مرايا بورخيس وماندلستام
I
في حديث اذاعي اجري مع بورخيس في اثناء زيارته باريس عام 1964، اعلن ان “كتابة الاله” هي ايضا من اقاصيص السيرة الذاتية. “امضيت، قال، احدى عشرة ليلة وأحد عشر يوما في السرير، في جو ارجنتيني قاربت حرارته درجة الاربعين، وذلك على اثر عملية جراحية في عينيّ. كان عليَّ ان امضي تلك الايام والليالي، ممدداً على ظهري بلا حراك. احيانا كنت انام. وكنت ابدو كأني مقيد. وخطرت لي اذذاك فكرة الرجل المقيد. وكذلك فكرة اخرى توجد في القبلانية La Gabale وهي ان كل ما في الكون، هو نوع من الكتابة. توماس دي كوينسي له الفكرة ذاتها. قال، ان اصغر الاشياء قد تكون مرايا سرية كأكبرها. وهنا تصورت كتابة يكون مثبتا فيها سر الكون. وتذكرت زيارة قمت بها في صغري الى حديقة الحيوانات في بوينوس آيرس. وفكرت في الرقط التي ابصرتها على جلد النمر والفهد التي تبدو كعلامات. ثم جمعت هذين العنصرين: التجربة المريعة – البقاء جامدا ومقيداً – وفكرة الرقط، باعتبارها كتابة على جلد النمر. اضافة الى ما كنت قرأته في بعض الكتب عن الاختبار الصوفي وامكان ايصاله”. هكذا ولدت هذه الاقصوصة الفانتازية. وجاءت كأفضل مدخل الى متاهات بورخيس: متاهات الزمان ومتاهات المدى، هذين (اي الزمان والمدى) الكل المتراص. استمد الكاتب الارجنتيني هذا الدوار الميتافيزيقي من “مفهوم القلق” لدى كيركيغارد وكافكا العضوين البارزين في عائلته الفكرية. ويا له من دوار راعب! فأنت قد تنام وتحلم، ثم تستيقظ، لا لتعود الى اليقظة، بل الى حلم سابق. وهذا الحلم في داخل حلم آخر، الى ما لا نهاية.
II
أوصيب ماندلستام (م. 1891) شاعر روسي كان يغرد خارج سرب نظام الاتحاد السوفياتي. فعاش مضطهدا وملاحقاً، حتى أُعلن موته رسميا عام 1938. ولكن من دون ان يُعرف السبب الحقيقي لهذا الموت ولا تاريخه فعلا، وظلا مجهولين. ويعود الفضل الى زوجته الشاعرة والاديبة ناديجدا ماندلستام التي كانت تحفظ عن ظهر قلب الكثير من اشعاره. فعملت وبعض الاصدقاء على جمع آثار هذا الشاعر الذي اظهر، مع الايام، انه من أهم الاصوات وأطرفها في ادب القرن العشرين الروسي. فقد فرضت اعماله، اعادة النظر في كثير من الافكار المسلّم بها عامة عن الشعر الروسي المعاصر، وبخاصة عن معنى الحركتين الرئيسيتين المنبثقتين من الرمزية وهما: الكمالية Ocmeisme والمستقبلية Futurisme. كما اثبتت هذه الاعمال أن ماندلستام، في حياته وادبه، لا يمكن فصله عن الشعر الروسي والشعر الاوروبي. ألم يكتب: “حاولوا اذاً ان تنزعوني من هذا القرن! اؤكد لكم، انكم ستفشلون”. ولعل مذكرات زوجته قد ساعدت كثيرا في معرفته بشكل اوفى. تُرجمت اعماله الى لغات عدة، وفي الاخص الى الالمانية على يد الشاعر الكبير باول تسيلان.
كتابة الاله
خورخي لويس بورخيس
السجن عميق وحجري. له شكل نصف كرة كامل تقريبا. والارضية، وهي ايضا من حجر، تحدّه قبيل الدائرة الكبرى، مما يزيد بطريقة ما في الاحساس بالضيق والمدى. يقطعه جدار في الوسط، جد مرتفع. لكنه لا يبلغ الجزء الاعلى من البرج. من جهة، أوجد انا، تثيناكان، ساحر هرم كاهولوم الذي احرقه بدرو دي البارادو، ومن جهة اخرى، يوجد نمر مرقط يقيس بخطى متساوية وخفية، الزمان ومدى زنزانته. وبمستوى الارضية، ثمة نافذة واسعة مجهزة بقضبان حديد تشق الجدار الاوسط. في ساعة انعدام الظل (منتصف النهار)، يُفتح باب في السقف، ويبدأ سجان محت السنون تقاسيمه شيئاً فشيئا، بتحريك بكرة من حديد، ويُنزل لنا في طرف حبل، جرتي ماء، وقطعا من اللحم. ويغمر الضوء اذ ذاك الزنزانة، وفي هذه اللحظة، يمكنني أن ألمح النمر.
لا اعرف عدد السنين التي امضيتها في الظلمة، انا الذي كنت ذات يوم شابا، وفي استطاعتي ان اتنقّل في هذا السجن، لا افعل شيئاً آخر سوى ان انتظر، في ساعة موتي، النهاية التي قدّرها لي الآلهة. لقد شققت صدور الضحايا بمدية عريضة من الصوان. والآن لا اقوى، بدون اللجوء الى السحر، على رفع جسمي عن التراب.
ليلة احتراق الهرم، عذّبني رجال ترجلوا من على خيول عالية، بمعادن محرقة كي ابوح لهم بمخبأ كنز. وأطاحوا امام عيني نصب الاله، لكن هذا الاله لم يتخل عني قط، وتحملت عذاباتي في صمت. مزقوني، حطموني، وشوهوني. ثم صحوت في هذا السجن الذي لن اغادره ابدا في حياتي الفانية.
ومدفوعا بالضرورة الى عمل شيء كي املأ وقتي، رأيت ان أتذكر في هذه الظلمة، كل ما عرفت. انفقت ليالي بكاملها في تذكر فئة الافاعي المنحوتة من الحجر، وشكل شجرة طبية. وبهذه الطريقة هزمت السنين، واستحوذت على كل ما كان يخصني. وفي احدى الليالي، شعرت بأني اقترب من ذكرى عزيزة: المسافر قبل ان يرى البحر، يحس باثارة في دمه. وبعد بضع ساعات، بدأت استشف تلك الذكرى. كانت عن احد الطقوس المتعلقة بالاله. فهذا الاله، تحسبا منه لما سيحدث في نهاية الأزمنة من ويلات ودمار، كتب في اول ايام الخليقة، عبارة سحرية قادرة على درء تلك الشرور. كتبها بطريقة توصلها الى ابعد الاجيال، ولا تقوى المصادفة على العبث بها. لا احد يعرف اين كتبها، ولا بأي حروف، انما يساورنا الشك في أنها في مكان ما، بشكل خفي، وأن شخصا مختاراً سيقرأها في احد الايام. وتصورت اذذاك، اننا الآن، كما الحال دائما، في آخر الازمنة، وان قدري كآخر كاهن للاله سيمنحني ربما الامتياز بقراءة تلك الكتابة. ولم تكن جدران السجن المحيطة بي، لتحول بيني وبين هذا الأمل. وقد أكون رأيت الوف المرات تلك الكتابة في كاهولوم، ولم يكن ينقصني سوى فهمها.
هذا التفكير بث فيّ النشاط، ثم ادخلني في حالة دوار. فعلى كل مساحة الأرض، ثمة اشكال قديمة، أشكال غير قابلة للفساد، وأبدية. وأيٌّ منها، قد يكون الرمز المنشود، قد يكون جبلٌ كلمة الاله، او نهر، او امبراطورية، او تشكل كواكب. ولكن مع تعاقب القرون، تأتكل الجبال، ويتحول مجرى النهر، وتقاسي الامبراطوريات التقلبات والنكبات، ويتغير تشكل الكواكب. حتى في الجلَد، ثمة تغير. الجبل والكوكب كائنان. والكائنات تزول. وعليه، بحثت عن شيء اكثر ثباتا، واقل عطبا. فكرت في اجيال الحبوب، والاعشاب، والطيور، والبشر. وربما تلك العبارة تكون مكتوبة على وجهي، وأن اكون أنا بذاتي غاية بحثي. آنذاك، تذكرت ان النمر هو احد صفات الاله.
وطفحت نفسي بالورع. وتخيلت اول صباح من الزمان. تخيلت الهي يعهد برسالته الى الجلد الحي للنمور المرقطة التي ستتسافد وتتناسل الى ما لا نهاية في الكهوف، والحقول، والجزر. حتى يتلقاها اواخر البشر. تخيلت تلك الشبكة من النمور، تلك المتاهة الخطرة من النمور، التي تنشر الرعب في المروج والقطعان، كي تحتفظ برسم. وكانت الزنزانة المجاورة تضم نمراً مرقطا. فتبينت في هذا الجوار تأكيدا لحدسي وحظوة خفية.
وامضيت سنوات طويلة في دراسة نسق الرقط وتشكيلها. كل نهار مظلم كان يمنحني لحظة ضوء. وكنت اذذاك، اثبت في ذاكرتي الاشكال السوداء التي تدمغ الفرو الاصفر. بعضها كان يمثل نقطا، وآخر خطوطا مستعرضة على الجانب الداخلي من القوائم، وآخر كان يتكرر في شكل حلقات. ربما كانت صوتا بعينه او كلمة بعينها. والكثير منها كانت له اطراف حمراء.
لن أتحدث عن مشاقي وجهدي. اكثر من مرة صرخت في جدران سجني بأنه من المحال فك شفرة ذلك النص. ولاشعورياً، فإن اللغز الملموس الذي كان يشغلني، بدا اقل ارباكاً لي من اللغز العام الذي تمثله العبارة التي كتبها الاله. وسألت نفسي: “اي عبارة هي، قد يصوغها عقل مطلق؟” ورأيت انه، حتى في اللغات الانسانية، ليس ثمة كلمة لا تفترض الكون كله. فإذ تقول “النمر”، فهذا يعني النمرين اللذين انجباه، والايائل، والسلاحف التي التهمها، والكلأ الذي تغذت به الايائل، والارض التي كانت اماً للكلأ، والسماء التي اعطت الضوء للأرض. ورأيت ايضا، ان في لغة اله، كل كلمة ستعلن هذا التسلسل اللانهائي للوقائع، وليس على نحو مضمر بل صريح، وليس تدريجا بل فورا. ومع الوقت، ظهرت لي، حتى فكرة عبارة الهية، صبيانية وتجديفية. “ان الاله، في اعتقادي، ينبغي الا يقول سوى كلمة واحدة، وفي هذه الكلمة الكمال. لا يمكن اي كلمة ينطق بها، ان تكون ادنى من الكون او اقل من مجموع الزمان. وان مفردات البشر الطموحة والبائسة “كل، عالم، كون” هي ظلال وصور لتلك اللفظة التي تعادل لغة وكل ما يمكن ان تتضمنه لغة”.
وفي احد الايام، او احدى الليالي – وهل من فرق بين ايامي ولياليّ؟- حلمت بأن ثمة حبة رمل على ارضية سجني. وعدت الى النوم غير مبال. وحلمت بأنني أفقت وكان ثمة حبتا رمل. وعدت الى النوم مجدداً، وحلمت بأن حبات الرمل كانت ثلاثا. وظلت تتكاثر هكذا، حتى ملأت السجن، وانا، اكابد الموت تحت نصف الكرة الرملي هذا. وادركت اني كنت احلم. وبجهد كبير استيقظت وكانت يقظتي بلاجدوى: الرمال كانت تخنقني. احدهم يقول لي: “انت لم تستيقظ الى حالة اليقظة، بل الى حلم سابق. وهذا الحلم هو داخل حلم آخر، وعلى هذا المنوال حتى اللانهاية التي هي عدد حبات الرمل. وان الطريق الذي عليك ان تسلكه في عودتك لا نهائي، وسوف تلاقي حتفك قبل ان تستيقظ بالفعل”.
وأحسست بالضياع. كان الرمل يكمم فمي، لكني صرخت: “لا يمكن رمل الحلم ان يقتلني، ولا وجود لأحلام داخل احلام”. وايقظني وهج نور. في الظلمة العليا، كانت ترتسم دائرة مضيئة. وابصرت يدي السجان ووجهه، والبكرة، والحبل واللحم وجرتي الماء.
ان الانسان يتماهى تدريجا مع شكل مصيره، انه يصبح، مع امتداد الزمان، ظروفه الخاصة. وانا، اكثر من كوني محلل شفرة او منتقماً، او كاهنا للاله، كنت سجينا. لقد عدت من متاهة الاحلام التي لا تكلّ الى السجن القاسي، وكأني اعود الى مسكني. باركت رطوبته، باركت نمره، باركت فجوة الضوء، باركت جسدي الكهل المتألم، وباركت ظلمة الحجر.
وحدت يومذاك ما لا يمكنني نسيانه او الافضاء به. حدث ان اتحدت مع الالوهة، مع الكون (لا اعلم ان كان من اختلاف بين هاتين الكلمتين). الوجد لا يكرر رموزه. ثمة من رأى الله في نور، ومن رآه في سيف او في حلقات وردة. انا رأيت “عجلة” جد مرتفعة. لم تكن امام عيني، ولا ورائي، ولا الى جانبيّ، ولكن في كل مكان في الوقت ذاته. تلك “العجلة” كانت مصنوعة من الماء، وايضا من النار. وكانت برغم تبيّننا طرفها، لا نهائية، وتتكون من تشابك الاشياء كلها بعضها ببعض، الكائنة، والتي كانت، وستكون. وكنت خيطاً في تلك الحبكة الشاملة، وكان بدرو دي البارادو الذي عذّبني خيطا آخر. هنالك كانت تستقر الاسباب والنتائج. وكانت تكفيني رؤية “العجلة” حتى أدرك كل شيء بلا انتهاء. فيا له من فرح، هو الادراك؛ إنه أعظم من فرح التخيّل والاحساس! لقد شاهدتُ الكون وتصاميمه السرية. شاهدتُ البدايات التي يرويها “كتاب الموعظة”. شاهدتُ الجبال التي انبثقت من المياه. شاهدتُ البشر الاوائل الذين جُبلوا من مادة الاشجار. شاهدت الجِرار التي أغارت على البشر. شاهدت الكلاب وهي تمزّق وجوههم. شاهدت الإله الذي بدون وجه، المقيم خلف الآلهة. شاهدت مسالك لانهائية كانت تشكّل سعادة بالغة واحدة. وحين أدركتُ ذلك كله، توصلتُ ايضاً الى فهم كتابة النمر.
إنها صيغة من أربع عشرة كلمة عرضية (تبدو عرضية). كان يكفيني أن أنطق بها بصوت عالٍ حتى أصبح كلّي القدرة. كان يكفيني أن أنطق بها لأُزيل من أمامي هذا السجن الحجري، ليدخل نور النهار الى ليلي، لأعود شاباً، لأكون خالداً، ليمزّق النمر ألبارادو، لتنغرز المدية المقدسة في الصدور الاسبانية، لإعادة بناء الهرم، وإعادة بناء الامبراطورية. بأربعين مقطعاً، وأربع عشرة كلمة، أنا تثيناكان، سأحكم الاراضي التي حكمها موكتيثوما “Moctezuma”. لكنني أعلم أني لن أنطق بتلك الكلمات أبداً، لأني لم أعد أتذكّر قط تثيناكان.
فليمت معي السر المكتوب على جلود النمور. فمن قُدّر له أن يستشف الكون، أن يستشف تصاميمه المحتدمة، ليس في وسعه أن يفكّر في إنسان ما، في هنائه المبتذل أو سعادته الزهيدة، حتى وإن يكن هو بنفسه ذلك الانسان وذلك الانسان كان هو بنفسه، ولكن الآن، ما يهمه أمره؟ ما يهمه مصير ذلك الآخر، ما يهمه موطن ذلك الآخر، إن يكن هو الآن، ليس أحداً؟ لهذا السبب، لن أتلفّظ بهذه الصيغة؛ ولهذا السبب، سأترك الايام تنساني ممدداً في الظلمة.
(El-ALEPH, Emecé, Buenos Aires,1952)
ما بوسعي أن أفعل بطائر جريح
(مقاطع)
أُوصيبْ ماندِلْسْتامْ
الحجر
أُعطي لي جسد – لأي غاية؟ –
هذا الجسد الوحيد، الخاص بي كلياً.
مَن، قلْ لي، يجب أن أشكر
على هذه السعادة، العيش والتنفّس؟
أنا البستاني، والزهرة أيضاً،
في سجن العالم لست أبداً وحدي.
نَفَسي وحرارتي غشّيا بالبخار
زجاج الأبدية من زمان.
إن تلتصق الخطوط بالرسم،
فبعد لحظة لن يميّزها أحد.
كم يسيل بخارٌ في لحظة!
لكن المخطّط الأثير لن يعتريه فساد.
*
حزنٌ لا يوصف
فتح عينيّ واسعاً.
واستفاق إناء الزهر
ولطّخنا بالبلّور.
كل الغرفة مشرَّبة
بالفتور – يا له من دواءٍ لذيذ!
التفكير في أن مملكةً جدّ صغيرة
ابتلعت هذا الكمّ من النوم.
لم يبق غير القليل من النبيذ الأحمر
والقليل من شمس أيّار –
وبياض الأصابع الدقيقة للغاية
يفتّت البسكويت الرقيق.
*
على المغزل الصّدَفيّ
الذي يمدّ خيطه الحريري،
إبدئي أيتها الأصابع الرشيقة
بالأمثولة الجذّابة.
إنَّ مدَّ يديك وجَزْرهما،
وحركاتهما الرتيبة،
كما لو أنكِ كنتِ ترقين
لا أعلم أي رعبٍ شمسي،
عندما كفّك العريضة،
الشبيهة بصَدَفةٍ برّاقة،
تنطفئ، تارة نحو الظلمات الهابطة،
وطوراً تختفي في النار الوردية!
*
القفير المثلوج أكثر إبطاءً،
وبلّور النوافذ أكثر شفافية.
وعلى الكرسيّ مرميّ بإهمال
النقاب الأزرق.
وثملاً من شدّة السكر
يكابد القماش الصيف،
وكأن الشتاء يتجاهله،
وقد أثارت عطفه مداعبة الضياء.
وإن يُمطر ثلج الأبدية
في الألماس الجليدي،
فهنا ارتعاش اليعاسيب،
الناشطة للعيش وبأعينٍ زرقاء.
*
الهاوية الهائلة مظلمة وشفّافة،
النافذة الفاترة تبيضّ.
ما الذي يجعل القلب يثقل
في بطء شديد وعناد؟
أحياناً يجري نحو العمق بكل ثقله،
يسكنه حنينٌ الى الطّمي الأثير،
أو يرتفع فجأةً مثل قشّة
ويعوم بلا جهد.
بعذوبةٍ خادعة، ابقَ في السرير
وهدهد ذاتك طول عمرك.
تحمّل قلقك كخرافة،
وكن ناعماً مع السأم الرائع.
*
جَرْيُ الأحصنة جدّ بطيء
وشعلة القناديل جدّ ضعيفة!
أتساءل، الى أين أُقاد؟
أولئك المجهولون ربما يعرفون.
أستسلم لرعايتهم،
البَرْد يستولي عليّ، وكذلك النوم؛
في منعطفٍ يقذفني ارتجاج عجلةٍ
بشعاع نجمة في وسط الجبين.
تمايُل الرأس المشتعل،
والصقيع الناعم للأصابع المجهولة،
والصنوبرات الداكنة، وأشباحها،
كلها محجوبة عن نظري.
*
الشعاع الشحيح ينشر الضوء
ببرودةٍ ضئيلة في الغابة الندية.
وأنا أحمل في قلبي الحزن
بهدوء، كطائرٍ رماديّ.
ما بوسعي أن أفعل بطائرٍ جريح؟
الجلَد صامت، جامد.
في برج الأجراس المحاط بالضباب،
ستكون نُهِبت الاجراس.
والارتفاع اليتيم الأبكم
ينتصب الآن
كبرجٍ أبيض قفرٍ
يأوي اليه الصمت والسحاب.
الصباح، يتعذّر سَبْره من الرقّة،
وشبه الوعي والتهويم
والنسيان العطش،
وأجراس الافكار المضبّة…
*
الجوّ كئيبٌ صاخبٌ ونديّ؛
نشعر بأننا في أمانٍ في الغابة.
وأمضي طيّعاً، حاملاً مرّة أخرى
الصليب الخفيف، صليب النزهات المنعزلة.
ومجدّداً، نحو الوطن اللامبالي
يصعد التعنيف، كالطائر حلزونياً.
أشارك في الحياة المظلمة،
وأنا بريء من عزلتي.
طلقةٌ نارية. على البحيرة الساكنة،
تُرخي أجنحة البطّ بثقلها الآن.
وبريقٌ وجودٍ مزدوج
يُنوّم جذور الصنوبرات.
يا السماء الزجاجية ذات اللمعان العجيب،
يا الألم المضبّ للعالم –
اسمحي لي بأن أكون مثلك مضبّاً،
واسمحي لي بأن لا أحبك.
*
اليوم يوم سيئ،
وجوقة الجداجد غافية،
وملجأ الصخور المظلمة
أكثر ظلمةً من أحجار القبور.
نعيق الغربان النبوئية،
واللحن الرتيب للسهام الطائرة…
أنا في حلم، كابوس.
بعد لحظةٍ زوال اللحظة.
أبعد حدود الظاهرات،
إطّرح القفص الارضي،
ليُدَوِّ النشيد الوحشي،
نحاسُ الاسرار المتمردّة!
بندولُ النفوس الكالح
يتأرجح، عمودياً أخرس،
والقدر في شغفٍ
يقرع بابنا المحظور…
*
الريح السوداء تثير الرعشة
في الاوراق المضطربة التنفّس،
والسنونو المرتجف
يرسم حلقةً في السماء القاتمة.
الظلمة المتكاثفة
تتنازع في قلبي بهدوء
(قلبي العطوف المحتضر)
مع الشعاع الذي ينطفئ.
وعلى الغابة التي يدثّرها المساء
يُطلّ قمر نحاسي.
ولكن لمَ هذا الشح في الموسيقى
وهذا الصمت المطْبِق؟
*
ما الذي يجعل النفس جدّ شجيّة،
ويكون ثمة قلّة من الاسماء العزيزة،
والنغمُ الهارب ليس سوى مصادفة،
سوى عصفة ريحٍ فجائية؟
إنها تثير غيمةً من غبار،
تُرعش المجذاف الورقيّ،
ولا تعود أبداً ثانية، أو بالحريّ
ستعود بشكلٍ مختلف.
يا أنت، يا ريح أورفيوس العظيمة،
ستمضين نحو الأقطار البحرية!
لولعي بالعالم اللامخلوق
نسيتُ “الأنا” اللامجدية.
لقد تهتُ في غابة منمنمة
واكتشفتُ مغارةً لازورديّة…
هل صحيح أنني حقيقي،
وأن الموت حقيقةً آت؟
المحارة
ربما أكون غير مجدية لك
يا ليل؛ فمن الهاوية الكونية
قُذفتُ على شاطئك
محارةً بدون لؤلؤة.
موجتك اللامبالية تندفع،
وأنت تصدح بصوتك في تنافر؛
لكنك ستحبّها، ستثير إعجابك
خدعةُ المحارة اللامجدية.
سترتدي جُبّة الكاهن،
وستتمدّد قربها على الرمل،
وتشدّ اليها بعُرىً لا تُفصَم
الجرس الضخم المتمايل.
وستملأ جوانب المحارة الهشّة،
بصخَب الزبد،
والريح، والمطر، والضباب،
كمثل بيتِ قلبٍ مهجور ¶
(Ossip Mandelstam, Tristia & autres Poèmes, NRF)
هنري فريد صعب
النهار الثقافي