كيف تكون كاتبا عربيا محبوبا في الغرب؟
باريس: محمد المزديوي
على هامش رواية بوعلام صلصال الجديدة: «قرية الألماني»
السؤال المؤرق بالنسبة للمثقف القادم من العالم العربي، وبالأخص فيما يعنينا نحن، هو كيف يمكن أن يكون مقبولا، في الغرب، وهنا في فرنسا، على وجد التحديد، ويجد اسمه في الصفحات الأولى من الصحف السياسية والثقافية؟ الطرق عديدة، فيما يبدو، وهنا نقدم نموذجاً على إحداها.
العملية الإبداعية معقدة، ما من شك في الأمر. وقد اعترف الكثيرون من كبار المبدعين بمعاناتهم في الكتابة، وفي اختيار المفردة، بل وفي الخروج من مواقف معينة إلى مواقف أخرى، ووصل الأمر بالكاتب الأميركي الكبير جيم هاريسون إلى التصريح بأنه بكى ثلاثة أيام متواصلة، لأن تقليص حجم روايته، تطلَّب منه أن يُزهق روح إحدى شخصياته التي كانت محببة لديه.
لكن الطرق المطروحة للاعتراف الغربي بكاتب معين، تبدو سهلة، من الناحية العملية، بالنسبة لمثقف عربي «تقني» على حد تعبير فيصل دراج. العملية تبدو سهلة لأن مواصفات نجاح العمل الأدبي في الغرب، بالنسبة لكاتب قادم من مستعمرات سابقة، معروفة، وكُتب عنها الكثير.
وفي حين يبحث الكثيرون من الكتاب والروائيين في تراثهم الوطني والإنساني من أجل استنهاض الهمم وبناء مشروع الرواية الوطنية والإنسان، يتبارى البعض الآخر في عمليات هدم لكل المنجز، وبقدرة قادر يتحول تاريخ البلد إلى تراكمات من الأخطاء والفظائع التي لا تنتهي، وإلى نفق طويل لا ضوء في نهايته.
وفي حين يستغرق الكاتب الجزائري الكبير واسيني الأعرج في عمل جبار (بكل المقاييس) من أجل اقتراب أكبر ومعرفة أوفى بالشيخ عبد القادر الجزائري (شيخ مجاهدي الجزائر ضد نير الاستعمار الفرنسي)، الإنسان والإنسانوي والمناضل وغيرها من الخصال الشهمة، يتصدّى الكاتب الجزائري الفرانكفوني بوعلام صلصال لموضوع النازية.
غير بعيد في الزمن، كتب الطاهر بن جلون كتيبا صغيرا موجهاً لابنته عن العنصرية «العنصرية كما فسرتها لابنتي»، وأقحم فيه إقحاما سؤالا (تكون ابنته الصغيرة، حينها، قد طرحته على أبيها) حول اليهود واضطهادهم. وبالطبع راق الأمر للغربيين، الذين لا يقولون شيئاً عن الضحية الفلسطينية اليوم.
من حق صلصال أن يختار الموضوع الذي يلائمه، ويستطيع من خلاله أن يثبت براعته الكتابية والتخيلية، لكن الأمر يتجاوز مجرد اللعبة الإبداعية والتخيلية. الأمر يذهب أبعد مما هو ظاهر ومرئي.
في الكثير من البرامج التلفزيونية الفرنسية يحرص بوعلام صلصال على أن يسلّ نفسه – كما تسلّ امرأة بنجاح شعرة ما من عجينها – من الهموم الوطنية والجزائرية والقومية وحتى من هموم الجالية العربية التي تتعرض لكثير من الاضطهاد في فرنسا، وقد فعلها وكان مواطنه ياسمينة خضرا حاضراً. ورأى الجميع كيف أن هذا الأخير لا يخفي لسانه في جيبه، كما يقول الفرنسيون، ولا يتوانى عن نقد الغرب والآخر حين يتطلب الأمر ذلك، في حين يحتمي صلصال بعباءة الليبرالية، فيبدو وكأنه يسمو على هذه القضايا أو يقرف منها.
في مقالة له في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، يعبّر صلصال عن انزعاجه من صوت المؤذن في مدينته في الجزائر، وكأنه قادم من مجرة أخرى، كما أنه في آخر حوار أجرته معه مجلة «نوفيل أوبسرفاتور» يقدم نفسه على أنه الوحيد الذي يستطيع قراءة تاريخ الجزائر، هذه القراءة «الجريئة». يقول ضمن ما يقول، بأن جبهة التحرير الوطني الجزائرية لم تعمل إلا على تخريب البلد، وأن هذا البلد، أي الجزائر، منذ بن بلة إلى الآن مع بوتفليقة لم ينتج سوى نفس خطاب الحقد، الذي يتم تدريسه في المدارس والمساجد. وعن الدور الذي يمكن للديمقراطيات الغربية أن تلعبه في تصحيح الأمر، يقول بأن النظام الجزائري يعرف كيف يسقط الكريّات والبالونات في الجو، وأنه كالعادة سيصرخ ضدها بدعوى التدخل في شؤونه والكولونيالية والامبريالية والمساس بالقيم الإسلامية وكذا اللوبي اليهودي…
في خضمّ الصراع الحضاري ما بين فرنسا وفرنسا المستعمرة السابقة، وفي عز مطالبة الجزائر من فرنسا بالاعتراف بجرائمها (كما فعلت مع اليهود، مثلا) وبالاعتذار، يقلب صلصال الأمر، ويدين الوزير الجزائري الذي تحدث عن اللوبي اليهودي في فرنسا ودوره في انتخاب ساركوزي، بل ويحتج على خضوع ساركوزي للضغوط الجزائرية في عدم اصطحاب المغني اليهودي (الصهيوني) انريكو ماسياس، ويأخذ عليه عدم الطلب من الرئيس بوتفليقة الاعتذار من تصريحات وزيره.
رواية صلصال الجديدة «قرية الألماني»، أو قرية «النازي» كما يتوجب عليه أن يكتب، والصادرة عن «دار غاليمار»، تحكي قصة حبّ بين قرويين أُغْرِموا برجل قادم من الغرب، ويشتغل مع الشرطة النازية، لكنه في نهاية الأمر يعلن إسلامه ويصبح جزائريا و«مجاهدا» عزيزا على هؤلاء القرويين، الذين كانوا ينظرون إليه على أساس أنه قدّيس. القصة مستهلكة ومكرورة في واقع الأمر، إذْ أن كثيراً من الدول عرفت مسلسل صيد الجواسيس الألمان، وعانت أميركا اللاتينية كثيرا من الأمر، كما أن سورية، عرفت، وإلى فترة غير بعيدة، اتهامات غربية وصهيونية بإيواء علماء نازيين… ينطلق صلصال من هذه القصة ليتحدّث عن ما يسميه فترة الصمت الطويلة التي عرفتها الجزائر، وعن الإعجاب الذي يلقاه النازي عموما في الجزائر، ومن خلال الجزائر، العالم العربي. إذْ يُقحم الكاتب مصر/عبد الناصر، باعتبارها هي من أرسله للتنسيق مع جيش التحرير الوطني الجزائري، ثم يتحدث عن الصورة «السلبية» التي يعاني منها اليهود، في نظره، في الجزائر.
يلعب صلصال هنا دور صائد للنازيين، وهو دورٌ جعل الصحف الفرنسية وملاحقها الثقافية تُشيد بالرواية وبالكاتب. ومع هذا الكاتب تكتشف فرنسا، ربما، أنّه يوجد في العالم العربي «إنسانويون» لا يعرفون الخضوع لقوانين العامّة والدهماء ولا يسقطون فريسة للانفعالات…
قبل بوعلام صلصال كتب ياسمينة خضرا روايات جادة، تتحدث عن مواضيع فلسطين، وعن العراق، ولكن الاستقبال الأدبي الفرنسي لها كان ملتبساً، ما بين مبتهج ومنتقدٍ (الشهير فينكلكروت، مثلا، عبر عن ذهوله لتناول الكاتب الجزائري موضوعاً عن فلسطين وليس عن الجزائر)، والنتيجة هي أنه أقصي من السباق على جوائز أدبية..
من قال إن كل المواضيع مسموح بتناولها، أدبيّا، في الغرب؟ لنقتبس جملة جورج أورويل الشهيرة ولنحوّرها:«كل المواضيع صالحة لأن تكون أدبا، ولكن بعضها أكثر صلاحاً من البعض الآخر