الروائيون اليابانيون العظام: عزلة إجبارية ساهمت بحفظ التراث والأدب
خالد ربيع السيد
الأدب الياباني، بوصفه أدباً عظيماً، يعكس الكثير من خصائص الشعب الياباني، ويمتاز عن آداب الشعوب الأخرى بإبراز التقاليد اليابانية العريقة التي يحرص الإنسان الياباني على التمسك بها، ومدى تماهيه مع الطبيعة والروحانيات والقوى الخفية للأشياء. عندما أنتج اليابانيون أول أعمالهم الأدبية المكتوبة في القرن السادس الميلادي، كانت بلادهم، آنذاك، معزولة ولفترة طويلة عن بقية دول العالم، وكانت لغتهم المكتوبة صعبة التعلُّم ما أسهم في بقاء الأدب الياباني نائياً وغريباً حتى بداية القرن العشرين.
لعل أقدم الكتب المعروفة في الثقافة اليابانية لم تكن مهمومة بالأدب، بل كانت منصبة في التاريخ، وأشهر هذه الكتب كتابان تاريخيان، الأول (سجل الأحداث القديمة) 712م، والثاني (تاريخ اليابان) 720م، وهما كتابان يمجدان الأسرة الإمبراطورية بالدرجة الأولى، ويسردان تاريخها في أسلوب فني خاص، ويشتملان على الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير والأغاني.
لكن ما يمكن الاعتداد به واعتباره كتابة أدبية خالصة هي قصة (حكاية حطّاب البامبو) التي دونها كاتب مجهول في بداية القرن العاشر، وصنفت فيما بعد أول أعمال الأدب الروائي الياباني. ثم بتأليف الكاتبة «موراساكي شيكيبو» (حكاية جنجي) في بداية القرن الحادي عشر الميلادي، تحققت قفزة هامة في فن القص، حيث اعتبرت حكاية جنجي من أعظم الأعمال السردية اليابانية. وهي متفوقة كثيرًا على القصص التي سبقتها من جهة أسلوبها الفني ووصفها الدقيق للعواطف الإنسانية. واستمرت، هذه القصة الطويلة، متصدرة تلك المكانة الى أن ظهر (كتاب المخدع) في القرن الرابع عشر، الذي صوّرت فيه مؤلفته «سي شوناغون» عادات وقيم وموروثات الأمبراطورية الهيانية (794-1185).
وإبان فترة الطوكيوجاوا (1603 – 1867)، وهي حقبة هامة في تاريخ تطور الحياة في اليابان، ظهر نوع جديد من القصائد الشعرية سميت بـ «الهايكو»، وكانت مقاطع قصيرة مكتوبة بأسلوب شعري هزلي، لا تصعب على المتلقي من حيث الفهم والتأويل، وتمتاز بوضوح شعريتها وبسطتها. الى أن حدث في أواخر القرن السابع عشر الميلادي أن غيَّر الشاعر «ماتسو باشو» قصيدة الهايكو إلى شكل فني جادّ. وتناول في قصائده، التي كُتبت حسب قواعد صارمة ودقيقة، موضوعات هامة عن الطبيعة، توحي بأفكار مجردة ومشاعر عميقة، يتعين على القارئ أن يعمل خياله لتفسيرها وشرحها وتذوقها. وكان لذلك، فيما بعد، أثر قوي على الكتابة الروائية في اليابان.
في جانب آخر ازدهر، في القرن ذاته، نوعان من الدراما هما: مسرح الكابوكي ومسرح العرائس/ الدمى المتحركة. ومسرحيات الكابوكي ميلودراما عاطفية تظهر الحياة في صورة كرنفالية صارخة، فتهتم بالأزياء الملونة والموسيقى الموحية والتمثيل النابض بالحيوية. وقد قدم مسرح العرائس في بداية القرن الثامن عشر الميلادي عددًا من الروائع الدرامية كتبها كبير الكتاب المسرحيين اليابانيين «شيكاماتسو مونزايمون»؛ الذي حوّل بملكته الشعرية الأصيلة الشخصيات البسيطة، مثل عمال المتاجر والصيادين والعاهرات، إلى شخصيات مأساوية بامتياز.
إذن يمكن القول إن هذه الأشكال الكتابية مضافة إليها الأساليب والأفكار الغربية أثرت منذ نهاية فترة الطوكيوجاوا أكبر أثر على الأدب الياباني. وكان من نتائج هذه التأثيرات ظهور الرواية الحديثة على يد الروائي والناقد الأدبي «ناتسومي سويسكي» الذي بنى الرواية الحديثة في أوائل القرن العشرين، ورسخها كشكل أدبي له اعتباره وجمالياته، خصوصاً روايته (قضاء ليلة مظلمة) 1937، التي كرسته كمؤسس لـمدرسة (الوجوه الأدبية الواعدة)، أو ما يعرف في اللغة اليابانية بمدرسة (الشينكانكا كوها).
ثم بظهور «ياسوناري كاواباتا» (1899 1972) وبحصوله على جائزة نوبل في الأدب العام 1968، كأول كاتب ياباني يفوز بها، لفت أنظار العالم الى الأدب الياباني الحديث.
وبرز بعده بسنوات قليلة أديب القرية «كينزا بورو أويه» الذي حاز نوبل العام 1994. الأمر الذي ساهم في ظهور الرواة اليابانيين المحدثين البارزين أمثال «جونيشيرو تانيزاكي»، و«كوبو آبي»، و«يوكيو ميشيما» الذين أرسو اتجاه مدرسة الشينكانكا كوها.
كاواباتا .. الرحالة الخالد
بداية.. يرى المهتمون بالأدب الياباني أن أهمية «كاواباتا» تمثلت مع صدور مجموعته القصصية القصيرة (146 قصة) المعنونة «قصص بحجم راحة اليد»، حيث اكتنفت في جوهرها قالبا إبداعيا أقرب إلى أن يكون المعادل النثري لقصائد «الرينجا» القديمة القائمة على الترابط والامتداد. وفي هذا السياق لا يتردد المترجم (جي. مارتن هولمان)، الذي قام بترجمة عدد كبير من قصصه إلى الإنجليزية في القول بأنها تشكل الوحدة الأساسية للتأليف عند كاواباتا التي بنيت عليها أعماله الأكثر طولاً واستفاضة، فهو مبتكر حقيقي لهذا اللون من الإبداع.
من زاوية أخرى يجد دارسوا أدب كاواباتا أنه متميز بالتوازن بين الأساليب العصرية الأوروبية والتيمات التقليدية اليابانية التي تجلت في روايته «منزل الجميلات النائمات» 1961، ليعبر عن الانسلاخ عن ثقافة الأجداد، أو المقارنة بين يابان الإمبراطورية ويابان بعد الهزيمة في الحرب. ورصده بدقة عميقة لفجوات الهوية المفقودة في المرحلتين. كما حاول التعبير عن التغيرات والقلاقل التي مرت على المجتمع الياباني، من خلال روايته «العاصمة القديمة» 1962، وروايته الأخيرة «جمال وأحزان» 1964. واشتهرت رواياته:
(بلاد الثلوج) و(لاعب الجو المحترف)، و(ضجيج الجبل )، و(سرب الطيور البيض).
وبالطبع روايته الأشهر (بيت الجميلات النائمات) التي قدمها قرباناً للعالم ولأكاديمية السويد لتمنحه جائزة نوبل العام 1968. وعندما انتحر «كاواباتا» في سنة 1972 خلد في تأريخ الرواية لقبه الموحي.. الرحالة الخالد.
كينزا بورو أويه .. ابن القرية الساخر
غير أن رحيل «كاواباتا» ساهم، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في ظهور الكاتب النوبلي «كينزا بورو أويه»، الذي منح جائزة نوبل سنة 1994. ويبدو أن أبرز المؤثرات الانفعالية والتخيلية والفكرية التي خضع لها تنطلق من طفولته القاسية، التي أعقبها تأثير انتقاله من القرية الى المدينة، حيث اكتشف ثراء حياة القرية في مقابل زيف حياة المدينة، وهو ما تعكسه روايته (الصرخة الصامتة)، من خلال قصة الشقيقتين: تاكاشي وميتسو، اللتين تعودان من طوكيو إلى قرية طفولتهما. ويقودهما بيع منزل الأسرة إلى مواجهة مع تاريخ أسرتهما، فتخفق محاولتهما الخلاص من تأثير المدينة حين تدركان أن مجسات المدينة تمتد إلى كل شيء في الريف، بل إلى علاقتهما ذاتها.. تأثر أويه أيضاً بأحداث الحرب والاحتلال، فكتب روايته الأهم (علمنا أن نتجاوز جنوننا) التي عدت كواحدة من أعماله الخالدة، إضافة الى تجارب مضنية خاضها في حياته الشخصية، وكانت لها أن تشكل الإنسان والكاتب أويه.. تلك التجارب التي امتزجت بخيال سوداوي ساخر يكتسي أحياناً بلمسة من الغرابة الشعرية لتأتي أعماله ذات صبغة مميزة، خصوصاً روايته (علمنا أن نتجاوز جنوننا).
ميشيما .. ساموراي الرواية الأخير
لكن انتحار يوكيو ميشيما في سنة 1970، كما فعل «كاواباتا» على طريقة الساموراي، إذ يشق المحارب الياباني بطنه بنفسه بشكل أفقي من اليسار إلى اليمين ثم من الأعلى إلى الأسفل، ضمن طقوس مهيبة تعرف باسم «السيبوكو»، أو «الهارا كيري»، بعد أن ألقى خطبة أمام نحو ألف عسكري في مدينة طوكيو، مستنهضاً فيهم الهمم، داعياً لعودتهم إلى روح اليابان الأصيلة.. كان انتحاراً عبثياً ومحزناً، فبعد أن وصل إلى ذروة نجاحه الأدبي، وحيث كانت جائزة نوبل تقترب منه بخطى حثيثة.
أنتج ميشيما خلال حياته عدداً كبيراً من القصص القصيرة والروايات والمسرحيات، ومن أبرزها: اعترافات قناع، غابة الأزاهير، هدير الأمواج. وتعد رواياته «ثلج الربيع»، و«الجياد الهاربة»، و«معبد الفجر»، و«سقوط الملاك»، أجزاء رباعيته «بحر الخصب» التي نصبته كاتباً من طراز فريد، وهي روايات منفصلة ومترابطة تعتمد على مفهوم تناسخ الأرواح.. فالبطل في الرواية الأولى هو نفسه البطل في الروايات التالية، ويتم انتقاله من رواية إلى أخرى من خلال تناسخ الأرواح، ليبدأ في كل مرة دورة وجودية جديدة، ويتاح لأحد شخصيات الرواية الأولى «هونس» أن يعرف بمفرده الرابطة التي تصل الأبطال الأربعة، وذلك من خلال ثلاث شامات يحملها الأبطال جميعاً.
كوبو آبي .. مبتدع امرأة بتاج من الرمال
ما كاد يخلو عرش الرواية اليابانية، بعد انتحار امبراطورها ميشيما، حتى كان «كوبو آبي» ورفاقه من (الوجوه الإبداعية الواعدة)، قد اعتلوا سدة عرش الرواية.
أصدر آبي كتابه الأول «لافتة في نهاية الطريق» واحتجب، شأن أبطاله، في رحلة اغتراب طويلة، دامت ثلاث سنوات، ليطل بعدها على قرائه من جديد بروايته القصيرة «جريمة السيد س.كاروما» التي فازت بأهم جائزة أدبية في اليابان وهي جائزة أكوتاجاوا.
كما فازت روايته «امرأة الرمال» في العام 1960بجائزة يوميوري، وسرعان ما نقلت إلى الشاشة الفضية، في فيلم من إخراج المخرج الياباني هيروشي، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان.
وتتابعت أعمال كوبي آبي، وفي مقدمتها «الرجل العلبة»، «الخريطة الممزقة»، «وجه الآخر»، «مرحباً بعصر الجليد». وكما هي السمة الغالبة في أعمال آبي، فالقارئ دائماً إزاء إنسان محاصر بالهواجس، وهو في غمار هذا الحصار يضرب في متاهة لا نهاية لها.. هكذا يتشكل عالم روايته «موعد سري» التي تأتي النهاية فيها حاسمة كضربة سيف من ساموراي لا يرحم.
مديح ظلال تانيزاكي
عند الحديث عن «جونيشيرو تانيزاكي» لا بد من ذكر كتابه الحميم (مديح الظل)، فهو كتاب يدعو قارئه الى التمعن في مسألة الهوية فقط، ويجعله يتشبث بها في مواجهة ما يمكن أن تفرضه وسائل العولمة من تلاشي التمايزات. و«تانيزاكي» يشير فيه إلى يابان لا نعرفه، لم نسمع به حتى، لأنه يابان غير مطابق للصورة الرائجة عنه.. يابان شرقي متوحد بقيمه وموغل في خصوصيته، يابان لم يتملكه هاجس التكنولوجيا ولم ينخرط في حداثة الغرب.
كتب تانيزاكي أعمالًا مرموقة مثل (أشيكاري)، (صورة شونكين)، (قطة)، (شوزو)، (امرأتان)، ومن أبرز أعماله الرواية المطولة (الأخوات ماكيوكا) التي كتبها إبان الحرب العالمية الثانية، وأكملها بعد نهاية الحرب، وكتب أيضًا (التاريخ السري للأمير موساشي)، و(المفتاح)، و( ناومي)، ونقل (حكاية جينجي) للأديبة اليابانية «موراساكي شيكيبو» من اليابانية القديمة إلى اللغة اليابانية الحديثة.