صفحات ثقافية

أيتهـا الصفحـات العزيـزة أنـا أعـرف بمـاذا ملأتـك

null
عباس بيضون
سآكل هذه الصفحات
سآكل هذه الصفحات. لن أتوقف حتى انهيها فما من طريقة ثانية لتصريفها. سأرسلها هكذا مباشرة الى ضميري. سأجبرها على أن تدخل في دمي.
سيقال ان هذه هي عاقبة الأدب التعيس الحظ. أن نبتلعه فعلاً مع جرعات كبيرة من البيرة وبعض التوابل. اذ سنصدق في النهاية انه بحاجة الى هذه الرحلة الى الأعماق والى ان يتغذى من دم حقيقي.
من الواضح ان الأمر سيكون مجرد ضحك بريء على المجاز لولا ان شيئا يترتب على اللعب بكل قانون. ستشرب من اللعاب وتتمتع بكل العصارات لكن العمود الذي اهين سيقلب اللعبة. سيكون قلبك عندئذ في مؤخرتك. ستتحرر الامعاء وتترقرق الرئتان من داخل العيون. هكذا فقط يمكن انشاء داخل بثلاثة اشبار. لكنه عمق لا يخدع أحداً، فحتى البئر في هذه الحالة ستكون طافية وسطحية.
سآكل هذه المخطوطة بعد أن افرغ من تسويدها، وستتطلب وقتاً الى ان انتهي من تطرية الغلاف المقوى وجعله مريئاً. لو كان لقارئ هذا الصبر على الاغلفة الشهية لما ظل جمالها فوق وسائلنا.
سأبتلع هذه المخطوطة بأجزائها التسعة، واحداً فواحداً، وكلاً بحسب ترتيبه. ستمر تحت اسناني ولساني وتمتزج بنَفَسي ولعابي. ستتحول الى مادة ثخينة، تنعصر في جوفي حتى استخراج الزيت السحري وتحويله الى دم، وربما الى روح، او الى معان تشرق مرة قبل ان تغيب.
لو كان للأفكار من يمضغها هكذا. لو امكن ابتلاعها وتحويلها الى غذاء او كسرها كالنواة. لو امكن استخراج عقار او حتى سم منها. لو امكن للمجهول ان يكون عضلة وللخفي ان يكون وريدا. لو استطعنا استخراج حقائقها وربما حفظها كصور. لو باتت الحقيقة طعاماً ملكيا وربما نفاية ملكية لما بقينا مع كلماتنا المكروهة، ولما أكلنا شيئاً ميتاً، وربما فاسداً، كهذه النصوص.
سآكل هذه الصفحات. ما من طريقة ثانية لتصريفها. انها تخطيطات لم تعد مفهومة لي وقد تغدو أحاجي مع الوقت. قد تكون حقائق او ألغازاً وصلت، خطأ، الى عالمنا. هناك من يرتابون في انها تحوي مخدراً او إرشادات للعدو. هناك من يخشون ان تكون التقطت لعنة لم تبطلها الأيام، ومن يتوجسون ان تكون جذورها مسمومة، ومن يتوقعون ان تكون فراغاتها عميقة حتى القبور.
سيكيدون لها بالتأكيد. لن يكتفوا بتفتيشها وتفليتها بقدر من الازدراء، بل سيطلبون منها ان ترقص وتطرب، وكل ما ليس في مقدورها ان تفعله، ولن يتركوها حتى تبدأ بالخجل من نفسها.
سيقال انها ذات نبض ضعيف. انها السن اصابتها بالعياء وتصلّب الشرايين. لا بد من ان اعطاباً كهذه تنتقل الى الكلام الذي يفلت احيانا كسلس اللعاب او يكبو كالنوم الفجائي. ستغدو مبلبلة كعقل مليء بالوساوس وستكون صورها ناضبة الدم. ستكون بلا مفاصل ونجد فيها أسنانا مخلعة وركبا مبرية. لن تكون فراغاتها سوى فواصل للنسيان. لا يهم ما تتظاهر به فهو التصابي. انها تتجمل لكنها هكذا تسطو على اماكن آخرين وربما على اعمارهم، فكل يوم في هذه السن يكون زائداً ولن يفعل سوى اطالة عللها.
أيتها الصفحات العزيزة. أنا اعرف بماذا ملأتك. لا يهم ما عشناه بالنسبة الى حياة كاملة، افضل ما فيها يظل جديداً، لكننا بالتأكيد نحطمه ونحن نسعى الى كسر اقفاله. اولى ضرباتنا ستقع على تلك المرآة التي ظننا اننا سنظل فيها شبابا.
لن نحفل بتلك اللعب الملائكية التي تحرك اجنحتها القصيرة، فأرواح الطفولة من ورق. لكننا في لفائف طويلة قد نجد القصص التامة التي صُنعت من أجلنا. ستكون لنا بمجرد لمسها وستنتقل بهذه القوة الى تاريخنا. سنعود من هناك كباراً صالحين بحياة بيضاء، فهذا البياض المديد وحده يمكن ان يساوي سيرة كاملة.
أيتها الصفحات العزيزة لقد ملأتك باللاشيء الذي لم اصدق انه يأسن وتصير له رائحة.
كانت هناك رياح كبيرة ولم تحفظ شيئاً. كان هناك مطر كثير ولم يسجل شيئا. لا يهم ما عشناه بالنسبة الى حياة كاملة.
تركنا اعقاباً كثيرة، سيكتشفوننا بعد قرون. تركنا خطوات ستغدو، بعد حين، آثاراً. كانت هناك كروكيات وستكون اجمل بدون ان تكتمل، اما الآن فإنها لا تكسونا بما يكفي. انها فقط خطوط فوق أجسادنا. كانت رشيقة قبل ان نتألم من أناملنا. كان هناك حب قبل ان نصرخ من مفاصلنا. كان هناك غضب قبل ان تنفجر عضلة في الصدر. كانت هناك ذكريات قبل ان يندلع الصداع.
هناك قصة تامة لكل واحد لكن القارئ الميت الكبير لم يحضر بعد. هناك وردة من سهام متعاكسة لكن القارئ الميت الكبير سيصحح كل شيء ويسلم كلاً منا قصته.
لم تكن صدفة اننا أرسلناكَ باكراً لكن الصداقة بلا أخت، ولن نجد من اجلها شبيها ولا نقيضا. وحدها ستكون بلا قصة. إنّها ظل منفرد. ظل لنفسه وتسافر بدون ملاك الخيانة الذي يساعد المغرمين. عليها ان تنتصب وحدها وتختفي بدون اسف. لن يكون هناك بكاء لكن الموت يأتي متأخراً ويلوم الجميع.
الأصدقاء الموتى يأتون لإنقاذنا، لكن في الساعة التي نكون ركمنا فيها كل شيء في الغرفة الجانبية، وتوقفنا عن جمع الذكريات.
إنهم أرواح من ورق ولن يمكثوا طويلاً. ايها الرسول الى متى تبقى امامي. ايتها الصفحات العزيزة أنا اعرف بماذا ملأتك.
الحبل
كان يريد
بلا أمل
إن يبقى في بال الباب او المنضدة
يفتقد كتبه
التي يحافظ عليها جديدة
ولا يخاف ان يكتب على ورق مصقول
او طاولة ملمعة
حيث لا ذرة غبار
ولا بصمة واحدة
يجلس بهيئة بوذا مقطب
متخذاً سحنة العجوز الماكر
ليرفع عن كاهله أي عبء
وليصل بلا معاناة
تاركا الأشياء تنضج قبل أوانها
بدون مشي مؤلم في الزمن
وبلا امتحان نار وحقيقة باطلين
الشيخوخة كذبة على الموت
الذي لن يجد في انتظاره
سوى الجدار
إذ من يلقون بأنفسهم الى المياه
يخدعون السفن
او يصلون قبلها
هكذا نشرب البحر
او ندخل في فك القدر
بدون الانتظار السقيم
لمرور الحوت الأزرق
او تمضية الشباب
في تنظيف البراكين
بدون الدخول البطيء
في تجربة الحديد الحامي
والرغبة المجلودة
الشيخوخة كذبة على الموت
والذين يتظاهرون بالسن يعرفون
ان الحياة لم تعد حبلاً
وانهم بها او بدونها
يستطيعون ان يتابعوا
لن يصدق احد
انهم بلا دماء ولا صدور
قادرون على ان يقفزوا
بدون حراك
يحطمون اشياء جليلة
يكفي ان يتظاهروا بالحَبْل خارج السور
يكفي ان يكون العمى
لعبتهم المفضلة
بسام الذي كان يؤلف الجمل التي يريدها
بأي حرف كان
وبأول كلمة تخطر
ظل يقول: حين لا اكون موجوداً
الكلمة التي لا تحتاج الى وجودي
حين لا تكون هناك كلمات اصلاً
يكفي طائر من ورق
او مجرد شكل فراغي
لهبوط طائر
يمكن ان نضع تفاحة مكان الله
x مكان قلب
حجراً مكان رأس
يمكن الكتابة بطرف العين
او بالنَّفَس الذي لا تسمع فيه كلمة
او كتابة كلمة لا جواب لها
إلا الموت
الوضوح
كان يجد بسهولة ما يريده. لديه من الجمل بقدر ما لديه من الأفكار. افكار قليلة لجمل قليلة، وبالتالي فإن تقليص الوجود الى ذبابة مكبرة مرئية من كل الجهات لا يجتذب كثيرين. لن يعرف احد كم علينا ان نطرد من الداخل لتبقى تلك الجثة الوحيدة، يبقى ذلك الحذاء السيد. لن يعرف احد كم علينا ان نقتل او نبيد لنصل الى ذلك الوضوح.
لن تكون الامور جلية بهذا المقدار إلا حين تكون نافذة كقضيب في العظم او كصمام بلاستيكي. ستكون هكذا قادرة على ان تصيب تماما كالمرض او الصدمة.
إذ ذاك نفكر في الوساوس كمسامير في القدمين، ويمكن ان نفكر في الحب كعضلة نحتاج الى الكثير لتثبيتها في الجسم، او رداء يضيق بالتدريج. يمكن ان نتكلم عن برد في الدماغ او فصل جليد في القلب. بالدرجة نفسها نتكلم عن جرعة شبيهة بالغرق وعن سبات كحولي.
ولا بأس فالكلام يتقطع بالنبض، وحتى حين ينزف من الفم يمكن قياســه وتعــديل سرعته كل لحظة.
نمسك بلوح لكننا نجذف بانتظام ولا نقع اذا ظل الخطر متساويا. اذا استمر الأرق في تبديد الظلمة، والخوف في تحطيم الشكوك. اذا عمل القلق كحفار آلي وضمن متوالية حسابية.
ننظر من فوق رؤوس الاشجار ولا نعرف كم علينا ان نقطع منها، كذلك نطمر الينابيع ليكون الوضوح اجرد تماماً ومبسوطاً كالكف.
يجد بسهولة ما يريده او يطلب ما يجده، وافهم الآن كيف عاش مرعوباً بين الحقائق الخامدة.
انها رؤية التفاحة بخمسة أبعاد ما يجعلها تنتهي الى ان تسد اعيننا او رؤوسنا.
سيكون وجودنا ملحوظاً ونافراً الى درجة لا تطاق. سيكون كل شيء مكشوفاً. كل شيء معدوماً، اذ مع نهاية الأسرار لن يكون هناك بعد أي أمل للحقيقة.
تذكرون تلك الضجة التي ثارت ضد الوضوح. مغنون وعشاق ورحالة فكّروا في انهم، ربما، يتآمرون هكذا مع المجهول. كم كانت صعبة صناعة الاسئلة من حبال. بصماتهم الزائفة تكاثرت بطريقة سحرية واختفت بدون تفسير.
لقد عادوا بنصف كبد لكنهم لم يضحوا بكنزهم من القناني والخيبات.
كثيرون خافوا ان يجدوا اضلاعهم في البئر. ان يفاجئهم عظم عار يحدق في اعينهم.
كثيرون خافوا ان يقايضوا حياة كاملة بدقيقة من الوضوح. ان لا يجدوا في حياة كاملة هذه الدقيقة.
انه رعب البقاء مشدوداً الى عمود او فكرة. ثمة تشويش يقابله تشويش كبير. مع ذلك لا مناص من ان نستخرج بالسكين، من الفقرات، تلك البلورة الزرقاء الميتة تماما التي تفسّر نفسها، او المثلث العظمي الذي يساوي نفسه.
مع ان الألم ليس حقيقة، فإننا لا بد من ان نبدأ بهذا الفك المشدود. ان نقيس ذلك بالمشرط. لا بد من الصعود الى الغرفة الجليدية.
يكفي ان نغمض اعيننا عن العالم حتى نتسبب او نشارك في ابادة كاملة. الوضوح نوع من الإماته. انه الصالة التي تعمل فيها الوساوس بأفواه عنكبوتية ويخمد الرعب في جدار الفلين.
ثمة مصباح لطرد الأحلام. هناك ذلك الأرق الإغريقي الشامل.
أما الذكريات فتعمر طويلاً بسبب الكساد الذي عم. هكذا ندفع للنهايات ثمنا أقل.
ما يُسرق من الألبومات يسبب هذا العدد من الفراغات. هكذا تتقطع صداقات وتمكن بسهولة العودة الى الجرح الاول.
أما الجميع فينزلون من الجبل ولا أحد يبكي.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى