كوميديا الزواحف
خيري منصور
هذه الكوميديا هي عنوان قصة للعراقي الراحل محمد شمسي، وهو رحالة قطع في صباه عشرات آلاف الأميال راكباً وراجلاً، أما الكوميديا التي خص بها الزواحف، فهي عن رحلة قصيرة في سيارة أجرة كان يتجاور فيها رجل وامرأة لا يعرفان بعضهما، وتتخلل الحكاية تفاصيل بالغة الدقة، كلها باطنية وأشبه بالمونولوج الذي يفكر الانسان من خلاله وهو صامت..
وما يعنينا من كوميديا الزواحف هذه ليست تفاصيل القصة رغم انها مثيرة، واستبطانية ولا تخلو من جرأة على سبر أغوار الإنسان، فذلك له مقام نقدي وجمالي آخر.
إن أهم ما تمتاز به الزواحف هو أنها على الأغلب من الكائنات المعمرة، فالسحلفاة قد تعيش أكثر من الإنسان، إضافة إلى أنها محرومة من التطلع إلى الآفاق أو التحليق عالياً، وربما كان سبب حياتها الطويلة هو البلادة وعدم إنفاق الذات والطاقة في المغامرة، وهي ليست كائنات كسولة فقط وذات سبات طويل يستمر فصلاً من العام، لأن بعضها يحمل بيته على ظهره، والبيت هو القبر في خاتمة المطاف كما هو الحال لدى السلاحف. ويطلق علماء الأحياء مصطلح الخلايا الزواحفية على أدنى خلايا الدماغ، وباختصار هي مخلوقات قد تنتصر في النهاية وقد تحرز السبق على الغزلان وأرشق الكائنات لكنها تبقى زواحف.. وبشيء من التحوير لقصة محمد شمسي، تصبح الكوميديا التي حاول رصدها أرضية بامتياز مقابل الكوميديا الإلهية لدانتي، فالبشر يمسخون أحياناً إلى زواحف، ويفقدون القدرة على المبادرة، ويصابون بنوبات من السبات الذي قد يستمر عشرات الأعوام وليس فصلاً واحداً في السنة، والمرحلة التي نمر بها رغم كل ما يتوهج من الطلاء الذي يحجبها ويزوّر حقيقتها هي زواحفية، بكل المعايير، وإن كانت الكوميديا تتحول بشرياً إلى حالة من التزاوج بين الملهاة والمأساة، فلا يدري المرء إن كان يضحك أم يبكي، خصوصاً أن ذاكرتنا التراثية تحفظ حكمة تستحق الاستذكار، وهي أن شر البلية ما يضحك.
والزواحف لا تتورع عن الدفاع عن جحورها وسلالاتها، وأحياناً تموت في سبيل هذا الهدف، لكن الإنسان الذي فقد قدرته على الدفاع عن ذاته وسلالته وجحره، سواء كان قصراً منيفاً أو كوخاً، هو أدنى مرتبة من هذه الزواحف، ولا يليق به سوى وصف واحد هو تشبيهه بطائر يسمى نقار الخشب، له منقار حاد طويل، ويقضي شهوراً وهو يحفر عشاً في جذع شجرة، ثم ينقض عليه طائر أقوى منه ويغتصب العش ويجهز على البيض.. وهذا الطائر المسكين يحترف بناء بيوت لن يسكنها، لأن منقاره الذي يصلح لحفر الجذوع اليابسة والصلبة لا يصلح للدفاع عن النفس، أو هو لا يجيد استخدامه لهذا الهدف.
وعلى ذكر الزواحف والكوميديا التي تقترن بها واقعياً ورمزياً، فقد شبه أحد المثقفين العرب أمة برمتها عام 1967 بالسلحفاة التي فقدت صدفتها، ولم يعد شيء يحميها، وفي تلك الأيام تحولت الكوميديا إلى تراجيديا لكنها لم تعثر حتى الآن على قامة توازيها بحيث تستلهمها وتحولها من كارثة قومية إلى درس في التجاوز واللقاح ضد تكرارهما.
وما يدور بيننا وبين أنفسنا هذه الأيام أشد تعقيداً وباطنية مما كان يدور في باطن المرأة والرجل اللذين كانا البطلين الوحيدين لقصة محمد شمسي.. لكن ما نقوى على البوح به هو مجرد زفير مخنوق، لأن الأفواه تمتلئ تارة بالماء وتارة بالدم.
إن أسوأ ما يمكن أن يفرزه واقع جحيمي كهذا هو الضحك الأسود.. والمر، وحين يسخر الإنسان من نفسه ومن هزيمته يصبح قاب ضحكتين لا قوسين من مصير فاجع.
إنها كوميديا بلا أجنحة وللضحك فيها ملوحة البكاء.