صفحات ثقافيةعمر قدّور

أحدٌ ما يحكي لك عنك

null
عمر قدور
في واحد من أجزاء رواية “ثلاثيّة نيويورك”، للروائيّ والسينمائيّ الأمريكيّ بول أوستر، يكلّف أحد الأشخاص مكتباً للتحرّي بمراقبة شخص آخر، يفعل هذا عبر البريد فيرسل التكاليف وعنوان الرجل الذي يريد معرفة تحركّاته. يستأجر رجل التحرّي شقّة مقابل شقّة الأخير، ويجهّزها بأدوات المراقبة، فالمطلوب منه حسب المهمّة التي كُلّف بها رصد كافّة تحرّكاته، وإرسال تقارير مفصّلة بها إلى عنوان بريديّ. لا يفعل الرجل، موضوع المراقبة، ما هو خارج عن المألوف، فهو يقوم بالأفعال الاعتياديّة التي يقوم بها الجميع مكبِّداً التحرّي عناء تدوين التفاصيل المبتذلة لرجل وحيد، وإرسالها إلى الشخص غريب الأطوار الذي طلب مراقبته. بعد أيّام من المراقبة يصبح هاجس التحرّي معرفة الرجل الغامض الذي كلّفه بالمأموريّة، باختصار؛ يكتشف أنّ الرجل الذي كلّفه بالمراقبة هو الرجل ذاته موضوع المراقبة، أي أنّ الأخير كلّفه من أجل أن يكتب له عنه!.
لو عاش هذا الرجل النيويوركيّ في مجتمع شرقيّ مغلق لما فكّر على هذا النحو، فالأرجح أنّه سيتحايل من أجل الابتعاد عن العيون التي تتلصّص على حياته رغم أنفه، وربّما وجد نفسه عرضة لأقاويل شتّى يختلط فيها ما فعله بما لم يفعله، فيفاجئه الآخرون بصور عن نفسه لم يعرفها أو يتوقّعها. في مجتمعاتنا لا حاجة لأن يصبح الشخص نجماً كي تصبح سيرته على الألسن، فالجميع نجوم ضمن حيّزهم الاجتماعيّ الصغير، وعليهم ضبط سلوكهم والإفلات ما أمكن من ملاحقة “الباباراتزي” الاجتماعيّ. في مثل هذا المناخ تصبح صورة الشخص قابلة للتشتيت؛ فهناك صورته عن نفسه، وحياته الخاصة أو التي يتوهّم أنّها كذلك، وهناك صورته في أعين الآخرين التي تنحو إلى أن تكون نمطيّة لدى كلّ واحد منهم. بل إنّ صورة الشخص في عين الآخر تصبح جزءاً من منظومة الأخير وتصوّراته عن نفسه أيضاً، لذا قد لا تكون مفيدة مناقشة الآخر في هذه الصورة، لأنّ زحزحتها لم تعد تعني الشخص الأصل بقدر ما تصيب صورة الآخر ويقينيّاته تجاه نفسه.
الآخرون ليسوا مرآتنا وحسب، فهذا القول قد يقع في فخّ التبسيط، إنّهم أقرب إلى يكونوا موشوراً يعترض الذات “المتماسكة” فيبدّدها ويحيلها إلى طيف من الألوان، وهذا هو المعنى الجميل لوجودنا الاجتماعيّ. حبّنا لأنفسنا يجعلنا نراها على الأغلب بعين الرضا، مع بعض غصّات الندم، ويطيب لنا أن نرى فقط الصورة التي نتمنّاها أكثر من غيرها، وهذا ما لا يُلزِم الآخرين. لكن علينا ألا نضع الآخرين دائماً في موقع مَن يبخس الشخص قيمته، فالعاشق مثلاً، “والعاشقة طبعاً”، قد يرى في محبوبته أروع نساء الكون، بل إنّّ من “آداب” العشق أن يراها كذلك ويعبّر عمّا يراه. عندما يكون المرء في مكان المعشوق فسيسمع غزلاً يفاجئه بصورة لم يعرفها في نفسه؛ قد يطرب لما يسمع، وقد يمتلك من الحكمة ما يكفي لئلا يؤخذ بالأوصاف “المعسولة” التي تنطبق عليه بقدر ما تنطبق على أيّ شخص آخر، لأنّها ببساطة لا تنطبق على أحد!. لكن ألا يدفع العشق إلى محاولة التشبّه بالصورة الزاهية التي يقترحها المعشوق؟
* * *
لم أتوقّع من امرأة لا أعرفها أن تحكي لي عني، حدث هذا وأنا عائد إلى دمشق من زيارة لمدينة حلب؛ لدى نزولي من الحافلة وقتَ وصولنا إلى استراحة منتصف الطريق، بادرتني بتحيّة بشوشة. اعتقدت أنّها أخطأت فشبّهتني بشخص آخر، لم يفتها ذلك فسألت: ألم تعرفني؟! ثمّ استطردت: لقد شربتَ القهوة من يدي مدّة سنة ونصف. توضيحها زاد الأمر غموضاً، فشاءت أن تتابع اللعبة قائلة: أنت تشرب قهوة الاسبرسو، وصديقتك تشرب القهوة التركيّة. أربكتني حقّاً، وشعرت بالخجل من ضعف ذاكرتي أمام مَن تعرف قهوتي المفضّلة. عرّفت بنفسها أخيراً؛ كانت تعمل في بار المقهى الذي كنّا نرتاده كثيراً أنا وصديقتي.
عندما دخلنا الاستراحة بادرتْ فطلبتْ لي فنجان اسبرسو، وهي تنظر إليّ متسائلة عمّا إذا كنت أرغب في شيء آخر. طلبت لنفسها فنجان قهوة تركيّة، ثمّ استأذنت النادل في إعداد فنجان الاسبرسو بنفسها!. بعد أن أعدّت لي الاسبرسو وجيء لها بقهوتها اعتذرتُ منها بأنّنا، نحن روّاد المقهى، كنّا نعرف الجرسون وفتاة الكاشيير، ولا نرى مَن يعمل في البار مع أنّنا مدينون له بإعداد ما نشرب. أحسست بالذنب أمام طيبتها، فالفنجان الذي أعدّته لي لا يمكن توقّع مثله في استراحات السفر ولم أستمتع بمثل مذاقه منذ أقلعتُ عن ارتياد ذلك المقهى، سألتها عمّا إذا كانت ذاكرتها تحتفظ بجميع زبائن المقهى. “ليس الجميع، البعض منهم فقط؛ أنت وصديقتك وفلان وفلانة…”. عدّت ستّة أو سبعة زبائن، قالت إنّها وزملاءها كانوا يفرحون بارتيادهم المقهى لأنّهم يعطونه رونقاً أحلى. ذكّرتني بأنّ صديقتي لم يكن يعجبها مذاق القهوة في البداية، ثم تحسّنت نوعيّة البنّ المستخدمة في تحضيره، السبب؟ فاجأتني بأنّها كانت قد بدأت تعدّ القهوة لصديقتي من البنّ الخاصّ بها لا من النوع الرديء الذي يُستخدم في المقهى!.
على الرغم من نرجسيّتي لم أشعر بالزهوّ وهي تتذكّر تفاصيل حضورنا، في تلك اللحظات رأيت نفسي باهتاً كأثر من شخص ماضٍ. تحكي عن عاشقين يضفيان على الجوّ مسحة من مشاعرهما، ومن الواضح أنّني لست المعنيّ بهذا المديح، فهو مديح لاثنين لا لكلّ واحد منهما على حدة. رحت أتخيّل مع حديثها صورةً لنا لم أرها من قبل بعيون أخرى، أرى التفاصيل التي تسردها بعين ثالثة وكأنّها التُقطت بعدسة في غفلة منّي، وأتحسّب في الوقت نفسه من لحظة آتية لا ريب؛ حين ستسألني عن صديقتي. أيكون من حقّي، بعد هذه الصورة الرائعة، إخبارها بأنّنا افترقنا؟ بل أيحقّ لنا أن نفترق إن كان هناك مَن يرانا على هذا النحو؟!.
“لا بأس، هذا يحدث دائماً، أنا أيضاً فقدت ابني الأوسط قبل شهرين”. لم أكن، مهما بلغت من الأنانيّة، لأقارن افتراقنا أنا وصديقتي بمصاب أم ثكلى. لم تعبأ كثيراً بكلمات العزاء التي تفوّهتُ بها، استطردت بالحديث عن ابنها الأكبر الذي سيتزوّج بعد أيام، وعن اللوم الذي تتلقّاه من الآخرين بسبب نيّتها الفرح بابنها بعد مدة قصيرة من وفاة أخيه، سألت: ألا يحقّ لابني أن أفرح به بقدر الأيام التي بكيت فيها على أخيه؟ أجبتها: بالتأكيد هذا من حقّه. لكنّه، كما تقولين، هو وفتاته في العشرين من عمريهما، وقد تنضج مشاعرهما وتتغيّر فيما بعد.
كيف أحرم ابني من حبّه بسبب هذا الافتراض؟! ثمّ ألا ترى أنّ الناضجين تتغيّر مشاعرهم ويفترقون أيضاً؟ من حسن الحظّ أنّ الاستراحة انتهت مع سؤالها الذي لم أجد له جواباً، ولن أطالب نفسي بإجابة بما أنّني لن ألتقي ثانية بهذه المرأة التي أعطتني حكاية عن نفسي وحكاية عنها.
* * *
تقول الحكاية: (إنّ رجلاً دميماً جدّاً كان مسافراً، ومن المصادفات أنّ قاعة المودّعين في المطار كانت ملآى بأصدقاء ملكة جمال العالم المسافرة على متن الطائرة ذاتها، بينما لا أحد في وداعه سوى صديقه جاك. تتعرّض الطائرة لعاصفة شديدة، وتتحطّم فوق إحدى الجزر البعيدة غير المأهولة، فلا ينجو أحد من الركاب سوى صاحبنا الدميم وملكة الجمال. من الطبيعيّ أن تغيب معايير الجمال بغياب الآخرين، إذن سيحبّ الدميم الجميلة، وستبادله الحبّ.
بعد مدّة من العشق يجلس صاحبنا ساهماً شارداً، تسأله حبيبته عمّا به، يطلب منها الجلوس، يأخذ قطعة فحم ويرسم على وجهها وجهَ رجل، ثم “يبادره” بالقول: اسمع يا صديقي جاك، أنت لا تعرف ما الذي حدث بعد وداعنا في المطار، من المؤكّد أنّك سمعت بتحطّم الطائرة وموت ركّابها فحزنتَ كثيراً لموتي، لكننا نجونا أنا وملكة الجمال التي رأيناها من بعيد في صالة المطار. تمالكْ أعصابك يا جاك واسمع ما سأحكيه لك عمّا حدث بيني وبينها……)
حقاً ما قيمة كلّ ما يحدث إن لم يعلم به “جاك”؟
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى