مــــوت افـــتــراضــي
بثينة سليمان
كان حزيناً وكان مغرماً إلى حد الإشفاق على نفسه. ثم انسحب. مشى طويلا.
أقلّته سيارة أجرة وسط زحمة خانقة.
تستعيد المدينة رونقها وبهجة أضوائها. تنفض غبار مقابرها، تظللها بالأشجار. ترفع حولها أسوارا من الحديد المزخرف، تحكم إغلاق أبوابها حفاظاً على الأرواح الطيبة.
كان هناك. ينزل الدرجات الثقيلة. الثقل في رأسه. ما عاد يطيق رأسه. تحية صباحية للجزار. سائق الأجرة يحييه بغبطة. تسير خلفه صبية. يستدير إليها ليعتدل في مشيته. يواصل مسيره. ولدان صغيران ينظران إليه ويضحكان. تقفز قطط أمامه. كشك الجرائد المعتاد. يشتري جريدة ويمشي. لكنه امتنع منذ زمن عن القراءة. “هل فكر فيه كما يجدر؟“.
يعود إليه الصوت وفي الانتظار إلفة الموت وهذيان ذاكرة.
ثمة احتمال دائم وقاتل أن يحتل آخرون مكانه وثمة احتمال دائم للخيانة. بدت فكرة واضحة ورائعة. ردّد عبارة رائعة كما يرددها الآخرون وكما يرددها الممثلون. يظن أنه أجاد التمثيل.
حاول أن يكون مثل الكثير من الناس، يحب ببساطة، يعمل ببساطة، وببساطة يضحك للآخرين وعليهم. وصل إلى حد من الاقتناع بأنه قادر على التحكم بعلاقاته وأحلامه وحتى ألوان ملابسه. لكنه الآن ما عاد قادرا على استعادة تفاصيل حياته ولا عاد قادرا على تركيب مشاهد متتالية لما كان عليه. يستعير دور الشاهد كي لا ينسى الأشياء، تلك الأشياء المتصلة بغيره وكي يحفظ مسافة رصينة لنفسه بعيدا عن غيره.
ظن أنه كذلك سيتخلص من كآبته. ربما نجح على الأقل عند الحدود الدنيا للفراغ الذي نشب بين ذراعيه المتعبتين. لم يكذب على أحد ولم يخدع احداً. بدا مثل فقاعة صابون.
نسي أن الأشياء إما أن تبدأ وإما أن لا تبدأ البتة.
رشاقته وصلابة جسمه أخفتا سنواته الكثيرة.
يصل إلى مفترق طرق، يلتفت شمالا ويميناً، لكنه ينعطف تجاه البوابة السوداء الكبيرة المشرعة.
الفواصل الحديد التي نُصبت بين المدافن القديمة وتلك التي أُعيد بناؤها جعلت المساحات ضيقة. لم ترق له الفكرة البتة. يعرف أنه سيفتقد جماعات الصبية وهواة الألعاب الجماعية. وحدها برودة الرخام وشواهد كثيرة ستنهض كل صباح لتفرض عليه ذاكرة لا يعيها. ويعرف أنه كذلك سيمتنع عن هذه الزيارات.
كان هناك ينتقل به الوقت. يضع جريدته فوق البلاط البارد ثم يجلس إلى جانبها. ليس سعيدا ولا ممرورا. وهو في دوامة فراغه يملأ وقته في هذا الانتظار. يشعر بعطش مفاجئ. ظل كطيف لم تفلح معه الغبطة ولا اختلاجات العشق التي كانت تنتابه أن توقظه من رتابته.
تباغته كرة ضخمة ترتطم بشاهد قبر ثم تعود لتستقر بين قبرين. يتابعها بعينيه الواسعتين. كان ارتفاع سور الحديد يكشف عدداً كبيراً من الفتيان المتجمعين. قفزة واحدة، يهرع الفتى النحيل بين القبور تتبعه حماسة الفتية وصياحهم. يمسك الفتى بالكرة، يحضنها بين ذراعيها ثم يرفعها ملوّحاً بكلتا يديه. يعالجها بركلة قوية. ترتفع الكرة عالياً. ترتفع أكثر، ترتفع عالياً جداً. تميل الأعناق اللينة والمتعرقة لينطلق الصياح والحماسة مرة ثانيةً. تتدافع الأجسام الصغيرة مخلّفةً وراءها سحابة غبار.
كان لا يزال هناك يحاول استعادة وقته الخاص وهو يراقب الفتى مندفعاً، تتطاير خصلات شعره الأسود. ظن أن لنحافته حدا يصعب معه على الفتى أن يتنبه لحضوره وسط هذا الكم من القبور النائمة.
كان صياح الفتية حادا وممزوجاً بحركة الهواء الحار والمتنسم بين الأسوار البعيدة العالية يعيده إلى طفولته. حارات ضيقة وأزقة متعرجة تفضي إلى دكاكين معتمة وبائعات يصرخن ويخطئن دائما في الحساب. يسمع صوت المرأة ولا يراها.
تعاوده رعشات القلق التي اعتادها وما عادت أشياء طارئة.
كانت المقابر تشبه بحلّتها الجديدة ملابس العيد. نظيفة ومرتبة. على رغم العناية بها ومظاهر الاحتفاء بأمواتها، آلمه تحوّل الباحات الصغيرة إلى مدافن، قبورٌ تتشابه في الشكل واللون والارتفاع. حتى هذا الرفات الذي ضمّه التراب منذ سنوات لم يعد يناسب شواهده الجديدة، كأنما نُصبت لأهل المدينة.
كان مستسلما لأفكاره، يشع وجهه ببياض متكلس. ماء عينيه جف. لم يعد ينظر في المرآة. كثيرون ينظرون إليه، يمضغون سواد عينيه ويخدشون صفاءه.
لم يعد صعبا عليه إدراك زيف الأشياء. شعر ببلاهة عارمة.
نسي إساءات كثيرة واستسلم لإساءاته كثيرة. يدور حول الجسر ترافقه الأشجار المسمّرة في الفراغات ترتفع لتظلل السماء برقع خضراء موحشة. بدت القبور القديمة ساكنة ومتورمة تتلاصق بعشوائية. بقايا بخور وأزهار متيبسة. يستند الى الفراغ، تاركاً خلفه عمرا مديدا وحكايات حب يحلو له أن يستعيدها. يقف به السائق عند إشارة مرور مستحدثة. لون أحمر. “قف”. خلسة يتأمل المبنى القائم عند زاوية التقاطع، المبنى الوحيد والشاذ عن المباني لا يزال يقف شاهداً على حرب المدينة. لم يبق سوى الجدران المتقشرة وشرائط الكهرباء المتدلية وسط السقوف. كل شيء قد انتزع، خشب النوافذ والأبواب، درابزين الشرفات. يلعن ذاكرته. يصعد الأدراج رشيقاً. يجتاز الطبقات الأربع، يتتبع إشارات كثيرة. أبواب متشابهة ورائحة تتسرب مثل فيض طرب. عمل أهل المبنى الذين احتلّوه خلال سنوات الحرب على تثبيت روائحهم داخل الزوايا والشقوق قبل أن يرحلوا إلى أماكنهم الجديدة الأكثر تشبّها بهم. يشبّه الأشياء بأشياء أخرى. يحب وصف الأشياء وتسميتها وحتى التحديق فيها.
أبواب ثلاثة. يقرع الباب المواجه للدرج.
ينتابه شعور بالفرح والانضباط. خانته مهاراته فأفلت مشاعره مندفعا بالشوق وبأشياء يدرك الآن أنها مفتعلة.
لم يكن يكذب قطّ.
يقرع ثانية، يعيد ترتيب ثيابه. يكرر على مسمعه عبارات التحية. سيعمل على إشاعة المرح وسيثرثر وسيجلس كما يحلو له.
فكر أن البهجة هي ما ينقص هذا الحب.
ينفرج الباب. يحدث صريرا. يحمّل نفسه هذا الإزعاج ويعتذر. وجه نحيل أصفر، يدعوه الى الدخول. يدخل باسما. لشدة ما يتشابهان كأنهما واحد. ينقص أحدهما القليل من القسوة أما الآخر فتنقصه الحياة كلها.
يدخل فراغ المساحات، يمد ذراعيه. يشعر بلذة الفراغ. يخلع حذاءه وملابسه ثم يحل ضفائره، يمد ذراعيه ثانية. أصابعه خفيفة. وجد نفسه يهوي في بطء لذيذ. تغمره السعادة.
يكره الزهور الاصطناعية. جلسا فوق الرخام. تمددا حتى لامسا برودة الرخام. ظلا غائبين وحيدين ومنفّرين، ثرثرا حتى جفّ الماء المتجمع في الأوعية البلاستيكية وقناني المرطّبات وداخل العيون.
يستطيع من النافذة أن يرى حدود المدينة المتفشية مثل سرطان. تهدر الطائرات كبيرة سوداء، تتجه صوب المقابر. ربما شعر الركاب بالحرج تجاه الراقدين بوداعة. يرسلون قبلات اعتذاراتهم. تلتصق الشفاه بالزجاج، فيسيل اللعاب وتتعرق الطائرة.
يسحب كفّه الملساء على زجاج النافذة المتعرق، ضفائره تتمرغ فوق البلاط. قطٌّ يتمرغ فوق التراب يعيده إلى مكانه. يجلس بين القبور يتلو عليها شريط بؤسه. كان مجرد كذبة. كذبة بيضاء. يحلو له أن يلونها بالبياض. بيضاء مثل زهرة لوز.
يموء القط مبتعدا بحذر. شعر بأنه لا يملك القدرة على مواجهة الشر المنبثق من عيني القط على رغم تودده له ومحاولته استمالته. ظل القط متوجسا ومتأهباً، يحتفظ بالمسافة الفاصلة بينهما، يهزّ ذنبه لامبالياً ثم يضطجع فوق التراب متلهياً بحياته الأكثر صفاء وحلما.
يستهويه مشهد جماعات الصبية وهم يتدافعون، يركلون القبور، يلاحقون الكرة وهي تفرّ أمامهم. شغفه بالقبور مثل شغفه بالأشياء العتيقة. كلما مال القبر إلى العتق خفّت حدّة ألوانه واصطبغ بهالة غموض آسر.
يمضي بين القبور يستعجل ولوج عتمته، كأنما في حساباته أرقام مغلوطة. يشعل سيجارة ويتفكر في الأمور كأنها جيدة. يحب الحياة. يحب النعاس. يحب لعبة كرة القدم. يحب جارته الحالمة. يحب سماع الموسيقى وجلي الصحون، وفي بعض الأحيان يحب طهو الطعام خاليا من الأملاح. يلتفت إلى المرأة التي تقطن منزلاً مقابلاً للمقبرة. تتثاءب وتتمطى. يعرف أنها لا ترى المشهد الممتد أمامها ولا تلحظ تبدل الحدائق وتحولها إلى مقابر. تكتفي بالتثاؤب والتمطي ثم تختفي خلف الستائر. في المرة المقبلة سوف يحييها ثم يذهب إليها ليحدثها عن ظهور المقابر وسيدعوها إلى مرافقته ليريها قبره.
يلحظ تغييرا طفيفا في مشاريعه. كان أكثر تسامحا تجاه نفسه هذه المرة. أغمض عينيه. كانت المدينة هادئة وطيبة مثل أبنائها الراقدين بسلام تحت شواهد قبورهم العتيقة وتلك الأخرى الجديدة ¶