مصطلح عدم الإنحياز: إكرام الميت دفنه!
صبحي حديدي
في سنة 1964، أيام قيادة جمال عبد الناصر، كانت مصر قد استضافت القمة الثانية لحركة عدم الإنحياز؛ وهي اليوم، أيام حسني مبارك، تستضيف القمّة الـ 15 للحركة. شتان، بادىء ذي بدء، بين هذه القيادة وتلك؛ وشتّان، أيضاً، بين هذه الحركة وتلك، رغم أنّ القمّة الأولى لعام 1961 ضمّت 20 دولة، والحركة الآن تعدّ 118 دولة، التكتل الدولي الأكبر بعد منظمة الأمم المتحدة. الفارق، مع ذلك، لا يقتصر على القيادات والأعداد، بل يتجاوز هذه وسواها من التفاصيل، إلى اعتبار جوهري يخصّ مصير الحركة ذاتها، وما إذا كان الاسم ما يزال ينطبق على المسمّى أساساً، أو يعبّر عن واقع حال فعلي.
ولقد انقضت 54 سنة منذ أن نحت الزعيم الهندي جواهر لال نهرو هذه العبارة العجيبة، ‘عدم الإنحياز’، وأراد منها ثلاثة أغراض: التحرّر من ربقة الإستعمار، بمختلف أشكاله القديمة والحديثة؛ وتخفيف حدّة التوتر الدولي بين القطبين ـ المعسكرين، الرأسمالي والإشتراكي؛ وتحقيق التنمية الاقتصادية لبلدان العالم الثالث، بوصفها البلدان التي تمثّل الكتلة الطبيعية لمفهوم عدم الإنحياز. وأمّا في أصل العبارة، فقد كان نهرو، رئيس وزراء الهند آنذاك، يقترح صيغة للعلاقات الهندية ـ الصينة، تقوم على خمسة أعمدة: الاحترام المتبادل لسيادة البلدين ووحدة أراضيهما، والاتفاق المشترك على عدم الإعتداء، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، والمساواة والنفع المشترك، والتعايش السلمي.
وكان لافتاً أن تتحوّل هذه الأعمدة إلى ‘فلسفة’ في العلاقات الدولية، هيمنت على مؤتمر باندونغ (أندونيسيا، 1955) للدول الآسيوية والأفريقية، ولم يعتمدها بعض أبرز زعماء هذه الدول (نهرو، عبد الناصر، الغانيّ كوامي نكروما، والأندونيسي أحمد سوكارنو)، فحسب؛ بل انضمّ إليهم اليوغسلافي جوزف بروز تيتو، زعيم دولة كان يصعب اعتبارها غير منحازة، أياً كانت مشكلاتها العقائدية أو السياسية مع المعسكر الإشتراكي. ليس هذا فقط، بل انطوى تاريخ الحركة اللاحق على تجاور عجيب بين زعماء أنظمة دكتاتورية إستبدادية (من الأندونيسي سوهارتو، إلى السوري حافظ الأسد، مروراً بأمثال عيدي أمين وجعفر النميري…)، مع زعماء من طراز نلسون مانديلا (الذي تكرّمه القمّة الـ 15، في التفاتة متأخرة)، وياسر عرفات وفديل كاسترو.
غير أنّ الفلسفة حملت الكثير من مبررات وجودها، في سياقات اشتداد الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وانقلاب مفهوم الإستقطاب ذاته إلى ما يشبه الخيار القسري، في الاقتصاد والأمن إسوة بالسياسة والاجتماع. ثمّ استقرت، وإنْ في المستوى اللفظي وحده طيلة عقود، على سلسلة من المبادىء العامة التي يظلّ الإتكاء عليها تذكرة نافعة، معطّلة الأداء غالباً، ومحدودة الجدوى. بينها، إلى جانب مبادىء نهرو آنفة الذكر، احترام حقوق الإنسان الجوهرية وفق شرعة الأمم المتحدة، وإقرار المساواة بين الأعراق والأمم، واحترام حقّ الأمم في الدفاع عن النفس عند تعرّضها للعدوان، والامتناع عن التهديد بالعدوان واستخدام القوّة، وحلّ النزاعات الدولية بطرق سلمية، واحترام العدل والمواثيق الدولية.
وفي ضوء انتهاك كلّ هذه المبادىء، كلّ يوم، من الواضح أنّ قمم عدم الإنحياز صارت واقعة شاذة عن المشهد العالمي الذي يهيمن عليه طراز واحد من الإنحياز، بل هي لقاءات فاقدة للمعنى حين يتواصل فيها التجاور بين دول منحازة، لكي لا يشدّد المرء على أنها عميلة تابعة للولايات المتحدة؛ وأخرى تعتبرها واشنطن رجيمة أو مارقة، أو داخلة في محاور شرّ (مثل إيران وكوريا الشمالية)؛ وثالثة في منزلة عجيبة بين منزلتين، فلا هي منحازة ولا هي غير منحازة (العقيد الليبي معمر القذافي جاء من قمّة مجموعة الثماني في لاكويلا الإيطالية، إلى قمّة عدم الإنحياز في شرم الشيخ المصرية، مطالباً بمقاطعة مجلس الأمن الدولي، واستبداله بمجلس أمن لامنحاز!). هذه، كما لا يخفى، ذروة الشكلانية الجوفاء في إدارة المؤسسات الدولية ذات الطابع المستقلّ، التي انقلبت إلى ما يشبه الميراث التاريخي الصرف، ولم تلفظ أنفاسها بعد لأسباب تتصل جوهرياً بالنفاق السياسي والديكور التجميلي.
وكما اقتضت المفارقة القاسية فاصلاً قصيراً بين قمّة الـ 8 وقمّة الـ 118، شاءت ذات مرّة تلازماً لا يقلّ قسوة بين القمّة الأمريكية ـ الروسية، والقمّة الـ 12 لدول عدم الإنحياز. كان الفارق صارخاً بالطبع، ولم تكن معطيات الجغرافيا والمسافات القارّية الشاسعة هي وحدها التي تفصل بين موسكو ودوربان ـ جنوب أفريقيا. كانت مسائل أخرى جوهرية تخصّ الموقع والدور والوظيفة الذي تشغله القمّتان في النظام الراهن للعلاقات الدولية الراهنة. وكان ثمة الكثير الذي يدور حول التاريخ والاقتصاد والسياسة والثقافة والديموغرافيا، أو كلّ ما يُبقي الشمال شمالاً والجنوب جنوباً، باختصار كلاسيكي… مفزع بعض الشيء، لأنه على وجه الدقّة ما يزال كلاسيكياً لا يتزحزح قيد أنملة.
كأنّ البَوْن الفاغر بين هذَيْن الإنشطارَيْن للكرة الأرضية يحتاج إلى مزيد من التشديد، عن طريق حسّ المفارقة بالذات. المثير أكثر أنّ العالم وجد الفرصة لممارسة الإشفاق المزدوج: على ما آلت إليه قمّة موسكو من نتائج هزيلة، وما أسفرت عنه قمّة دوربان من قرارات أشدّ هزالاً، أو بالأحرى أبعد أثراً وأمضّ كارثة! ذلك لأنّ الهزال هنا يختلف جوهرياً، ومصائر الإقتصاد الروسي، الوليد الليبرالي الذي لم يكن يعطي مؤشرات قوية على أنه سوف يشبّ صحيحاً معافى؛ لم تكن شبيهة بمصائر مليارات البشر في دول الجنوب، الذين يشغلون حصّة عدم الإنحياز من سطح المعمورة.
وقد يسأل سائل، بحقّ، عمّا إذا كان مصطلح ‘عدم الإنحياز’ يملك اليوم أيّ محتوى ملموس. عدم انحياز بين مَنْ ومَنْ؟ ولصالح مَنْ بالضبط (إذْ ينبغي أن يكون هنالك ذلك الفريق الثالث الذي يصبّ موقف عدم الإنحياز في صالحه)؟ الخطوة الآمنة الأولى في التعامل مع هذا التساؤل المشروع قد تتمثّل في حصر المصطلح بين مزدوجات، بحيث تكون له مساحة دلالية مفتوحة بعض الشيء، تاريخية غالباً، سواء لجهة التأويل أو لجهة الإلتباس. إنه مصطلح، مثله مثل سواه من المصطلحات التي فقدت الكثير من مخزونها الدلالي هذه الأيام، دون أن تنقرض أو تُسحب تماماً من التداول: ‘يسار’، ‘يمين’، ‘حركة تحرّر’، ‘ثورة’، ‘ثورة مضادة’، الخ…
خطوة تالية هي وضع فكرة عدم الإنحياز جانباً، ليس لأنّ الفكرة بحدّ ذاتها باتت نافلة مُماتة فحسب، بل أساساً لأن الغالبية الساحقة من كتلة الدول الأعضاء هي منحازة شاءت أم أبَت، على هذا النحو او ذاك، سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، أو حتى ثقافياً. إنها، كذلك، هي منحازة بحكم ما يُناط بها من وظائف ضمن التقاسم الدقيق للأدوار الإجمالية في نظام العلاقات الدولية، الذي يحدث أن يُسمّى أحياناً ‘حوار الشمال والجنوب’ من باب الكياسة، و’حوار الأغنياء والفقراء’ من باب تسمية الأشياء بمسمّياتها الفعلية.
والمشكلة الأولى أنها دول منحازة وهي في موقع الضحية، التي تدفع أبهظ أثمان ذلك التقاسم غير العادل للأدوار والمحاصصات والثروات؛ ومنحازة وهي في دور صنبور طاقة، ومنجم موادّ خام لا غنى عنها لكي تدور آلة الإقتصاد الدولي، وصناعات الكبار. المشكلة الثانية، والأخطر ربما، هي أنّ الحيلة تنطلي على هذه الضحية فتلعب ـ راضية مرضية، أو متطوعة ـ دور الضحية التي تأنس في ذاتها دور الشريك، المشارك في صناعة نظام العلاقات الدولية، أو في صناعة التاريخ ليس أقلّ!
وهكذا فإنّ وثيقة قمّة شرم الشيخ تتضمن 517 بنداً، معظمها يعيد إنتاج الرؤية الغربية (المنحازة إلى الغرب كما يتوجّب التذكير، وليس للجنوب!) حول نظام العلاقات الدولية، والأمن العالمي، والعولمة، والتبادل، والتنمية، والمثاقفة. كذلك تتبنى الوثيقة، في قسط كبير من البنود، تلك المسائل التي تهمّ الغرب أساساً (وهذا قد لا يكون عيباً في حدّ ذاته)؛ ولكن على حساب الجنوب (وهنا العيب، والطامة الكبرى). فهل صناعة التاريخ في دول عدم الإنحياز تنحصر في مكافحة الإرهاب الدولي (بالنيابة عن الكبار الذين يستهدفهم ذلك الإرهاب بهذا القدر أو ذاك)؛ أو في الحدّ من انتشار التكنولوجيا النووية (بالنيابة عن النادي النووي، الذي يحتكر الكبار حقّ الإنتساب إليه)؛ أو في فرض الرقابة الذاتية الصارمة على إنتاج أسلحة الدمار الشامل (هذه التي، بدورها، لم نعد نعرف لها معنى دلالياً ملموساً)؟
وبدل التفكير الدونكيشوتي في إلغاء مؤسسات كبرى تنتهي أسماؤها دائماً بصِفة ‘الدولي’، مثل مجلس الأمن الدولي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي؛ أو التسليم القدري بأنها خالدة أبدية لا تُمسّ ولا تُعدّل، لعلّ من مصلحة دول عدم الإنحياز التفكير الجدّي في تحسين تمثيلها السياسي الفعلي والفاعل في تلك المؤسسات، سيّما وأنّ الكتلة تعبّر عن مصالح ثُلثَي البشرية. لقد رأينا الدور الخجول الذي لعبته الصين الشعبية في خلخلة التوازنات الغربية داخل مجلس الأمن الدولي، بعد انضمامها إليه، بصدد استمرار الحصار على العراق مثلاً، ثمّ شنّ الحرب عليه وغزوه عسكرياً. ولكن هل ستكون تلك الخلخلة على الشاكلة المحدودة ذاتها، لو أنّ الهند أو جنوب أفريقيا أو فنزويلا أو حتى مصر… كانت هي العضو الدائم السادس في ذلك المحفل؟
وللناظر إلى جدول الأعمال المقترح، المكتظّ بما هبّ ودبّ من قضايا ومشكلات، أن يتساءل: أهذه، حقاً، بنود تفكير وبحث وعمل وإنجاز، أم هي زخرف مكرور فارغ لفظي أجوف، لا يُراد منه حتى ذرّ الرماد في العيون؟
أليس لافتاً، في العودة إلى أمور الشكل، أنّ 55 فقط من زعماء عدم الإنحياز تنازلوا، فوافقوا على المشاركة في قمّة شرم الشيخ؟ وأنّ نظام بشار الأسد لم يمارس إلا الحدّ الأدنى من ‘الممانعة’، هذه المرّة، فأرسل نائب وزير الخارجية فيصل المقداد لتمثيل البلد؟ وكيف يمكن أن يَصْدُق وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، أو يصدّقه المرء، حين يقول إنّ حركة عدم الإنحياز صارت ‘ممثّلة لدول الجنوب في سياساتها ومواقفها ودفاعها عن مصالحها تجاه الدول الأكثر تقدماً من ناحية، أو الدول الكبرى التي لها سياسات تتناقض مع سياسات الحركة من ناحية أخرى’؟ وهل اتخذت القمة الـ 15 مواقف أكثر انحيازاً إلى مصالح شعوبها، في هذا الطور بالذات من تأرجح الاقتصاد العالمي بين مأزق شامل يصيب الصغار قبل الكبار، ومظاهر نقاهة لا يلوح انها سوف تتجاوز راحة الكبار؟ ألم يكتفِ الكثيرون برفع شعار عدم الإنحياز، وهم في الواقع لم يواصلوا انحيازهم إلى القطب الأوحد، الوحيد في نهاية المطاف، فحسب؛ بل انحطّوا إلى مرتبة أدنى في موقع تابع لا يتمتع حتى بشرف الإنحياز؟
وبعد 54 سنة على إطلاق المصطلح العجيب، تواصل قمم عدم الإنحياز عجزها عن استيعاب جدل المصطلح في العصور الراهنة، وتفضّل المضيّ أكثر في تحنيطه، فلا تُبقيه إلا في صيغة جثة مديدة الاحتضار تارة، أو جثّة آيلة إلى اهتراء طوراً. وخير إكرام للمصطلح، والحال هذه، هو دفنه!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –