كلمة عن حلمي
عباس بيضون
منذ علمت أن حلمي موسى قضى 15 عاماً في سجن إسرائيلي وأنا لا أعرف كيف أتصرف معه. كيف يمكن أن نتكلم مع واحد عاد من الجحيم. كيف يمكن لمن أفنى 15 عاماً متصلة في السجن أن يتكلم أو يتصرف. هل يكون لكل كلام أو تصرف من هذا العمق الذي ينتهي إلى زنزانة انفرادية. هل يمكن لماض كهذا أن يبقى ماضياً فعلاً. ألا يعشش في ثنايا الحاضر وثنايا النقش وثنايا السكون. ألا يحضر كشبح كل لحظة. لم أسأل حلمي مرة واحدة عن معاناته هذه. لم أجسر على أن أسأله. خلت أنني هكذا أحرجه. تراءى لي أنه بصوته العالي يرتفع فوق هذه الفترة المظلمة. خشيت أنه يبدو أفتى من عمره بسببها، كأنما توقف عن أن يكبر هناك. كأنما أراد أن يوحي بأنه لم يخسر شيئاً. كأنما جرأته وعفويته واستخفافه أحياناً هي التعويض الذي سمح لنفسه به. لواحد من الجحيم أن يتكلم بدون أن يبالي. له أن يتصرف جزافا إذا أراد. مثل هذه الحسابات لا تخطر لمن قفزوا فوق النار، ولمن جاوروا العدم.
أتساءل بعد كل هذا الحديث عن الأبطال. هل يخرج المرء من معاناة كهذه بطلاً. من هم الأبطال إذاً إذا لم يكونوا كذلك.. إذا لم تقض 15 عاماً على المرء، إذا لم تأكل عقله أو نفسه، إذا لم ترده مسخاً. إذا خرج وما زال فيه نفس ولسان وعقل، فهل يكون عندئذ بطلاً؟ هل من حق رجل حي أن يكون كذلك أم أن البطولة من اختراع الموت. هل يبقى الحي بطلاً أم أن الحياة لا تصدق البطولات، مع ذلك فإن الذين يخرجون من الحفرة قد يمنحون وحدهم حق التعالي على الحياة التي لا تصدقهم، مع ذلك فإن ثمة ثمناً دفع في بلاد قلما ندفع فيها ثمناً لشيء. لا أعرف ما الذي يستحقه هؤلاء الذين أدوا سلفاً عنهم وعن غيرهم. لا شيء في الواقع يعادل. مع ذلك لا يمكن الحديث عن الخسارة، الخيال هنا يصنع الحسابات. أفكر أحياناً في الذين خرجوا على أقدامهم من محنة كهذه. أفكر بأن ثمة شيئاً إضافياً، ربما معدنا آخر، دخل في وجودهم. انهم بهذا الشيء غيرنا. إذا قبلوا الخوف فقد طردوا وحشا، انهم إذ يعيشون بعـــد الخــوف يتجاوزوننا حقا.
جاء حلمي إلى «السفير» صحافياً خبيراً بجدراة في الشؤون الإسرائيلية وحرر واحدة من أمتع الصفحات في هذا المجال. هذا كل ما خرج به من سجنه الطويل. لم يكن قليل الكلام لكنني لم أسمعه يتحدث عنه. لم يقايض به. كان لديه ما يكفيه من الكفاءة. لذا أحزن لا من أجله، لكن من أجلنا. أحزن من أجلنا لأن رجلا كحلمي لا تحرجه غثاثات كهذه ولأنه عاش طوال حياته يصارع أشياء مثلها. لكن 15 سنة من السجن كان ينبغي أن تحميه يوما واحدا على الأقل. 15 سنة من السجن كان ينبغي أن تشكل حصانة لأسبوع. لا يولّد اليأس سوى الارتياب، لكن الارتياب المتواتر قد يغدو نصا ترديـــا وسقــوطا أخلاقيا. لم أخف على حلمي. من أدى ما أداه لا ينحني.
السفير