الحاجة الى النقد واليسار
عقل العويط
من زمان لم يعد يهمّني النقد المجتهد، أو المساير، أو المهذّب.
ليس لأني مكتفٍ ومكتمل العدّة والمعرفة والثقافة، ولا لأني مترفّع ومتعفّف ومكابر، ولا أيضاً لأني والغٌ في الاجتهاد والمسايرة والتهذيب، وإنما فقط لعدم قدرتي بعد الآن على تحمّل “هذا” النقد، وليأسي منه.
وحده الخلق، هو المهمّ عندي. الخلق الكياني، الحدسي الغريزي الجاهل العارف الماحق. الحياتي الحلمي أولاً، ثم الأدبي والفني والفكري والثقافي، فالمجتمعي والسياسي. وسوى ذلك من أعمال خلاّقة، تبدأ بـ”إهدار” الزمن والنظرات “إهداراً” لذيذاً ممتعاً، ولا تنتهي عند حدّ.
أتحدث عن ذلك بمرارة طبعاً، ولكن خصوصاً بمرارة واقعية. فلقد دخل عندي هذا الموقف في منطقة اللارجوع تقريباً، وفي اللاأمل، بسبب الإحساس بالمحدودية الدونية لـ”هذا” النقد المشار اليه أعلاه، والمتنوعة أشكاله و”كوارثه”. وبسبب اللاجدوى.
لكي لا يذهب أحدٌ بعيداً في أفكاره، فأنا لا أصوّب على أحد، ولا يهمّني أن أصوّب على أحد. هذا ليس في “حساباتي” على الإطلاق. أنا أصوّب فقط على “فكرة” النقد في ذاتها، وقد أكون أصوّب على نفسي، لأني (لأننا) في “حاجة” كيانية الى هذا النقد. فأنا أريد أن أعثر عليه، أن أراه، أن أحسّ بمفاعيله المزلزلة، وأن أتغيّر معه، وفيه. أريد أن يحرجني هذا النقد. أن يلبّكني. أن يخلخل مفاهيمي. وخبراتي. واقتناعاتي. وأن يضايقني في العميق العميق من كياني. وأن يطيحني، دماغاً وكتابةً. الى درجة الإحساس بأني عندما أقرأ نقداً كهذا، أرى كما لم أر من قبل. وأُولد كما لو أُولد الآن.
هناك حاجة كبرى الى هذا النوع من النقد، ليس المزعزِع فحسب، ولكن أيضاً المنافس للخلق، “الأعجوبي” و”المولِّد”.
صحيح أني أتحدث بمرارة واقعية، لكني لستُ يائساً. ودائماً بسبب تعاظم موهبة الغريزة، وبسبب فتوّة الحلم الخلاّق، وهذا ما يُشعرني بأن كل الجدران تنهار فجأةً بضربة نرد، أو بكلمة. وأحياناً بنظرة. ودائماً بشهقة قلب.
لكن سبب هذا المقال، ليس الأدب، وليس النقد الأدبي. سببه الفعلي والحقيقي، شعوري بأنني أحتاج (بأننا نحتاج) الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، الى النقد الذي يطيح المستتبّ والمهيمن في السياسة والمجتمع والدين والقيم. نقد مبتكر. وصانع أعاجيب.
لذا يهمّني أن يؤخذ هذا المقال أيضاً الى موضع حسّاس ومحدد، فأقول إن حاجتي الى هذا النقد تساوي عندي الحاجة الى وجود يسار خلاّق.
فلأقلها بصراحة: أنا أبحث عن يسار مطيح، خلاّق، ومُنجب، لكني لا أعثر عليه… إلاّ في الحلم.
أنبّه تنبيهاً منهجياً الى أني لا أقصد في هذا النوع من اليسار، أيّ منحىً عنفيّ، طوباوي أو مجرم. أقصد فحسب، اليسار الذي يغيّر، لا بالثورة الرومنطيقية، العنفية الانقلابية، ولا بتسلّم السلطة، سياسية أكانت أم عسكرية أم دينية، لئلا نكون نتخلص من كابوس فنقع في مرآته الخلفية، وحتماً الكابوسية.
يسار يتسلل الى عبقريات النخاع الشوكي، ويحبّل الجينات، فيخلق الأفكار السياسية والمجتمعية والدينية الكبيرة، بالأحلام والآفاق والثقافات والقيم الكبيرة.
لا يستطيع مجتمعٌ من المجتمعات أن يتغيّر إيجاباً، في ظل الغياب المخيف والمجحف ليسارٍ نقدي يجرف كل شيء ويأخذ في “دربه المضيء” كلَّ شي.
شرطُه “المجاني”، هذا اليسار، هو شرطه الجوهري. أعني تحديداً، ذلك اليسار النقدي الذي يتململ ويتمرد ويقترح ويخلق ويصنع أعجوبة واقعية في السياسة والمجتمع والدين والقيم، و”يختفي” منساباً في نخاع السياسة والمجتمع والدين والقيم، أو حتى خارج هذا النخاع، لكنْ بدون أن يبتغي حكماً أو هيمنة سلطوية.
إنها الحاجة الى اليسار الذي “يخوّف” السائد، ويرجّف روحه وجسمه، ويقضّ مضاجعه، ويجعله مكوبساً. إنها الحاجة الى اليسار الذي يسحب البساط من تحت أقدام اليساريين واليمينيين، معاً وفي آن واحد، ويسحبه في طبيعة الحال، من تحت أقدام الدينيين، وأيضاً الأحزاب والعشائر والقطعان وقطّاع الطرق وحاملي السلاح، والطائفيين والمذهبيين، جميعاً بلا استثناء.
هذا اليسار النقدي هو طبعاً يسار “مستحيل الوجود”، في حياتنا وبين ظهرانينا. لكن واجبنا أن نقول حاجتنا، في الواقع، الى هذا اليسار، وأن ننادي بهذه الحاجة المطلقة، ودائماً وأكيداً بدون “غاية في نفس يعقوب”.
يقول لي قائلٌ في رأسي، إن هذا اليسار لا وجود له في الواقع، كما لا وجود لمثل هذا النقد. لا في السياسة ولا في المجتمع ولا في الدين ولا في عالم القيم، ولا أيضاً في الأدب والفن.
أجيب: عال. فمَن قال إن مثل هذين اليسار والنقد يجب أن يكون لهما وجود “دائم” في الواقع؟
كلحظة برقٍ ليس إلاّ. فكما تستطيع لحظة برق أن تكهرب حياةً، بالكهرباء التي تكهرب القلب أو الدماغ الساكت، وتنجب أطفالاً عباقرة، وقصائد، هي أيضاً تصنع الشتاء. بل هي تصنع كل شتاء. ونحن، ماذا نريد، هنا والآن؟ نريد لحظة يسارية، نقدية، كهذه، شرط أن تصنع لنا ما يوازي كهربة الحياة وإنجاب الأطفال العباقرة، والقصائد، و… الشتاء.
هل يجوز الربط الكياني بين النقد واليسار، فلا يحضر الواحد منهما إلاّ مقترناً بصنوه؟
نعم، يجوز. بل يجب. شرط أن نحرّر هذين التعبيرين، النقد واليسار (استطراداً: الأدب والفن و… اليمين)، من إرثهما الإيديولوجي الثقيل، وربما العقيم والمميت.
هذا المقال هو شعورٌ بالحاجة، وهو نداء استغاثة. نداءٌ حالم طبعاً. لكنْ، هل ثمة خلاص، واقعي أم غير واقعي، إلاّ بالحلم؟!
أجول افتراضياً في العالم الراهن، فلا أجد أمامي إلاّ السلطات الأرضية والسموية، من جهة، ومعها قوى المال والغطرسة والعسكر والقتل والرفاه والبزنس، وأجد من جهة ثانية، على الأرض، أرضنا المتألمة، جماهير وأفراداً يشكلون رعايا اليأس والبؤس والإحباط والأحلام المشوّهة.
على الهامش الهامش، ثمة “طفيليات” تنمو هنا وهناك، هي حكومات وديموقراطيات وحريات، لقيطة، مريضة، صفراء، تعاني تشوّهات هائلة في أجنّتها ونخاعاتها الشوكية. وإذا رأت “خلاصاً”، فإنه يكون سراب خلاص.
على الهامش الهامش، وهذا جيّد جداً جداً، يهيم الأدب والفن الخلاّقان. حسناً يفعلان. فهما لم يكونا يوماً سلطةً، ولا جالسَين على عرش مستتبّ. وهما خصوصاً يأنفان السلطة والعرش المستتبّ… لئلا يسدّد هذان على رأسيهما رصاصة رحمة.
أما اليسار الذي يخلع المستتبّ خلعاً، وأما النقد “المُعمي” من فرط الضوء الذي فيه، والذي يقضّ المضاجع، ويخوّف المنقودين، أفي السياسة أم في المجتمع أم في الدين أم في عالم الأدب والفن، فلا “يُعمي” أحداً، وإنما يجعل الأعين والأحلام مبحلقةً بغباء، كمَن ذرّ فيها للتوّ رماداً مُعمياً بحقّ.
لا يأساً أكتب هذا المقال، إنما تحريضاً. بل، خصوصاً، على سبيل الحاجة الكيانية. وأيّ حاجة!