نظرة جدلية في الحياد و المنظور
حين كتبتُ في إحدى فقرات الثلاثائيات الماضية رأيي السلبي حول الحياد, و أكّدت أنني أعتبر أن الإنسان لا يمكن أن يكون حياديّاً إلا أمام ما يجهل لم أكن أنتظر أن تنال هذه الفكرة الاهتمام الذي وصلني من العديد من الأصدقاء, إن كان موافقةً على الرأي أو اعتراضاً عليه, و قد قادني التفكير في العديد من الآراء إلى محاولة تنمية هذه الفكرة و ربطها مع مفاهيم أخرى.
كاستمرارية للجدل حول رأيي في الحياد سأحاول شرح قصدي بمثال عملي: لنتخيّل أن لنا صديقان و قد اختلفا أو تشاجرا على أمرٍ ما و نحن نعلم سبب الخلاف أو الشجار. هذه المعرفة برأيي هي شرط كافي لانتفاء الحياد, فقد نستطيع أن لا ننحاز أو أن نقف على الحياد (و هذا لا يعني أننا حياديون) أو قد نعتبر أن سبب الخلاف لا يستحق المشاجرة لأجله, لكننا لا نستطيع إلا أن نكوّن رأياً شخصياً حول مسؤولية كلا الطرفين, ربما لا نجاهر به, بل و حتى لا نفكّر به كرأي انحيازي, لكنه بالنهاية انطباع حول حقٍ لطرف على طرف آخر, و هذا ليس حياداً قطعاً.
ربما نستطيع أن نكون حياديين حقاً لو جهلنا سبب الخلاف, لكنني أعتقد أنه حتّى في هذه الحالة هناك صعوبة في ذلك, فهناك عواطف و مشاعر قد تكون مختلفة تجاه صديق أو آخر من المتشاجرين تدفعنا إلى “التعاطف” معه حتى لو لم نعلم سبب الخلاف, بل ربما حتى لو كنا نتصوّر أنه يمكن أن يكون سبب هذا الخلاف. هذا الانحياز العاطفي هو طريقة من طرق تشكّل “المنظور”.
جميعنا يرى العالم و يفهمه, أو يحاول فهمه, بناءً على مكتسبات معرفية ناتجة عن تربية و تعليم و خبرة في بيئة محددة, و هذه المكتسبات المعرفية تحدّد طريقة رؤيتنا للأمور و تحليلنا لها و خصوصاً إن كانت تحت تصنيف القناعات الإيمانية الداخلة في المخطط التوضيحي الذهني الذي يرسمه كل إنسان في عقله و يساعده على فهم ما يحيط به بالإضافة إلى تدخّل المشاعر مثل الانتماء و غيرها في رسم أسلوبنا أو طريقتنا في النظر إلى العالم و وصفه و فهمه, و بالتالي التحرّك فيه.
نمتلك كبشر منظوراً نرى من خلاله العالم و نقيّمه بناءً عليه و بالتالي نتصرّف تجاهه, و ننحو عادةً تجاه اعتبار منظورنا منطلقاً و قاعدة ثابتة, أحياناً بقصد و أحياناً بغير ذلك.
هل يا ترى نستطيع أن نعتبر أن المنظور يمكن أن يكون موضوعياً؟
لو كانت الإجابة على السؤال السابق هي “لا” فيجب علينا إذاً أن نمسح كلمة “موضوعية” من المعاجم لأنها ليس ذات معنى. و بالتالي الإجابة يجب أن تكون “نعم” أو بالأحرى “نعم و لكن”, و يتعلّق هذا الأمر بفهمنا لمعنى “موضوعية”.
الموضوعية ببساطة هي منطقية التحليل مع الثوابت الشخصية, هي قياس الطول بوحدات الطول و الكتلة بوحدات الكتلة, هي التناسب ما بين النظرية و التطبيق, و ربما نستطيع أن نذهب إلى ما هو أبعد و نقول أنها المقدرة النقدية السليمة للذات قبل الغير, و بالتالي عندما يتطابق تحليلنا و تصرّفنا مع المنطلقات التي بنينا عليها منظورنا فسنعتبر أن رأينا موضوعياً لأننا نستطيع تبريره و شرحه و الدفاع عنه.
بالعودة إلى الحياد و بالحديث المخصص عن وسائل الإعلام أكرر ما قلته قبلاً حول أنني لا أثق بوسيلة إعلامية تدّعي الحيادية, بل أنني أدافع عن أن يكون لوسيلة الإعلام منطلقات فكرية تنشئ بناءً عليها منظورات تساهم في تقديم مادة لمتابعٍ عالمٍ بهذه المنطلقات و موافق عليها, فهناك وسيلة إعلام تقدّمية, و أخرى ليبرالية, و ثالثة محافظة .. الخ, و دوماً لا ينتفي هذا مع الموضوعية طالما أن النتاج متوافق مع منظور بمنطلقات و ثوابت واضحة و مع مهنية و نزاهة صحفية تروي الحقيقة (من الممكن رواية الحقيقة بأشكال عديدة و كلّها تصب في مجرى واحد) و هذا هو الطبيعي و هذا هو الصحيح. و للقارئ أو المتابع الذكاء الكافي لاختيار ما يرغب منها طالما بمتناول يده رؤية “منظورات” أخرى.
تطبيقاً لهذا الكلام, أجد من التفاهة بمكان محاولة بعض وسائل الإعلام العربية إدعاء الحيادية, فعدا عن لا مهنيتها من حيث تبعيتها لأنظمة و غيرها (و هناك فرق كبير جداً بين امتلاك منظور فكري و بين التبعية لجهة ما), عدا عن ذلك لا يمكن فهم نقل أحداث تخص العرب بالدرجة الأولى بنفس طريقة نقل وسيلة غربية لمتابع أوربي غير معني بالحدث بشكل مباشر, هذه ليست حيادية, هذا تقليد منخفض الذكاء, فمن الطبيعي أن تعطى الأخبار العربية بمنظور عربي (مع التحفّظ على مصطلح “منظور عربي”).
ربما على هؤلاء الإعلاميين, باعتبار أنهم يتحدّثون عن الحيادية, أن يروا كيف نقلت وسائل الإعلام الغربية أخبار الاعتداءات الإرهابية من طراز 11 أيلول و غيرها, فنقل الأحداث بمهنية لا يتعارض مع عرضها حسب منظور الغرب (منفّذي العملية يسمّون إرهابيين, و الضحايا يسمّون شهداءً أو ما يعادل قدسية هذا اللفظ أو مكانته في اللغة و التقاليد). و كلامي هذا هو نقدٌ حول من يعتبر نفسه حيادياً لأنه يقول “ضحايا” بدل أن يقول “شهداء”, أو يقول “عملية عسكرية” بدل أن يقول “هجوم” أو “اعتداء” في أحداث غزّة الأخيرة.
كلّ ما سبق يأتي في سياق النظرة المبنية على منطلقات فكرية, لكن ماذا عن العاطفة و المشاعر؟
في كثير من الأحيان تسيطر العاطفة على صناعة المنظور و تديره إلى حدّ كبير, فعلى سبيل المثال من الممكن أن نرى قضيتين متشابهتين جداً بطريقتين متباينتين تبعاً لمنظورنا المقيّد دوماً, بدرجات مختلفة, بمشاعرنا و عواطفنا, فمثلاً قد لا نتأثر إن علمنا بوفاة 100 ألف أفريقي جوعاً لكننا نجزع لوفاة شخص واحد, أو عدد قليل من الأشخاص في حادثٍ أو لمرض أو غيره إن كان لنا مع هؤلاء الأشخاص رابط نفسي ما, حتى لو لم يكن قوياً, و ربما نحاول تبرير فرق المشاعر ما بين الحالتين بأشكالٍ شتّى, فمثلاً في حالة أفريقيا قد نلوم وسائل الإعلام على تعتيمها على ما يجري هنالك, و هذا قد يكون صحيحاً إلى حد بسيط لكنه غالباً مجرّد كذبة نراعي بها أنفسنا, فكلنا نعلم أن أفريقيا تتضوّر جوعاً, و نمتلك معلومات إحصائية ذات معاني دراماتيكية غالباً من طراز (يموت طفل كل دقيقتين جوعاً) أو غيرها, و غالباً بشكل لا شعوري نطفئ التلفاز أو نغيّر القناة عندما يوجد خبر عن أفريقيا. نحن لا نهتم بما يحدث هناك لكننا عاجزون عن مواجهة أنفسنا بذلك و بالتالي نحتاج لتبرير “خيانتنا” لمبدأ تقديس حياة البريء و تباين تأثرنا بين وفاة إنسان مرتبط بنا نفسياً حتى لو لم نره في حياتنا (و هنا للإعلام دور كبير جداً بطبيعة الحال) و أشخاص ربما ننسى أنهم سكّان هذا العالم.
لعلّ أقوى أمثلة تحكّم العاطفة في المنظور نجدها عندما تكون العاطفة ذات طابع انتمائي (ديني, قبلي, وطني.. الخ), و نجد في هذه الأيام مثالين قويين على ذلك:
الأول: حالة الشابة المصرية التي اغتيلت في ألمانيا غدراً على يد مجرم نازي مهووس. هذه الجريمة هزّتنا من الأعماق و جعلتنا نستشيط غضباً لأن موتها كان لسبب عنصري, فالمجرم المتوحّش قتلها لأنها مسلمة فقط, و كانت هذه طعنة لانتمائنا قد تكون في كثيرٍ من الأحيان أقوى مفعولاً من تأثرنا الإنساني لموت هذه المسكينة حتّى. لكننا لا نرى العنصرية ضد غيرنا كما نراها ضدنا, و قطعاً لا نراها عندما نمارسها نحنُ, فالكثيرون قد هاجموا النزعة العنصرية الموجودة في بعض أوساط الغرب في هذه الحالة بشراسة, لكنهم تجاهلوا أو حتى استحسنوا حالات كان ضحاياها من اليهود (و أتكلم عن حالات حدثت في الغرب, حالات عنصرية لا علاقة لها بإسرائيل) مثل تخريب بعض المقابر في فرنسا أو حرق دور عبادة, و في هذه الحالة نستطيع المقارنة بشكل مباشر من حيث رد الفعل على تخريب مقبرة مسلمة أو حرق مسجد و تخريب مقبرة يهودية أو حرق كنيس, فمن منظورنا سنهاجم بشراسة حرق ما يخص المسلمين لكن ربما نتجاهل ما يقام به ضد اليهود, و بعضنا ربما سيبرره أو حتى يدعمه, و حين يُسأل عن سبب تباين ردّة الفعل تجاه حادثتين متشابهتين حدّ التطابق لن يكون لديه إجابة إلا مشاعره الانتمائية التي تفرض عليه الدفاع عن ما يعتبره مرتبطاً به أولاً, و في حالتنا هذه تدخل الكراهية نحو العنصر اليهودي بسبب صراعنا مع الصهاينة.
مثالٌ آخر: خلال ربيع العالم الماضي حصلت أحداث تمرّد و شغب في إقليم التبت المحتل من قبل الصين و كانت نتيجته مقتل العشرات و اعتقال المئات, و يعيش الآن اقليم شينج يانج في غرب الصين أحداثاً مشابهة جداً من حيث أسبابها الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية, و أيضاً للأسف مشابهة من حيث النتائج.
لو قارننا رد الفعل على الحالتين في وسطنا العربي و المسلم سنجد أن الرأي العام قد تعاطف مع الصين العام الماضي خلال أحداث التبت بل و اتّهم المتظاهرين بأنهم ينفّذون أجندة أجنبية تهدف إلى تخريب صورة الصين قبل أولمبياد بكين في الصين, و يأتي هذا التعاطف من النظرة إلى الصين كقوّة عالمية مناوئة (أو نعتبرها مناوئة) للولايات المتحدة. لكن نفس الكتّاب و الأشخاص يهاجمون الآن “وحشية” الحكومة الصينية ضد المتظاهرين في شينج يانج. لماذا؟ الجواب سهل: لأنهم مسلمون.
كلّ الأمثلة التي ذكرتها تخصنا و تخص بيئتنا, و لا أعني بذلك أن المنظور العاطفي موجودٌ عندنا فقط بل كانت محاولة لذكر أمثلة يمكن للقارئ العربي أن يجد نفسه فيها.
ليس المنظور العاطفي للأمور بالأمر السيئ, بل أنه طبيعي جداً و يدخل في التركيبة الفكرية و النفسية لجميع بني البشر و لا يمكن تجاهله أبداً و لا حتى محاولة تحجيمه. لكن من الضروري أن نأخذه بعين الاعتبار عندما نتعامل مع الآخرين و خصوصاً إن كانوا من بيئة فكرية مختلفة, فقد لا يرون ما نرى, و قد لا نرى ما يرون, أو قد نرى ما يرون لكننا نسمّيه بشكل مختلف… الخ
تأتي المشاكل عندما نحوّل منظورنا إلى دوغما و نرى فيه الطريقة الوحيدة و الأسلوب الأوحد لرؤية العالم و تحليله, مثل أن نقيّم مجتمعاً ما بناءً على قيم مجتمعنا أو “منظورنا حول القيم الصحيحة لأي مجتمع”, و هذا لا يعني أن من حقّنا أن ندافع عن منظورنا أو أن نطبّقه على أنفسنا حتى لو كان بشكل متشدد, لكننا لا نستطيع أن نفرض منظورنا على غيرنا و لا نستطيع أن نرتّب الأولويات لغيرنا بالطريقة التي نراها نحنُ, و كما يمكن أن نستشيط غضباً عندما نسمع منظور شخصٍ يتعارض معنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار غضب غيرنا من منظورنا.
و بالنهاية… العالم يتّسع للجميع.. و لجميع المنظورات.
عن مدونة أمواج اسبانية في فرات الشام
تختار صفحات سورية ثلاثة نصوص من نصوص المدونين السوريين كل أسبوع تقدمها للقارئ، النصوص التي سنختارها هي نصوص منتقاة بعناية، تقدم مشهدا جزئيا للتدوين في سورية، يمكن أيضا للمدونين أن يرسلوا مساهماتهم الى عنوان صفحات سورية، هذه النصوص سنختار ها عبر متابعة دقيقة لما يكتب، بالطبع لا يمكن بأي حال متابعة كل التدوينات السورية، ولكننا سنسعى الى تقديم الجديد والعميق والمفيد كل أسبوع.