء الفوقي, وفي مقدمتها الدولة.
أمام معطيات هذا اللقاء نستطيع القول: هناك فرق بين أن تتماهى كلياً مع الظاهرة أية ظاهرة من ظواهر المجتمع الذي تعيش وتنشط فيه, في سلبها وإيجابها, وبين أن تدرس هذه الظاهرة وتتخذ منها موقفاً (عقلانياً), تراعي فيه خصوصيات الواقع الذي أنتجها، وما مدى استجابة هذا الواقع لها ولمفرزاتها, ثم ما هي الجوانب السلبية الكامنة فيها, والتي يجب الحد من فاعليتها, أو محاربتها والعمل على إقصائها مادياً ومعنوياً من جسم المجتمع وتفكير أبنائه؟ ثم ما هي الجوانب الإيجابية أيضاً التي يمكن استثمارها في هذه الظاهرة من أجل تنمية المجتمع, وبالتالي تطويره بالضرورة؟
ومن هنا نقول أيضاً, انطلاقاً من التحليل الاقتصادي والاجتماعي للظاهرة, إن ظاهرة العشيرة والقبيلة في مجتمعنا العربي عموماً, هي إحدى الظواهر الأساسية التي يتكون منها المجتمع, إن لم نقل إنها الظاهرة الأكثر حضوراً في تشكيل البنية الاجتماعية والذهنية للمواطن العربي. فمجتمعنا تحت ظل الظروف الموضوعية والذاتية المعيشة حالياً بكل مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ما قبل الرأسمالية, هي ظروف إنتاج ظاهرة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب, بل وإعادة إنتاجها أيضاً, فمعظم ما نراه من ممارسات في نطاق مجتمعنا العربي يشير ويؤكد ما جئنا عليه, برغم التحولات الكبيرة التي تمت في بنية هذه المستويات كافة, والتي نجزم تماما أنها – أي التحولات – قد لامست في واقع أمرها الشكل أكثر من المضمون. فما حدث من تطور في بنية المجتمع المادية والفكرية (القاعدة الخدماتية – التربية والتعليم – الجامعات – الصحة – المؤسسات الثقافية والإعلامية.. إلخ), لم يتحقق إيجابياً بعد في جوهر بنية هذا المجتمع, أي لم يصل بعد أو يتسرب إلى مسامات ذهنية وسلوكيات أفراد المجتمع بما يتناسب وطبيعة هذه التحولات السريعة التي تمت في البناء التحتي، الأمر الذي خلق حالة من الانفصام ما بين شكل المجتمع العربي, الذي يدل في الكثير من معطياته الحالية على التمدن والعمران والحداثة بشكل عام, وبين جوهره الذي لم تزل تعشش فيه عقلية داحس والغبراء, في الكثير من دلالات هذه العقلية بشكل خاص.
على العموم يظل السؤال المشروع الذي يُطرح هنا وبعمق, هو: ما العمل؟
نحن لا ننكر أن أحزابنا التقدمية (الديمقراطية الثورية) التي سيطرت على الحكم في بعض الأقطار العربية, أو لم تزل تسعى لتحقيق هذه السيطرة قد أشارت في أدبياتها, إلى الكثير من معوقات النهضة والتمدن التي أفرزتها أو أنتجتها وتنتجها عقلية وممارسة القبيلة والعشيرة والطائفة في مجتمعنا العربي. مثلما بينت لنا هذه الأدبيات أيضاً الظروف الموضوعية والذاتية التي شكلت هذه المرجعيات التقليدية, وساعدت على إعادة إنتاجها, كما حذرتنا دائماً من خطورة السير في لعبة هذه المرجعيات التقليدية المهزومة تاريخياً أمام معطيات الحداثة والتقدم. إلا أنها لم تقل لنا حتى هذا التاريخ إن هذه المرجعيات قد انتهت وجوداً وفكراً في محيطنا الاجتماعي, وإننا قد انتقلنا إلى المجتمع المدني النظيف الخالي من هذه المرجعيات التقليدية. ولكنها في الوقت ذاته علمتنا وفق المنهج العلمي/العقلاني الذي تربينا عليه كيف نتعامل معها ومع غيرها من الظواهر الايجابية والسلبية في المجتمع العربي. فمنهجنا العلمي/العقلاني في تحليله وإعادة تركيبه للظاهرة التي نتعامل معها, ومنها ظاهرة العشيرة والقبيلة والطائفة, قد بين لنا من جهة أن مجتمعنا لم يزل مجتمعاً مركباً من أبنية تخلُّف كثيرة, يأتي في مقدمتها البناء الاجتماعي, مثلما بين لنا أيضاً من جهة ثانية, أن لا نتعامل مع ظواهر هذا المجتمع بسلبها وإيجابها وفقاً لعقلية اليسار الطفولي أو الحرن, أو وفقاً لعقلية قاطع الطريق (بروكست) وسريره, وهي العقلية التي تفرض علينا أن نتعامل مع هذه الظواهر وفق ما نرغب ونريد, دون مراعاة لخصوصيات الواقع, وقوة معطياته وحيويتها، أي أن منهجنا العلمي/العقلاني دعانا ويدعونا إلى التعامل مع ظواهر الواقع القائمة فيه بروح نقدية عقلانية, تقر بوجود الظاهرة، والنظر في درجة قوتها, ووتيرة حركتها وتطورها وتبدلها, مثلما تقر بأن الظاهرة في مجموع مكوناتها وآلية عملها في بنية المجتمع, ليست واحدة في تأثيرها على المحيط الذي تنشط أو تفعل فيه. وهذا بالتالي يتطلب منا أن نقف عند الجوانب السلبية في بنية المجتمع, ونعمل على تشريحها وتحديد ظروف إنتاجها ودوافعها ومكوناتها وآلية عملها, وما مدى تأثيرها في المحيط الذي تنشط فيه, ومن ثم العمل على الحد من هذا النشاط أو التأثير وقمعه، مثلما نقف عند الجوانب الايجابية أيضاً في هذه الظاهرة ونعمل على تعميقها, خدمة لتطور المجتمع والظاهرة ذاتها.
من هنا جاء حضورنا لقاء (الثأر) العشائري في الميادين, وإبداء رأينا في ظاهرة الثأر التي عُقد اللقاء من أجلها, إذ وجدنا أن بنية مجتمع المنطقة الشرقية في وادي الفرات السوري شأنها شأن بنية واقع المجتمع العربي بعمومه, هي بنية العشيرة والقبيلة والطائفة, وأن الموضوع المطروح للنقاش في هذا اللقاء هو من المواضيع المهمة التي لم يزل للعشيرة والقبيلة الدور الكبير في حله أو تأزيمه. علماً أننا وقفنا كثيراً ولم نزل نقف ضد العديد من مفاهيم العشيرة والقبيلة وسلوكياتهما, وخاصة دورها السلبي على نشاط مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية القائمة في وطننا العربي معاً, تلك المؤسسات التي يكون لممارسة الديمقراطية والتأثير الأفقي (العدد) فـي تكوينها وتحديد حواملها الاجتماعية, وممارسة نشاطها في المجتمع والدولة دور مهم. وقد أشرنا إلى أن وجود الحوامل الاجتماعية لهذه المؤسسات والأحزاب ليس الهدف منه تحقيق الوجاهة و(البروزة) لهذه العشيرة أو القبيلة أو الطائفة, أو لمن يمثلها من حوامل اجتماعية في هذه المؤسسات، على حساب المصلحة العامة التي ُخلقت هذه المؤسسات والأحزاب من أجلها, فعقلية (لنا في السربة خيال) التي تفرزها معطيات العشيرة والقبيلة والطائفة, كانت دائماً ولم تزل محط تسفيهنا ونقدنا لها, لأنها تعيق في نهاية المطاف عمل الدولة ومؤسساتها، وتقف حجر عثرة أمام خلق مجتمع الحداثة والمواطنة.
ختاماً نقول: إن العشيرة والقبيلة والطائفة لم تزل قائمة في بنية مجتمعنا, كما أشرنا سابقاً, وهي تمارس دورها الفاعل أفقياً وعمودياً في نشاط حياة الفرد ومؤسسات المجتمع اليومية, وإن مسألة إقصاء هذا النشاط كلياً عن الساحة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية أمر لا يتم بقرار سياسي, أو بمرسوم, أو عن طريق الشعارات والتنظير الأيديولوجي المأزوم غالباً في بنيته الفكرية أمام قوة وحيوية معطيات الواقع المادية والفكرية معاً, وخاصة حوامله الاجتماعية. إن إزاحة أو إقصاء هذه المرجعيات التقليدية تتم بناء على ما يتحقق من تحولات وتغيرات إيجابية عميقة في جملة الظروف الموضوعية والذاتية التي تصيب المجتمع المنتج لبنية هذه المرجعيات التقليدية بكل مستوياته, وذلك عبر مجاري وقنوات سيرورة وصيرورة هذا المجتمع, لتساهم في خلق بنية مجتمع جديد هو مجتمع الحداثة, أو مجتمع المدنيّة والمواطنة.
إن بنية هذه المرجعيات التقليدية, (القبيلة – العشيرة – الطائفة) قائمة في مجتمعنا العربي بالضرورة, مادياً ومعنوياً كما قلنا سابقاً, بل هي تشكل جزءاً أساسياً من تركيب أو بناء الدولة العربية ذاتها في معظم دولنا العربية, إن لم نقل إن معظم دول وطننا العربي هي دول عشيرة وقبيلة بامتياز, وإن الحوامل الاجتماعية لهذه الدولة أو المسيطرة على أهم مفاصل قوتها, تسعى بقوة وبكل ما توفر أو أتيح لها من إمكانات مادية ومعنوية أتاحتها لها هذه الدولة والقاعدة الاجتماعية والفكرية التي أفرزتها, على استمرار صيغة هذه الدولة وإعادة إنتاجها. وبالتالي فإن دعوة بعضهم أو رغبته في إقصاء العشيرة والقبيلة والطائفة, وفي المحصلة إقصاء دولتها القائمة ذاتها من محيطنا الاجتماعي, يتطلب منا أن نعمل على تغيير مقومات وجودها أصلاً, أي أن نعمل على تغير بنية الاقتصاد الريعي, مروراً بمحو الأمية, وصولاً إلى عقلية داحس والغبراء.. إلخ.
وهذا برأيي لا يتم بيوم وليلة, بل هو سيرورة وصيرورة تاريخية طويلة من الجهد والتضحية, كي تنتج في المقابل ظروفاً موضوعية وذاتيه أخرى أكثر تطوراً, يأتي في مقدمتها حوامل اجتماعية أخرى واعية لذاتها, تتناقض مصالحها مع مصالح الحوامل الاجتماعية لتلك المرجعيات التقليدية, ولديها المقومات اللازمة لحمل المشروع الحداثي النهضوي وتجسيده في الواقع. لذلك ما دامت هذه المرجعيات التقليدية قائمة بفعل ظروف إنتاجها الموضوعية والذاتية في مجتمعنا, وما دمنا لم نستطع بعد، نحن حملة المشروع الحداثي التنويري، أن نلغي من على نعيات وفياتنا عبارة (تنعى لكم عشيرة – قبيلة – آل, وفاة المرحوم أو المرحومة…), فعلينا أن نستثمر كل موقف إيجابي يبدر من الحوامل الاجتماعية لهذه العشيرة والقبيلة ونصفق له, ما دام يصب في تعميق دور الدولة المدنية والمواطنة. وبالتالي الدفع نحو مجتمع الحداثة الذي نسعى إليه. وكثيرة هي المواقف الايجابية التي يمكننا استثمارها ودعمها وتشجيعها, أو حتى التوجيه نحوها تحت ظل سيادة سلطة العشيرة والقبيلة والطائفة. وإن أي تجاهل منا لهذه المسألة هو قفز فوق الواقع, وتجاهل لدورنا ولمشروعنا الحداثي والنهضوي المنوط بنا تحقيقه في نطاق المرحلة التاريخية المعيشة. هذا دون أن ننسى في الوقت نفسه محاربة كل موقف سلبي يبدر من هذه المرجعيات التقليدية ويساهم في عرقلة مسيرة الدولة المدنية والمواطنة.
علما أن التاريخ لا يعود إلى الوراء, بل هو يسير دائماً نحو الأمام بفعل تطور ظروفه الموضوعية والذاتية, وتجدد إرادات حوامله الاجتماعية. فواقع أمتنا العربية منذ نصف قرن مثلاً هو غيره الآن, وتاريخ الأمم والشعوب يثبت دائماً أن التقدم الايجابي حاصل بفضل تطور العلوم الطبيعية والإنسانية, ونمو التربية والتعليم والإعلام, وزيادة التفاعل الحضاري مع شعوب العالم وحضاراته وغير ذلك من سبل ووسائل نمو المجتمعات وتطورها. وسيسقط من التاريخ كل من لم يستطع فهم حركة التاريخ العالمي ومواكبتها. فكثيرون سقطوا عبر التاريخ لا لشيء إلا لأنهم جهلوا أو تجاهلوا حركة التاريخ, ولم يستطيعوا خلق وعي مطابق قادر على التعامل بعقلانية مع هذه الحركة .
– النور 390 (27/5/2009
تعقيب على مقالة: “قراءة نقدية في بنية العشيرة والقبيلة”
* حسن الصفدي
نشرت جريدة “النور” في عددها 390 (27/5/2009) مقالة للأستاذ عدنان عويّد بعنوان “قراءة نقدية في بنية العشيرة والقبيلة”. وإذا كنت أتفق معه في معظم ما أورده في المقالة، إلا أنني لم أستطع المواءمة بين قوله: “إن العشيرة والقبيلة والطائفة لم تزل قائمة في بنية مجتمعنا” وقوله “وسيسقط من التاريخ كل من لم يستطع فهم حركة التاريخ العالمي ومواكبتها.”. فمادامت لم تزل قائمة، إذا فهي لم تسقط، وما كان ضرورياً أن تفهم حركة التاريخ…، فماركس يقول: “يصنع الناس تاريخهم، ولكنهم لا يدرون أنهم يصنعونه”.
غير أنني أود الخوض في منحى آخر. منذ عدة عقود طُرِحَ سؤال بين شلة أصدقاء: أيمكن عودة حضريين إلى البداوة؟! كان الجواب المباشر.. لا.. قطعاً.. فسهم التقدم اللولبي يتجه إلى الأمام. غير أن هذا التعبير على صحته النسبية لا يشرح شيئاً. وعبر سنين كان يجري سؤال مختصين في علم الاجتماع، وكان هؤلاء ينفون أن يكون قد مرّ معهم ما يتحدث عن ذلك. إلى أن أفادنا مرّة دكتور مختص بالتاريخ برواية الواقعة التالية: بعد فتح مكة طلب أحد الصحابة من النبي الكريم السماح له بالعودة إلى قومه في البادية. فكان رد الرسول العظيم: “أتبدياً بعد هجرة”!!
وكأنه يمكن أن يُفهم من هذه الرواية أنه بعد استتباب هجرة المكيين في بلدة يثرب (الزراعية) وإبدال اسمها إلى المدينة، وإعلان الصحيفة/ الميثاق الاجتماعي. أصبح ممتنعاً على مدني (من أتباع محمد) العودة إلى البداوة. بهذا فهمنا جانباً وبقيت جوانب.
وأفادنا باحث مختص بالآثار أنه سبق أن حدث منذ زمن بعيد عند أحد الشعوب الميكرونيزية ارتداد إلى التبدي نتيجة غزو شعب آخر له أقل تمدناً منه. أعاد هذا الجواب إلى الذاكرة فيلما وثائقياً قديما عن إفريقيا، يحكي أنه كان فيها مملكة كبيرة وصل تقدم تفكير بعض أفرادها إلى ترتيب طريقة تسخين متدرجة لرفع درجة حرارة فلز الحديد النيزكي إلى درجة الصهر ومن ثم تصنيعه. غير أن هذه المملكة ما لبثت أن بادت (وفق الحساب الخلدوني). ولما جاء المكتشفون الأوروبيون، ومن بعدهم جيوش الاحتلال، لم يجدوا تلك الصناعة قائمة بل وجدوا أثارها الدالة عليها، فعمدوا إلى توثيق ذلك جرياً على عادتهم، واستناداً إلى ذلك صنعوا ذلك الفلم.
ويظل السؤال يتردد: تورد كتب التاريخ، في معظمها، أن أنسال العرب الفاتحين، بعد رسوخ الدولة العباسية، التي ضمت العديد من الشعوب واللغات والأديان والمذاهب، استكانوا إلى الدعة والتعاطي بالزراعة والتجارة، والاهتمام بالعلم والقضاء والإدارة، مما اضطر الدولة إلى اللجوء لتجييش الجيوش من قبائل البلاد المفتوحة. أي يمكن القول ببساطة: في ذاك الوقت أمسى العرب المسلمون سكان مدن وبلدات وقرى/ مدنيون، مع وجود حديث نبوي يستنكر التبدي.
فمتى كانت عودتنا إلى البداوة. هل من يفيدنا في ذلك؟؟