صفحات ثقافية

عندما كان محمد الماغوط قومياً وأميركياً وشمعونياً… ساخراً

null
جان داية
لم يشذ محمد الماغوط عن قاعدة التعتيم على بواكيره الأدبية. ويعود ذلك الى سببين: احدهما عام، وهو تواضع مقالاته وقصائده في المرحلة الأولى من حياته الأدبية ـ الصحافية بالمقارنة مع نتاجه في المراحل اللاحقة… والثاني خاص، وهو تداخل مقالاته وقصائده الأولى بحياته الحزبية. ذلك ان الماغوط انضوى في الحزب القومي عام 1950 واستمر عضواً عاملاً في دورياته اثنتي عشرة سنة. ولكي يقلل من تأثير كتاب سعادة «الصراع الفكري في الأدب السوري» على أدبه الحديث، فقد كرّر جوابه الى الصحف والفضائيات على السؤال الخاص بحزبيته، بأسلوب ساخر فكه، ومضمون بعيد عن الحقيقة ملايين الكيلومترات. ويمكن تلخيص جوابه الذي صدّقه القراء، بما يلي: كان يرتجف من البرد في منزله. دخل مركز الحزب القومي في السلمية المجاور لمنزله، وجلس قرب الصوبيا حتى امتلأ دفئاًٍ. ثم اقسم اليمين عرفاناً بجميل التدفئة. واستمر في صفوف الحزب بضعة اشهر لم يقرأ خلالها حرفاً واحداً من مبادئه. وعندما جمع بعض التبرعات للحزب، اشترى بها بنطلوناً بدلاً من تسليمها لناظر المالية.
ولكن، إذا كان من حق الماغوط ـ واي أديب مبدع آخر ـ التعتيم على بواكيره الأدبية وحياته الحزبية، فمن واجب الصحافيين والباحثين والمؤرخين الإضاءة عليها. ذلك ان كشف معالم المرحلة الاولى من حياة الماغوط العقائدية والسياسية والأدبية والصحافية، من شأنه ان يضيء على عدة نواح هامة ومجهولة في أدبه وسيرته. فهو، اولاً، يكشف الاساس الذي اقيمت عليه عمارته الأدبية… ويحدد، في الوقت نفسه، النهج الذي اتبعه في شعره ونثره، وبخاصة على مستوى المضمون. انه، ايضا، يضع بين ايدي القراء عشرات القصائد ومئات المقالات المجهولة حيث لا يخلو معظمها من اللمعات الإبداعية. ولعل اهم نتاجه الأدبي في تلك المرحلة، رواية «غرام في سن الفيل» التي نشرها على حلقات في جريدة «البناء» البيروتية. وهناك معلومة خاصة بالماغوط الصحافي يكتشفها مقمّش بداياته، تفيد انه احترف كتابة التعليق السياسي اليومي على مدى خمس سنين في الصحف الثلاث: «البناء» و«الزمان» البيروتيين، و«الصدى العام» الدمشقية. والذين لم يرافقوا الماغوط في رحلته الصحافية الممتدة من صيف 1958 حتى نهاية 1962، يجهلون المعلومة الهامة تلك، لأنه طلّق التعليق السياسي اليومي بالثلاث، واستعاض عنه بمقالات أسبوعية اختلط فيها الأسلوب الأدبي بالمضمون السياسي والاجتماعي، من مثل ما بدأ نشره في مجلة «الشرطة» الدمشقية و«المستقبل» الباريسية، وغيرهما، وقد اعيد نشرها في بعض كتبه.
وتتضاعف اهمية التعليق السياسي اليومي حين نعلم ان سخرية الماغوط المتيزة ظلت كامنة منذ 1950 حتى 1958، ثم انفجرت بقوة عبر عموده اليومي الذي بدأه في «البناء» وتابعه في «الزمان» و«الصدى العام».
وعلى ذكر السخرية، فهي شكلت العنصر الأبرز في نجاح تعليق الماغوط السياسي، وكانت الدافع والجاذب للقراء على البدء به قبل الافتتاحية، على ما اكده لي زميله في «البناء» محمود غزالي. ومن المرجح ان السخرية الماغوطية هي التي دفعت بالزميل جوزف عارج سعادة للاتفاق معه على كتابة تعليق سياسي يومي في «الزمان» عام 1961، وأحمد عسّة لإبرام عقد معه لكتابة عمود يومي في الصفحة الاولى لـ«الصدى العام» في دمشق عام 1962.
ولكن السخرية وحدها لا توفر النجاح للتعليق السياسي الداخلي او العربي او الدولي. ثمة شروط اخرى ـ يقول اكاديميو الاعلام ـ يقتضي توفرها في المعلق السياسي، من مثل اتقان لغة اجنبية او اكثر، ومتابعة الاحداث واكتشاف مصدر محترم للمعلومات، اضافة الى اتباع منهج علمي يحلل الصحافي على ضوئه الاحداث ويقيمها بحيادية تامة. وهكذا، يتوقع رسوب الماغوط في كلية الاعلام ـ فرع التعليق السياسي. فالشروط الآنفة غير متوفرة لديه، بعضها بشكل كامل، والبعض الاخر بصورة جزئية. فهو لم يعرف إلا اللغة العربية. ثم انه مزاجي لدرجة عدم قدرته على المتابعة. اضف الى ذلك انه غير حيادي لان مصدر معلوماته الرئيسي في بيروت هو الحزب الذي كان منتسباً إليه، ناهيك بأن الاعلام الرسمي في عهد الانفصال كان مصدر معلوماته الرئيسي في دمشق.
مع ذلك، فالماغوط حقق نسبة معينة من النجاح في حقل التعليق السياسي اليومي، ليس فقط بفضل إبداعه لمدرسة خاصة في السخرية، بل نتيجة عوامل اخرى. صحيح انه لم يعرف الا العــربية. ولكنه كان يتابع الاخبار الواردة في الوكالات ويستمع الى نشرات اذاعــة الشرق الادنى. ثم انه نادراً ما كتب في السياسة الدولية. ذلك ان تعليقاته اقتصرت، احيانا، على السياسة الداخلية السورية او اللبنانية، وفي معظم الاحيان شملت تدخل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة ومصر عبد الناصر في شـؤون بيـروت ودمشق وشــجونهما. وبالطبــع، كان لفلسطين ومستوطنيها قرص في معـظم اعراس تعليـقاته. وبالمناسبة، فإن بعض كتّاب التعليقات السياسية نجحوا اكثر بكــثير من بعض الذين يتقنون اللغتين الفرنسية والانكليزية. واذا اردنا وضع لائحة بأسماء هؤلاء، فسنجد اسم الماغوط، ولكن في الصفحة الاخيرة. أما الحياد، وبخاصة الايجابي، فهو اقرب الى الاشاعة منه الى الحقيقة. لا يوجد معلق حيادي في الكرة الارضية. والذين يتهمون الماغوط بالانحياز، هم الاكثر انحيازا.
كان الماغوط منحازاً سلفاً في تعليقاته السياسية. فقد دافع عن حزبه خلال «ثورة» 1958. وهو تبنى مواقف الحزب القومي السياسية خصوصاً في تعليقاته التي نشرها في «البناء». كان لاذعاً في نقده للشيوعية والناصرية. وكان شرساً في هجومه على الصهيونية وعملائها. وبالمقابل، كان مدافعاً عن سياسة بيروت الشمعونية، وعمان الملك حسين بن طلال ودمشق الانفصال. كذلك رجحت كفة الولايات المتحدة وأوروبا على كفة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، في ميزان تعليقه اليومي.
ولكن الانحياز والتطرف ليسا وجهين دائمين لعملة الماغوط الواحدة. صحيح ان التطرف قد ميّز معظم مواقفه وكتاباته. ولكنه كان معتدلاً، نسبياً، في تعليقاته وتحقيقاته، السياسية، التي نشرها في «الزمان» البيروتية. إلا ان تطرفه المتمادي في «البناء» و«الصدى العام» يدعو الى الاستنتاج بأنه كان مرغماً على الاعتدال في صحيفة «الزمان». وفي حين مرت تعليقاته وتحقيقاته هنا على سلام، سببت هناك وجعاً في الرأس والجيب معاً. ولأنه كان طفراناً في تلك المرحلة ـ لم يبق كذلك في المراحل الاخرى ـ فقد تولى حزبه تسديد آلاف الليرات التي لم يكن يملك هو ربع ليرة منها. والغريب ان الغرامة الكبرى التي حكم بها، إضافة الى سجنه لفترة غير قصيرة، كانا نتيجة التعلـيق الأقل تــطرفاً، والتهمة الأكثر فبركة. فهو انتقد في تعليقه المنشور في «البناء» بتاريخ 14 كانون الاول 1958 المطرب المصري محمد عبد المطلب في سياق نقده للنظام الناصري. ولكن خصومه السياسيين والصحافيين وعلى رأسهم الوزير الراحل عبد الله المشنوق، رفعوا شكوى ضده بتهمة إهانــة النـبي محمد. ورغم اعتراف قاضي المحكمة بأن الكاتب قصد المطرب المصري في سخره، لكنه اصدر حكمه بحبس الماغوط وتغريمه، بناء على حيثية همايونية تفيد انه كان يجب ان يذكر في تعليقه انه يقصد المطرب عبد المطلب وليس النبي محمد.
وعلى ذكر التطرّف، فإن الماغوط، المتطرف في سخريته، اضطر الى الاختباء وراء عدة اسماء مستعارة في معظم الاحيان. في «البناء»، خصوصا بعد انتخاب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية، توسل الماغوط الاسمين المستعارين «شيبوب» و«سومر». وهو فعل ذلك، لأنه سوري ومهدد بالاعتقال والابعاد، واحتمال تسليمه الى عبد الحميد السراج، الذي لجأ الى لبنان هرباً من ظلمه، وسخر من بطشه في اكثر من تعليق. ورغم انه لم يشترك في المحاولة الانقلابية التي قام بها حــزبه في الـيوم الاخير من العام 1961، فقد اعتقل لفترة غير قصيرة في بيروت، وسلّم الى دمشق التي اعتقلته بدورها لعدة اشهر، رغم ان الانفصاليين كانوا مناهضين للسراج.
كذلك، ذيّل الماغوط تعليقه اليــومي في «الصــدى العام» والمتوج بعنوان دائم «بالعربي الفصيح»، بتوقيع «فصيح». واذا كان مفهوما سرّ اختبائه وراء الاسم المستعار في بيروت، وهو الخوف من اعتقاله في بيروت وتسليمه الى عاصمة الأمويين، فالسر الكامن وراء الاسم المستعار في دمشق لا يعود الى الخوف من سقوط الانفصاليين وعودة الناصريين، لأن نقده الساخر من رموز الوحدة المصرية الســورية، قد سجل ارقاما قياسية. وربما يكمن السبب في طرافة التوقيع وتناغمه مع العنوان الدائم الطريف ايضاً.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى