خارج السياق
رزان زيتونة
صديقي ناشط حقوقي وكاتب صحافي شجاع ومثابر! أخبرني أخيراً كيف يشعر أنه تحول كلياً إلى كائن ‘نكد’، ولم أستطع أن أوافقه أكثر. وزدت عليه بأنني أشعر فضلاً عن ذلك بالشيخوخة المبكرة، فوافقني وزاد، أنه يشعر أيضاً بالانمحاء، ففضلت تعبير الاختفاء… ووافقني. عبّر عن يأسه من كونه أصبح كغراب النحس لا ينقل أو يتناقل غير أخبار الأسى،وكيف أنه إن رزق بطفل في المستقبل، فليس لديه حق ما يحدثه عنه، لا مغامرات خارج إطار الاستدعاءات الأمنية، ولا لحظات حميمة خارج إطار ‘استقبل وودّع’ (مفرج عنهم ومعتقلين). وحدثته كيف أشعر بالغيرة من الأجيال التي سبقتنا بقليل أو بكثير، حين تضيء عيونهم ببريق جميل فيه مكر كلما تحدثوا عن ماضيهم. وكيف كانت حياتهم الثقافية والاجتماعية صاخبة ومثيرة وتستحق أن تروى. وكيف أنهم لا يملون من سرد ذكرياتهم كأنما بهدف إغاظتنا ودفعنا لنشعر كم هي خاوية حياتنا إلا من أنشطة المطاعم والمقاهي، وهذه لا نقدر على تكاليفها في أحيان كثيرة. وأخبرني صديقي عن طقوس حضور السينما أسبوعياً كما حدثه بها والداه، ورقصهما ‘التانغو’ وحضورهما حفلات فيروز ولا أدري ماذا أيضاً؟ ولم يكونا من الأثرياء ولا من طبقة ‘الهاي كلاس’. وأكدت له أننا ربما قصَّرنا بحق أنفسنا، ولعلنا نفوِّت الكثير في العيش على ذكريات الآخرين. وأنه صحيح أن أماكن اللقاء الاجتماعي الوحيدة في حيِّنا والأحياء المحيطة بنا هي الجوامع، وأن عائلاتنا التي تمطرنا بذكرياتها تلك انقلبت إلى أنشطة الذكر وتحفيظ القرآن بعد أن جُففت تدريجياً منابع ما ارتادوا من أماكن وما مارسوا من أنشطة خلال العقود الثلاثة الماضية، وأنه لا توجد في دمشق غير سينما وحيدة ‘راقية’ بأفلام سخيفة- قبل أن تفتتح سينما جديدة أخيراً، وأنه توجد آلاف المطاعم وليس أي أندية اجتماعية، والشعراء الذين يحيون الأمسيات لم نسمع بأسمائهم يوماً، والحفلات الموسيقية نخبوية جداً والغنائية شبابية جداً… وأننا قبل كل شيء نقاقون، وإن وجد نشاط وحضرناه أُخذنا بالسلبيات ورجعنا إلى الذكريات، مرة أخرى التي لم نعشها أصلاً!
صديقي اقترح أن نقاوم سلبيتنا ونخرج من قوقعتنا، ونبدأ بحضور حفل الجاز المقام في قلعة دمشق في المدينة القديمة. امتنع أي منا عن التعليق عن مدى تقبله أو استمتاعه بهذا النوع من الموسيقى، دارينا ‘بؤسنا’ الثقافي وتوجهنا إلى القلعة. العشرات من الصبايا والشباب يتوافدون إلى المكان برقي وتهذيب وغرور. أعداد كبيرة بينهم من هؤلاء الذين يثيرون حماستي وسعادتي وهم في مقتبل العمر، بأزيائهم الغريبة وشعورهم المصففة بغرابة أكثر. صديقي تساءل، لماذا يبدو الناس في مثل هذه المناسبات مختلفين جدا عن أولئك الذين نصادفهم كل يوم في الشارع والحي والعمل؟ حتى أنهم مختلفون عن جميع من صادفناهم في طريقنا إلى القلعة بدءا من حي العمارة القديم مروراً بمقام السيدة رقية عبوراً بمحيط الأموي. عندما لم يسمع مني جواباً، قال إنه يشعر ‘بالغربة’. كدت أخبره أنه عامل السن أولاً، وطبيعة الموسيقى التي تجتذب ربما فئات ‘غريبة’ عنه، لكنه عاجلني بالسؤال، حول لماذا هذا الجمهور اليافع والأنيق و’الحداثي’ صامت هكذا ومتصلب في مقاعده أو وقوفاً، مع أن الموسيقى تكاد تجعل جدران القلعة تتمايل؟ ولماذا لا يبدو عليهم الانفعال أو الحماس في ما عدا تصفيقة باهتة مع نهاية كل وصلة موسيقية؟ كدت أقول له إنه ليس لنا أن نعرف ردود أفعال الناس الجسدية والنفسية على موسيقى الجاز لأنها المرة الأولى التي نحضر فيها حفلاً مماثلاً، لكنني بدلا من ذلك زعقت، مشيرة إلى صفوف عدة من عناصر الشرطة يجلسون وراءنا لم أنتبه إليهم لحظة دخولنا، هل هي مظاهرة أم حفل فني تساءلت؟ هدأني قائلاً، أنهم ربما موجودون أصلاً في القلعة ولم يجر استحضارهم خصيصاً ‘لحماية’ الحفل! وبعد لحظات صمت استدرك، ولكن ماذا يجري في هذه القلعة؟ كأن أمعاءها قُلبت، أعمدة وأحجار أثرية متراكمة هنا وحفر هناك وأرض ترابية مغبرة، هذا والقلعة تحت أعمال الترميم منذ وعيت على هذا العالم! توسلت إليه أن يبقي حسه الصحافي جانباً كي نستمتع قليلاً بالحفل، قبل أن أتذكر معلومة لم أستطع كبحها في داخلي. قلت، هل تعلم أن القلعة كانت تستخدم كسجن حتى وقت قريب، منذ نحو عقدين ربما؟ وأنني أعرف بعض المعتقلين السابقين ممن حلوا ضيوفاً عليها، ترى أين كانوا يحتجزون؟ في أي برج أو قبو؟
سألت السؤال الأخير وأنا أتجول بنظري عبر القلعة المهيبة، بينما صديقي يتذمر، ويقول إن السؤال هو تماماً خارج السياق، وأن هذا ليس مما اتفقنا عليه وأن الطبع غلب التطبع والحاضر غلب الماضي، وأنه يفضل جداً لو كان بقي في المنزل هذا المساء واستمع إلى ذكريات والدته، حيث كل شيء مألوف وطبيعي واجتماعي وثقافي من غير غربة أو نكد، وحيث كل شيء في سياقه، أو على الأقل، لم يكن خارج سياقه إلى هذا الحد!
* كاتبة سورية