صبحي حديديصفحات العالم

الصلة بين مروة الشربيني وبرنارد لويس: صناعة ‘الخطر الأخضر’

null
صبحي حديدي
الهمجيّ الألماني، الروسيّ الأصل، قاتل المواطنة المصرية الشابة مروة الشربيني ـ في قاعة محكمة، في مدينة درسدن الكبيرة والعريقة، تحت أنظار الشرطة الألمانية، على مرأى من زوج الفقيدة وطفلها ابن السنوات الثلاث ـ لم يطعنها بالسكين مرّة واحدة أو خمساً، بل 18 مرّة، لأنّ مشكلته معها كانت أبعد من مبلغ الـ 750 يورو الذي فرضته المحكمة غرامة مالية جراء سلوكه العنصري ضدّ الشربيني. الأحرى القول إنّ الطعنات الـ 18 لم تكن تعبّر عن الغيظ من الحكم القضائي، بل كانت تصفّي حساباً عتيقاً ضارب الجذور، ضدّ حجاب السيدة المصرية من حيث الشكل والمظهر؛ وضدّ ما يُسمّى تارة ‘الإسلام الأوروبي’، وطوراً ‘الإرهاب المسلم’، من حيث المحتوى النطاق الأعرض.
وإذا كان في باب التهويل وصف القتيلة بـ ‘شهيدة الحجاب’، كما شاع في بعض الصحف المصرية، فإنّ في باب الحماقة أن يغمض المرء العين عن الجوهر التربوي والثقافي لسلوك القاتل، وأنه بدوره أداة خطاب تحريضي ضدّ الإسلام والمسلمين، أخذ يستوطن عقول شرائح واسعة من أبناء الغرب، وبات يكيّف الكثير من أنماط السلوك اليومية، التي قد تبدأ من التحديقة العنصرية، وتمرّ بالتلفّظ العنصري، أو تبلغ مستوى تنفيذ جريمة قتل عنصرية. ولا يخطئنّ أحد في الظنّ بأنّ الخطابات الشعبوية، التي تجري على ألسنة ساسة عنصريين من أمثال الفرنسي جان ـ ماري لوبين، أو الألماني أودو فويغت، أو الإيطالي جيانفرانكو فيني، أو البلجيكي فرانك فانهيك، أو البريطاني نيك غرفن، هي وحدها التي تدفع أمثال قاتل الشربيني إلى الحدود القصوى. ثمة، أيضاً، وعلى نحو قد يكون أخطر عاقبة وأبعد أثراً، تلك الفلسفات التي يجترحها ويسوّقها مثقفون ومؤرّخون وعلماء اجتماع؛ فضلاً عن أولئك ‘الخبراء’ و’المستشرقين’ و’المستعربين’، الذين يزعمون العلم بحقائق الإسلام والمسلمين.
انظروا، في المثال الأبرز، ما يقوله المستشرق البريطاني اليهودي برنارد لويس، ‘بطريرك الإسلام’ كما تجوز تسميته، في حوار مع صحيفة ‘دي فيلت’ الألمانية: ‘أوروبا سوف تكون جزءاً من المغرب العربي’، وليس العكس. لماذا؟ لأنّ ‘التوجهات الحالية تظهر أنّ أوروبا ستشهد أغلبية مسلمة في نهاية القرن الحادي والعشرين على أقصى تقدير’، وإلى جانب الأعداد المتزايدة من المهاجرين العرب والمسلمين، فإنّ الأوروبيين يتأخرون في سنّ الزواج ولا ينجبون سوى عدد قليل من الأطفال، بعكس مسلمي أوروبا الذين يتزوجون في سنّ مبكرة وينجبون عدداً أكبر من الأطفال.
ثمّ تمعنوا في ما قاله لصحيفة ‘جيروزاليم بوست’، الإسرائيلية اليمينية: ‘يوشك الإسلام على التحوّل إلى القوّة المهيمنة في أوروبا، هذه التي، باسم الإنضباط السياسي، تنازلت عن خوض معركة الرقابة الثقافية والدينية’؛ و’سرعان ما سيصبح السؤال الأهمّ حول مستقبل أوروبا هو التالي: هل ستكون اوروبا متأسلمة، أم إسلام مُتَأورب’. كلّ هذا في غمرة تعاظم تأييد المسلمين الأوروبيين للحركات والمجموعات الإسلامية المتشدّدة. وفي المقابل، وبدل ‘مكافحة هذا التهديد’، استسلم الأوروبيون، فخسروا ‘ولاءاتهم وثقتهم بالذات’، وفقدوا ‘احترام ثقافتهم الوطنية’، وبذريعة التعددية الثقافية ‘استسلموا’ للإسلام والمسلمين! وبالطبع، لا تُطوى صفحة هذا الخطر الإسلامي عند ملابسات كهذه وحدها، إذ يتوجّب على لويس التذكير بخطر إسلامي من طراز آخر، مسلّح بنواجذ نووية هذه المرّة، آتٍ من إيران في معظم أطوارها، بقيادة محافظ مثل محمود أحمدي نجاد، أو إصلاحي مثل مير حسين موسوي، سواء بسواء.
وقد يُدهش المرء من تلك ‘الخفّة’ الفكرية التي يجنح إليها لويس بين حين وآخر، والتي اعتبر الراحل إدوارد سعيد أنها القاعدة عند لويس، وليس الإستثناء، كما حين يفترض اليوم أنّ أوروبا إبنة ثقافة واحدة وحيدة متوحدة، من جهة؛ وأنّ مصطلح ‘ثقافة’ يمكن أن يُطلق هكذا على عواهنه، دون تحديد للمحتوى المقصود، وهل هو ثقافة (وبالتالي: ثقافات) الشعوب الأوروبية، أم الثقافة الدينية (وبالتالي أيها المقصود، في موازاة الإسلام: المسيحية؟ اليهودية؟ التراث اليهودي ـ المسيحي؟)، من جهة أخرى. غير أنّ الدهشة لا تدوم طويلاً، حين يقف المرء على واحد من مقترحات لويس للنيابة عن أوروبا في خوض المعركة الثقافية ضدّ هيمنة الإسلام: تشجيع وسائل الإعلام الإسرائيلية، الفضائية منها بصفة خاصة، لكي تقدّم للمسلمين بديلاً ديمقراطياً عن العنف والتطرّف!
والحال أنّ لويس يعيد عزف تلك الأسطوانة المكرورة ذاتها، حول انقلاب الإسلام إلى عدوّ أوّل، أو أوحد، للغرب، هو اليوم ‘الخطر الأخضر’ الذي حلّ محلّ ‘الخطر الأحمر’ في أحقاب الحرب الباردة. ورغم تكرارها وإعادة عزفها، فإنّ هذه الاسطوانة لا تبدو وكأنها صارت مملة في أسماع قطاعات واسعة من أبناء الغرب، بل على العكس: تزداد جاذبية، وقدرة على التحريض، كلما تكرّر عزفها. وليس ثمة مبالغة في النظرية البسيطة التي تقول إنّ الغرب ارتبك بعض الوقت في أعقاب انهيار المعسكر الإشتراكي، حين لاح أنّ الغرب ظفر وانتصر وتربّع على عرش الجبروت الكوني، وحيداً بلا منازل أو منازع. ولم تكفّ هذيانات نظرية مثل نهاية التاريخ وصراع الحضارات، راجت سريعاً واعتمدت على الميلودراما الفلسفية، لإشباع حاجة الغرب إلى حسّ الظفر في المعركة النهائية، أو يقين الطمأنينة والسكينة والأمان.
ولهذا فإنّ لويس لا يعيد استظهار الكليشيهات القديمة فحسب، بل يذهب أبعد حين يردّ البغض العربي والإسلامي للولايات المتحدة إلى عنصر ‘الحسد’ من قوّة عظمى ثرية لم تخسر أيّة حرب منذ تأسيسها! في عبارة أخرى، حرب أسامة بن لادن ضدّ الولايات المتحدة هي حرب معظم المسلمين الذين لا تُرجى فائدة من محاولات إصلاحهم أو مصالحتهم مع قِيَم الغرب، هذه التي يحدث الآن أنها تُفرض على الجميع، بالترغيب أو بالترهيب، بوصفها قِيَم العالم بأسره. ونبوءته الرهيبة للأقدار التي ستواجه العرب تسير هكذا: ‘إذا واصلت شعوب الشرق الأوسط السير على طريقها الراهن، فإنّ صورة الإنتحاري يمكن أن تصبح استعارة تمثّل المنطقة بأسرها، ولن يكون هنالك مفرّ من الإنحدار نحو الكراهية والحقد، والغضب وكره الذات، والفقر والقمع’.
وذات يوم، حين توقّف لويس عند بيان بن لادن الداعي إلى إعلان الجهاد ضد القوّات الأمريكية المتواجدة في الجزيرة العربية، فإنه لم يفعل ذلك إلا لكي يلقي على أبناء الولايات المتحدة، وعلى أبناء الثقافة اليهودية ـ المسيحية أجمعين في الواقع، درساً في كيفية ردّ دوافع الإرهاب الإسلامي إلى أصولها التاريخية والفقهية. حكيم الإستشراق المعاصر انتظر سنة كاملة لكي يربط بين ذلك البيان، وطرد الخليفة عمر بن الخطاب يهود خيبر ومسيحيي نجران من جزيرة العرب، تنفيذاً لوصيّة النبيّ كما كتب. وفي المقال ذاك، الذي نُشر بعنوان ‘رخصة للقتل’، حثّ لويس قرّاءه على عدم استغراب أطروحة بن لادن التي تقول إنّ حرب الخليج الثانية كانت عدواناً على العراق (إذْ افترض لويس ضمناً أنها كانت غير ذلك). مؤسف، في نظره، أنّ الغالبية الساحقة من مسلمي العالم تشاطر بن لادن رأيه هذا، ليس محبّة بصدّام حسين أو بالعراق الحديث، بل تقديساً للعراق الذي كان المركز الثاني للحضارة الاسلامية بعد الجزيرة العربية.
كذلك شرح لويس لقارئه أنّ المسلم، تبعاً لمنطق تراتبية التقديس تلك، لا ينظر إلى القدس نظرته إلى مكّة (التي كانت مهد الرسالة) أو المدينة (التي هاجر إليها الرسول) أو بغداد (عاصمة الخلافة العباسية). في عبارة أخرى، قداسة مدينة القدس أقلّ من قداسة مكّة والمدينة وبغداد، في وجدان المسلم الفرد على الأقلّ. ‘لا أرض في طول دار الإسلام وعرضها تُقارن بجزيرة العرب والعراق’، كتب لويس. وهكذا فإنّ دعوة بن لادن للجهاد ضدّ الكفّار الأمريكيين مزدوجة الرسالة: إنهم يحتلّون الحجاز، وهم أيضاً يعتدون على العراق. ولكي يسند استنتاجه هذا بحقيقة تاريخية، أو لكي يمارس ألعاب المستشرق في نهاية الأمر، ضرب لويس مثالاً من الحروب الصليبية. في عام 1099 شكّل سقوط بيت المقدس في يد الصليبيين نصراً للعالم المسيحي، لكنّ الحدث لم يحرّك اهتمام المسلمين، وذهبت أصوات استغاثة الفلسطينيين أدراج الرياح أمام صمت دمشق وبغداد. وهكذا أقام الصليبيون إماراتهم من أنطاكية حتى القدس دون موانع تُذكر، وسرعان ما دخل الحدث في سياق لعبة الأمم في المشرق، وانحصرت الأحداث الساخنة في التنافس بين الأمراء المسيحيين والمسلمين.
فإذا ذهب المرء إلى طراز آخر من الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين، يأتي من الكنيسة هذه المرّة، فإنّ مآلات التحريض لا تكاد تختلف حول الأهداف بقدر ما تتباين قليلاً في المفردات والألفاظ وحدها. القسّ الأمريكي فيليب بينام، الذي ‘يحمل راية يسوع’ كما يقول، يسعى إلى إنقاذ أمريكا من شرور نفسها أوّلاً، ومن شرور العالم المحيط بها أو الغريب عنها ثانياً. آراؤه كانت محطّ اهتمام في جميع وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية، المسموعة والمقروءة والمرئية، لأنّ قائد ‘عملية إنقاذ أمريكا’ هذا كان يتابع ـ من منابر الوعظ والشوارع وشاشات التلفزة وأعمدة الصحف ـ ما كانت القوّات الأمريكية تتولى تنفيذه عسكرياً في أفغانستان والعراق: الحملة الصليبية ضدّ الشرّ. كيف يريد بينهام إنقاذ أمريكا؟ عن طريق ‘كشف كذبة كبرى اسمها الإسلام’، و’نقل الأناجيل إلى بوابة الجحيم التي اسمها المسجد’، وتعليق يافطات ضخمة على أبواب المساجد تقول: ‘يسوع هو الحلّ’ و’الإسلام أكذوبة’، و’يسوع حيّ’ و’محمد مات’!
أيّ خطر محدق يهدّد أمريكا، حتى يتلهف بينام على إنقاذها هكذا؟ يقول الرجل: ‘ما هو العامل المشترك بين الإجهاض والشذوذ الجنسي والإسلام؟ إنها جميعها من وحي الكاذب ذاته الذي جاء إلى الأرض لكي يسرق ويقتل ويخرّب. إنها، ثلاثتها، تستفيد من الحرّيات الرائعة التي نتمتع بها في أمريكا. إنها، ثلاثتها، انتهكت هذه الحرّيات وأساءت استخدامها. إنها، ثلاثتها، تنكر الربّ وكلمته الحقّ. إنها، ثلاثتها، دخلت في حلف مع الموت’… ليس هذا فحسب، بل اقرأوا هنا ما يقوله بينام عن الإسلام (وهو، للتذكير، قسّ مثقف يحمل إجازة جامعية في العلوم السياسية، وأخرى في العلاقات الدولية، ودرجة الماجستير في اللاهوت): ‘منذ رؤيا محمّد في مطلع القرن السابع، ذُبح الملايين بسبب أكذوبة الإسلام. هذا الدين الزائف، المولود من قعر الجحيم، أدّى إلى لعنة دائمة حلّت بملايين البشر الذين يحبّهم الله’!
ولا يحتاج المرء إلى أن يكون مسلماً أصولياً، أو مسلماً معتدلاً، أو حتى مسلماً بالولادة، لكي يغلي الدم في عروقه إزاء هذه الآراء القبيحة المستقبحة. أمّا إذا كان المرء من طينة قاتل السيدة الشربيني، يقيم على أرض كانت حاضنة الفلسفة النازية، في ذروة مآزق المجتمع الرأسمالي المعيشية، عاطلاً عن العمل، أو سكيراً، أو مدمناً على المخدرات… فكيف لا ينقلب حجاب الشابة الغريبة السمراء إلى خرقة حمراء قانية، تضعه غريزياً خارج مصافّ البشر، أقرب إلى ثور هائج متوحش قاتل!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى