‘حرّاس الهواء’ للسورية روزا ياسين حسن: تبادل التأثير ما بين الكبت السياسي والكبت الجنسي
ناظم السيد
بيروت- ‘القدس العربي’ تتطرق رواية ‘حرّاس الهواء’ للسورية روزا ياسين حسن، والصادرة عن دار ‘الكوكب- رياض الريس للكتب والنشر’، إلى موضوع لطالما شكل الجزء الأساسي من الحراك السياسي والاجتماعي ومن النسيج الثقافي في المنطقة العربية، وأهملته الرواية العربية، وهو موضوع الأقليات في الشرق الأوسط. إن تاريخ الصراع السياسي والعسكري للمنطقة هو تاريخ صراع بين أكثريات وأقليات وبين أقليات وأقليات في جزء كبير منه، من غير أن نغفل الحروب الكبرى التي جرت هنا بدءاً بالحروب الصليبية، مروراً بالغزوات الفرنسية والإنكليزية وانتهاء بالأمريكية، إضافة إلى الحروب العربية- الإسرائيلية. مع ذلك قلما انتبهت الرواية في الشرق الأوسط إلى صراع الأقليات كمادة روائية باستثناء بعض الأعمال الكردية بحسب ظني، وربما بعض الأعمال التي كتبها يهود عراقيون (‘وداعاً بابل’ لنعيم قطّان مثلاً)، وبعض الأعمال اللبنانية وإن كانت الأقلوية في هذه الأعمال تنطلق من رصد اجتماعي للطوائف أكثر منه سياسي كما لدى حسن داوود ومحمد أبي سمرا وعلوية صبح وحنان الشيخ وسواهم. بعيداً عن هذا التقديم غير الدقيق والاعتباطي بوصفه مدخلاً لمقال أكثر منه دراسة عن رواية الأقليات، فإنَّ ‘حرّاس الهواء’ تتخذ من الأقليات الخلفية الرئيسية لها، من خلال السفارة الكندية في سورية والتي يأتي إليها طالبو لجوء من دول عربية عديدة: سالفا كواجي المسيحي السوداني الذي تعرّض للتعذيب، محمد عوّاد السوداني الشمالي الذي اعتقل وتعرّض للتعذيب أيضاً، عمانويل جمّو الكلداني العراقي الذي سجن ست سنوات بسبب غنائه أغنية باللغة الكلدانية في احدى الحفلات، فتحية زانا الكردية العراقية التي قتلت عائلتها في مجزرة حلبجة لتتزوج رجلاً يقتل شقيقته بداعي الشرف، إضافة إلى بيير الفرنسي الذي يأتي إلى سورية من أجل إعداد دراسة عن الأقليات الإثنية والطائفية من أرمن وشركس وآشوريين وأكراد وتركمان وإسماعيليين وعلويين ودروز، قبل أن يوقف قرار أمني مشروعه. إذاً، تستعرض أنّات إسماعيل المترجمة في السفارة الكندية (العلوية بحسب مجريات الرواية وبعض الأدبيات والطقوس التي تتعلق بالعائلة) عذابات الأقليات من خلال النماذج السابقة. عذابات تجري على أيدي رجال الأمن والسياسات الحكومية وليس على أيدي الأكثريات (يمكن أن نأخذ سورية البعث والعراق في عهد البعث كنموذج لغلبة الأقليات الأكثريات). بهذا المعنى فإن الرواية بقدر ما تؤكد خصوصية الهويات الصغيرة لكل أقلية عرقية أو دينية، فإنها تكشف عن العلاقة غير السوية ليس بين ‘الدولة’ وهذه الأقلية أو تلك فحسب وإنما عن ضعف المواطنة بمعناها المدني وليس الأيديولوجي. إن هذه الأقليات منقوصة الهوية الوطنية قسراً أو بمعنى أدق منقوصة المواطنة، الأقليات الحالمة بالهجرة، المعذبة في أوطانها، ترى الأمل من خلال أبواب السفارة الكندية في دمشق. كأن الرواية تكشف جانباً آخر من السياسات الغربية تجاه المنطقة بعيداً عن تقييم هذه السياسة سلباً وإيجاباً، أي دعم الأقليات كشرط للإصلاح والعملية الديمقراطية، وإن كان شعار كهذا ملتبساً ومشكوكاً فيه إذا أخذنا في الاعتبار دولاً حليفة للغرب لا تزال تقوم على مفهوم سيطرة الأكثرية على الأقليات (السعودية مثلاً). مع ذلك فإن احتياطاً يجب أخذه في تعاطي الرواية مع الأقليات بالإشارة إلى أن أكثريات عديدة في الدول العربية تتعرّض للقمع والسجن والنفي والقتل سواء كان الحديث عن سورية أم مصر أم السعودية أم دول المغرب العربي حيث يسود مذهب واحد عموماً. صحيح أن الرواية ترصد القمع السياسي من خلال اعتقال وسجن أعضاء في الحزب الشيوعي السوري أمثال جواد أبو عطا عشيق أنات إسماعيل، واياد الشالاتي وزوجته ميّاسة الشيخ، وسليمان الأحمد زوج ضحى الشيخ شقيقة ميّاسة، إلا أن الرواية لم تصرّح علناً بطوائف أكثرية كما فعلت تجاه الأكراد والكلدان مثلاً.
الجسد بعدما سدّد التزاماته
في كل حال، إن رواية ‘حرّاس الهواء’ ليست سجلاً تاريخياً للأقليات وإن كان هذا الموضوع محورياً فيها. هي رواية عائلة أنات إسماعيل ابنة مدرّس اللغة العربية والشاعر الكلاسيكي حسن إسماعيل الذي يتزوج سنية. لكن زوجته تموت فيتزوج شقيقتها جميلة. زواج لم يستطع أن يقرّب بين ابنة سنية التي تدعى صباح وبين الخالة جميلة، لتنتحر صباح وهي لا تزال صبية، في حين تصاب جميلة بمرض عضال، بينما تعود سنية إلى الحياة من خلال امرأة إسبانية تقمّصت روحها (الزوج حسن إسماعيل يؤمن بالتقمّص). هي رواية مشاعر إنسانية لم تغفلها الروائية في تدافع حديثها عن السجون والتعذيب ورجال الأمن والمناضلين، وبالتحديد مشاعر الجنس. هكذا تترك ضحى الشيخ زوجها السجين سليمان الأحمد لتتزوج تاجر أقمشة من حلب، في حين أن شقيقتها ميّاسة التي قطعت علاقتها بضحى بعد هذه ‘الخيانة’، تكره زوجها اياد الشالاتي الذي وفت له طويلاً بعد خروجه من السجن، وتتحول إلى امرأة تتبع نظاماً صحياً فلسفياً على طريقة ميكروبيوتك، بينما يهاجر جواد أبو عطا بعد خروجه من السجن تاركاً وراءه أنات إسماعيل التي سبق أن أقامت علاقة عابرة مع بيير الفرنسي أثناء وجود زوجها في السجن. وعليه، فإن النضال في رواية ‘حرّاس الهواء’، لم يغفل هذه المشاعر الإنسانية التي لطالما أدارت الروايات الملتزمة ظهرها لها. بالعكس ثمة وصف دقيق للجنس من مداعبات وأعضاء وتلذذ. ثمة عري شبيه بعري الاجتماع السياسي في البلد الذي تجري فيه أحداث الرواية: سورية.
والحال، فإن ‘حرّاس الهواء’ تكشف نوعين من الكبت قد يكونان فعلاً يتناوبان في عكس أحدهما الآخر: السياسة والجنس. ثمة قمع سياسي يعكس نفسه ليس في غياب الممارسة السياسة وعدم تداول السلطة وخواء المؤسسات، أي في موت السياسة بشكل عام فحسب، وإنما في توليد الكبت الجنسي. إن الكبت يتناسل من محل إلى آخر، من السياسة إلى المجتمع. هذه نقطة غير معلنة في الرواية قد تكون من أكثر المفاصل عمقاً في هذا العمل. نحن أمام شخصيات متطرفة في العشق والكره، في البرودة والشهوة، شخصية حادة كما هي حال الأقليات التي يزعم البعض أنها تمتاز بالحدة إما لأسباب تاريخية وراهنة تتعلق بالقمع والاضطهاد وإما لأسباب تتعلق بأماكن عيش الأقليات، وهي أماكن قاسية ووعرة عموماً (إن إطلاقاً كهذا لا يسلم من النقد والاحتياط إذا أمعنا النظر في الأكثريات التي لا تقل حدة بدورها، ما يجعلنا ننسب هذه الحدة إلى غياب الديمقراطية أيضاً). في كل حال، هكذا بدت شخصيات ‘حرّاس الهواء’ في تأرجحها بين متناقضين: الثورية والانهزامية، الإخلاص والخيانة، العفة والشهوانية، القوة والضعف. إنها شخصيات مصوغة في ظل نظام سياسي يجعل الفرد مهزوزاً في حياته العامة والخاصة.
وبعد، فإن ‘حرّاس الهواء’ رواية نقد المخابرات والأمن. وبهذا المعنى فإنها تنتمي إلى جيل راهن من الرواية السورية يقوم على تفكيك البنى المخابراتية والأمنية للدولة بعدما كانت راجت رواية النقد السياسي بمعناه الأيديولوجي القومي واليساري والنضالي.
القدس العربي