الببّغــاء حكايــةً
علي جازو
ـ «لستُ نائماً. إنني أتنفس. أتنفس، أتخيل، وأفكر». نفى الفتى تهمة النوم بنبرة حزنٍ يشبه نظرة عيني أمه؛ قلقتين تنظران إلى عينيه المغلقتين. «إلى متى ستدوم هذه الحال المجنونة؟». ردّدَتْ كلماتِ رجائها اليائس. «ها قد حلَّ الزمنُ الآتي، وهو لا يريد أن ينظر إلى حياته.. »!
(كانت غابةٌ قديمةٌ، شديدة الاتساع وعديدة التلوّن، أشجارُها كثيفة ومختلطة الأغصان. تقع وسط الغابة دائرة رمال تمتد على مساحة هائلة. تموج ألوانٌ صفراء لامعة ملساء كدهنٍ ساخن، تعلوها بقعٌ بنية خفيفة تشبه أثر رضوض سطحية! لم تكن شراسة بعد، ولم تكن ريحا ولا عويلا كالذي نسمعه اليوم. في مركز الدائرة الرملية معبَدٌ ذو واجهة زرقاء عريضة. سطح المعبد المحدب من قرميد أحمر داكن. كأن الشمس لا تضرب حمرة السطح، وكأن الغبار لا يمس لون الواجهة الزرقاء. معبد ذو أبواب لا تحصى، لكنه يحتوي على نافذتين اثنتين فقط؛ إحداهما تشرف على أرضَ الصباح، والأخرى مغلقة جهة الغروب. عرشُ الـ مَ لِ كِ – سيد المعبد الوحيد – ينبسط تحت تقعر سقف أبيض بياضاً فاتراً حيث يتقطر الضوء كل يوم على جبينه، وسريرُ الجارية المحظوظة قائمٌ في الشرق. لسوء الحظ، وكما يحدث عادة، أصيب الملكُ بالصمم في أواسط عمره. عمر الملوك لا يقدر بأي ثمن. ولأنه كان ملكاً حقيقياً فقد بادر على الفو الى طرْد كل جنوده إلى الغابة، مانعاً إياهم تجاوز خط الرمال، مهدداً بتحويلهم إلى أحجار صغيرة يلهو بها أطفال الخدم والجواري إنْ هم تجرؤوا وعبروا الخط المحرَّم. ألا يتخيل الملك نفسه أيضاً وحيدة وبلا سلطة إزاء خيالات الأطفال العابثة؟ أي ذاكرةٍ ذاكرةُ الملوك هذه؟ كذلك طُرِدَت الجواري اللطيفة الخفيفات والخدم الصبورون المطيعون. مضت الجواري إلى الأعلى حيث الورود بيضاء كآذان نجوم منكمشة، أما الخدم فسارعوا مغتبطين إلى الأعشاب القرمزية الداكنة الملتفة فوق حياة الديدان النشطة تنزلق وسط عظام راقدة! على كل حال فقد الرجل صوتَ أذنيه لكنه لم يفقد صوت قلبه الحزين. لذا فقد احتفظ بجارية واحدة – لم يرها من قبل – تسهر على حمّى أيامه وتخفف شيئاً من قسوة مصير لا يزيل ثقله سوى نسيان سريع. احتفظ الرجل الملك، سيد المعبد الكبير، بإحدى سمات الملوك الرقيقة:
(«كانت الكلمة جلداً وماءً. في ذلك الوقت، أدرك قلة من البشر الهادئين، أولئك الذين كان بإمكانهم الإحساس بضوء النهار وظلمة الليالي تنساب داخل أجسادهم، أن ما حدث منذ أول رؤية لم يكن معجزة ولا كابوساً فظيعاً كما يعتقد كثير من أبناء العصور التالية، فالرجل الذي دارت حوله الألغاز – الأحاجي المملة التي اختلقها شبيهُهُ ،وزوَّرها في ما بعد مريدوه – قاسي النظرة كئيب الطوية وكثيف شعر الصدر. رجل شهم أصيل ذو صفات واضحة: طويل قصير معاً، بدين نحيل، مهزوم، غاضبٌ مثل إله يغضبُ، قبيح بسبب النهم والحقد. تفوَّقَ، مثلما التهمت الرداءة سوق العمل والصحافة ذوق القراءة، لا كما تفوقت الموسيقى على الرسم مثلاً ولا كما يقل جمال اللغة كلما فقدت صلاتها بعالم الرسم، في تحويل أقرانه الصامتين إلى حيوانات خسرت إلى الأبد كل ألفة بشرية ممكنة. حوّلهم إلى وحوش جادين ومتحمسين ذوي نفوذ فاعلين وغير مكترثين بأي نصح. أقزام مخادعة نشطة، مرايا تظهر عفونة الموت بدل اللحم الذي يرتعش من ألم القبلات الطويلة. من أشهر أسمائه الرائجة تلك الأيام (سيد الغابات والصحارى اللانهائية)، وقد كان له اسم آخر يتذكره حفنة شعراء لاهثين مرضى وقورين، دعوهم في ما بينهم بـ «هذا هو سارق الهواء الحر الأبدي، لا يعرف شيئاً عن مذاق هواء الجبال المسافرة»! أمضى السارقُ حياة مألوفة في طفولته وصباه وبداية شبابه. مصَّ الحليب جيداً من ثدي أمه الجبلية، نام سنوات عديدة داخل بيت حجري منخفض صغير مع والديه وأخوته، رأى أزهار الجبال – هكذا يفترض الجميع – لسعتْهُ بعوض فصول الصيف الحارقة، سمع أغاني الأعراس فيما كان يتجول بعيداً عنها قرب ألسنة الكهوف الرطبة، درس وتعلم في مدرسة ريفية متواضعة، وعندما نضجت فيه بذور الرغبة اقترن من إحدى قريباته، وأنجبا على سرير الزوجية أربعة أولاد وبنتاً واحدة شقراء. غير أن الشيء الوحيد المصيري والمجهول معاً، أن السيد السارق، في وقت متأخر من إحدى ليالي الربيع الصافية، آن يكتمل القمر في استدارة منعشة ساطعة، وفي طريق العودة إلى البيت، مرَّ قريباً من البئر التي تتوسط أرض داره، نظر إلى الماء الذي كاد يلامس شفة محيط البئر الدائري؛ فرأى، ولم يحجب جسده حينها لا ضوء القمر البعيد ولا تموُّجَ سطح المياه الخفيف – كما لو في حلم خاطف صلب – لامحاً شيئاً غريباً مفزعاً، كانت الصورة مذهلة مرعبة: رأسه هو نفسه مقطوعة تتثاقل طافية على وجه الماء! لم يكن ما رآه خيالاً طارئاً من وهم منتصف الليل، ولا ظلال القمر السابحة كالأشباح على أفواه الآبار الريفية العريضة. كان حقيقة من دمٍ وعرٍ مفزعٍ امتزج ومياهٍ زرقاء ثقيلةٍ. حقيقة لا يزال أشباهه المعاصرون يخشون مجرد تذكرها ..»). كانت الجارية تسرد حكايتها الوحيدة، التي نقلنا معظمها للتو كما سمعت من بعض المتلصصين الذين نجحوا في تجاوز خط الرمال بدون عقاب حجري، بحركات من يديها وعينيها، بكلمات هي إشارات وجهها تهب لطيفة على وجه مليكها. تميزت الجارية بمهارة نادرة في عدم تكرار حركة أو إشارة أدتها من قبل، لئلا يمل الملك قط فيلجأ طرداً للملل إلى طردها حيث ترعى الجواري الحزينات بصحبة أرانب بنية مجنحة، ويجتر الجنود السائمون كوابيس أصدقائهم الجنود، وكي تتمكن هي من قول الحكاية بطرق لا يمكن حصرها فتخلق كل يوم إشارة أو حركة لا تشبه ما اصطنعته من قبل. ولأن الملك أصم بلا رجاء سوى اعتماده على عينه ليتسلى بفهم الحكايات وينجح في طرد الملل واليأس، لم يشك يوماً في صدق وغرابة حكايات سيدته الجارية. ومما لم تذكره الكتب الناقلة أن داخل المعبد ببغاء بداخل قفص كبيرة. قفص بداخله ببغاء معمرة تحت ريشها ورقة مدورة صغيرة بنية مصفرة، عليها عبارة ملغزة وحاسمة: «الجارية خرساء، ليس ثمة ملك»! غير هذا الذي خبأه أحدٌ ما تحت جناح الببغاء، كان الأخير يغني عبر مخروط منقاره الأحمر، دائماً أغنية واحدة، والأغنية لا تسمع إلى بعيون مغمضة: «لم أكن الببغاء. كنتُ طائراً عمره ألف عام. كنت اسماً من لون حزين. طائراً وحيداً كنت مثل كل طائر، وحيداً في سبعة أقفاص زرقاء». ثمة كلمات أخرى لهذه الحكاية، لفظها أحد جنود الملك قبيل رحيله، أحد جنود الملك المنفيين إلى حياة الأشجار، فكتبها فيما بعد شاعر مغمور عاش طويلاً مثل الببغاء، لكن ليس في قفص أبيض كبير، بل على خيط واهن في ظل يشبه النور، ثم ألقى بنفسه في الصحراء رغم كل التحذيرات والمخاطر التي أعقبت فعله الحماسي ذاك، لكنه كان مدفوعاً بغاية حسبها تستحق حياته كلها، وهي البحث عن ملك في الصحراء! رغم أن الهدف أحياناً لا يكون بالأهمية نفسها التي يوليها المرء عمله وكده، إلا أن مغامرة البحث تحتفظ بحرارتها طويلاً، وربما تفرح أجيالاً أخرى لن تدفعها الحماسة اليائسة إلى القتل ولا الكسل إلى عبودية عنيفة. «كانت الغابة سحر الغابة. الجارية كلمات من عشب وضوء، الملك غروبٌ طويلٌ قيده العشقُ إلى بهاء سيف ضئيل. والصحراء بلا نهاية هي الصحراء. خلف سور الأشجار الشفافة، بحبٍّ مجنون أتلفتُ عمري كله، خلف سور الأشجار». أغمض الفتى عينيه. لم ينم لكنه أغمض عينيه.)
(كاتب سوري)
السفير الثقافي