عزازيل الكناية وعزازيل النّكاية..
عزيز العظمة
حازت رواية يوسف زيدان “عزازيل” على جائزة بوكر العام الماضي، وتلا نشرها استقبال حافلٌ من الأطراف الإسلامية السياسية وهجوم عارم عليها من قبل جملة كبيرة من الأقلام والسلطات القبطية في مصر، فقد رأى فيها المرحّبون الإسلاميّون دليلا على تعصّب المسيحية ولاعقلانية عقائدها، كما رأى فيها نقّادها المسيحيون – أو من رام منهم التكلّم باسم المسيحية – هجوما على الكنيسة وعقائدها، بلغ بالبعض منهم أن تبنّى صيغ التكفير التي أصبحت بالغة التداول في السنين الأخيرة.
والحال أنّه لا هذا الموقف ولا ذاك يقارب الصواب، بل إنّ الموقفين يجانبان مآل الرواية والقصد المتضمّن كناية في سردها الروائيّ. إنّ كون المؤلّف مسلما يصوغ رواية مادّتها مسيحية ليس بأمر هامّ، وإنّ جعله أمرا محوريا ينطوي ليس فقط عن اختلال في فهم مادة الرواية ووجهتها، بل هو ينطوي على افتعال تسييسيّ لها. افتعال قائم على افتراض جملة من المحظورات التي تمنع المسلم من الكتابة عن المسيحية والمسيحيّ من الكتابة عن اليهودية، الى آخر ذلك ممّا يوغل في تفتيتنا إلى جماعات طائفية ويجانب تبعات المواطنة. وإنّ هذا المنحى هو ما دعا إليه بعض النقاد اللبنانيين التقدّميين الذين أخذوا في التخوّف من الاستخدام الطائفيّ للرواية من مجال التحوّط الى المداراة، وفي نهاية المطاف الى التواطؤ الضمنيّ مع الكنيسة التي تحصر حقّ الكلام عن المسيحية بالمسيحيين، ومع الجماعات الإسلامية السياسية التي تحظر على المسيحيين التكلّم في شؤون الإسلام..
إنّ المؤلّف لم يسعف في إجلاء الوضع، وهو الآن مطالب بذلك، وباتّخاذ موقف واضح ممّا يقال حول هذه الرواية ومن الاستخدام الطائفيّ لها. وإنّي على قناعة بالغة بأنّ الموقف الإسلامي المرحّب بالرواية ينطوي على انتهازية فكرية معطوفة على جهالة وقصور في الفهم. ذلك أنّ الإسلاميين ما أرادوا التفطّن إلى أنّ الرواية – كما سنبيّن فيما يلي – تتكلّم عنهم وعن جمهورهم مستخدمة المسيحية القبطية في أوائل القرن الخامس ميلادي كناية. وإنّي أرجّح ذلك مع أنّ المؤلّف لم يفصح عن قصد، ولو كان من العسير القطع في استقراء القصد في وضع صمت فيه المؤلف عن القرائن الموجودة في روايته. فحتى لو قصد المؤلف (المسلم أو غيره) نقد الكنيسة، وهو أمر مشروع في حدّ ذاته ومبرّر ومطلوب، إلا أنّ الرواية تتجاوز هذا النقد الى نقد الأديان جميعا، وهي في رأيي ناقدة للإسلام الجديد المبتكر الذي نعاصر: إسلام التكفير الدهمائي وتهييج الجمهور والعداء للتقدم، الى اخر ما يتحفنا به هذا النهج الذي يعتبر الوهابية والإخوانجية نموذجا. إن كانت هذه القراءة خاطئة فإنّه حريٌّ بالمؤلّف أن يسارع إلى تقديم القول – الشأن الذي قد يتطلّب جرأة تقارب جرأة نجيب محفوظ أو سلمان رشدي..
وفي نهاية المطاف فإنّ للعلمانيين الأقباط نقد الرواية إن أرادوا، وللكهنوت القبطيّ والمسيحيّ عموما هذا الحقّ أيضا، كما أنّ للمؤلّفين الإسلاميين الحقّ في الاحتفاء بها أو نقدها إن رأوا فيها كناية عنهم. ولكن على هؤلاء جميعا أن يعوا أنهم يعيشون في بيوت من زجاج، وأنّ الزجاج يزداد رقّة كلّما أمعنوا في الاقلاع عن نهج الإصلاح – وهو الأمر الذي ما باشرت به الكنائس الشرقية أبدا، على عكس بعض اتجاهات الإسلام التي رأينا في العقدين الأخيرين انحسارها ـ لحساب الجماعات الوحشية ـ في نهج تقديس الماضي المتخيّل ونهج النكوص والتغنّي بالتخلّف.
إنّ السرد الحكائيّ لرواية “عزازيل” ليس معقدا. تروي الحكاية قضية الراهب الصعيدي “هيبا” مغادرا الصعيد بعد أن شهد النهاية الوحشية لأبيه على يد عصابة من دهماء المسيحيين، ومستقرّا لفترة في الاسكندرية. خلال إقامته في الاسكندرية وجد هيبا المأوى أوّلا لدى الوثنية “أوكتافيا” التي تغويه وترعاه وتعيد إليه، في تجربة قصيرة، قدرا كبيرا من المحبّة والعناية والإنسانية ووضوح الرؤيا التي كان قد استقرّ على التخلّي عنها لدى انخراطه في السلك الكنسيّ. وفي الاسكندرية التقى بالفيلسوفة الوثنية الشهيرة “هيباتيا” وشهد مقتلها وسحلها وحرقها على أيدي جمهور غادر الكنيسة بعد خطبة شهيرة للأسقف كيرلس، قال فيها – وكأنّه أحد خطباء الجمعة في مساجدنا وفضائياتنا هنا وهناك – مع بعض الفروقات في العبارة دون القصد والمفهوم: “أذكّركم بأننا نعيش في زمن الفتن، ومن ثمّ فنحن في زمن الجهاد..فلنكن جنود الحقّ الذين لا يرضون الا بأكاليل النصر السماوية..حتى نلحق بالقديسين والشهداء الذين عبروا الدنيا ليلتحقوا بالمجد السماويّ والحياة الأبدية.”
تاليا للخطبة هذه “اجتاح الكنيسة هوس الجموع، تداخلت الهتافات واصطخبت، وعمَت العقول وعمّت القلوب فوضى منذرة بحادث جسيم”: مزّقت هيباتيا واجتمع الرعاع المسيحيون حولها كما تجتمع الذئاب حول فريستها، وبلغت صرخاتها عنان السماء”حيث كان الله والملائكة والشيطان يشاهدون ما يجري ولا يفعلون شيئا”، وماتت، وما من مصير لها يفيدها إلا الوثنية أوكتافيا التي قتلت بدورها.
هيباتيا “أستاذة الزمان”، هيباتيا “النقية” هيباتيا “القديسة”: تلك كانت كلمات هيبا الراهب، فالرواية عبارة عن يوميات ومذكرات دونها الراهب مستلهما عزازيل الذي دعاه الى أن “يكتب”: ” أكتب يا هيبا، أكتب باسم الحقّ المختزن فيك”.
ولئن كان عزازيل شيطان هيبا، إلا أنّه شيطان من ضرب مفارق لذلك الذي افتتحت به الرواية. فلقد افتتحت الرواية باقتباس من حديث يروي عن النبي قوله: ” لكل امريء شيطان، حتى أنا، غير أن الله أعانني عليه فأسلم “.
إنّ عزازيل صورة من صور الشيطان أو رسله، واسم من أسمائه العلم، وتلك ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعا على الرغم من الإشارة اليه لأوّل مرّة في التوراة على أنّه شيطان صحراويّ على شاكلة الماعز يجلب المعارف الممنوعة – شيطان تحوّل في تاريخ الأدب الى صورة واسم مفيستوفيليس، خصوصا في مسرحية كريستوفر مارلو حيث مثّل شخصية مأساوية الانسانية وما فوق الإنسانية.
عزازيل “هيبا” يؤنسن، هو يعمل على المحايثة وليس على المفارقة، يعمل على إدراك اليقين الإنساني الذي نتوصّل إليه عن طريق الشكّ، يفتح أبوابا يروم الكاهن إغلاقها، شأنه شأن شيطان دانتي في الأغنية السابعة والعشرين من “الكوميديا الإلهية”، القابع في الدائرة الثامنة من الجحيم، وهو يقول : “أنا منطقي”: عزازيل الرغبة في المعرفة والامتناع عن الخرافة، عزازيل رغبة الحياة ورغبة الحداثة.
رافق عزازيل هيبا في ترحاله قرفا وأسى من الاسكندرية الى القدس حيث قابل نسطور، ومنها الى دير في شمال غرب سورية حيث استقرّ ثم غادر الى مكان نجهله بعد أن أتمّ كتابة مذكّراته ودفنها حتى اكتشفت- حسب الرواية – ونشرت. وفي الترحال كما في الاستقرار حادث عزازيل غير المرئي وجدان هيبا، تمظهر له مرة على شاكلة صبيّ وسيم ومرّة على شاكلة رجل متأنّق ورافقه حينما أذعن – وهو في ديره – لغواية مرتا المتفتحة الحيوية والأنوثة، ثمّ حادثه مطوّلا في غيبوبة حمّى طويلة ألمّت به في ديره، ولا شكّ أنّه ساعده في تقديره لنسطور وتعقله – ونحن لسنا نرى أنه في تقديره نسطور هذا يوازي الشيطان المسلم الذي التقينا به سابقا. في لقائه مع نسطور لم يجد هيبا الحقيقة الواحدة المطلقة، ولا الحقيقة المحمدية، ولكنه وجد يقين السؤال: ” ما هو أصلا الإيمان القويم الذي تكون الهرطقات بخلافه؟ ” أهو ما يقرّر في الاسكندرية أم في انطاكيا، أم هو إيمان الآباء الأولين (أو السلف الصالح، أم هو الاعتقادات الوثنية التي فتك أهلها بآباء أوّلين صاروا مع الأيام أتقياء ومقدّسين؟”
وفي هذا كله لم يوسوس عزازيل ولم يلغز أو يهمهم بل ألهم، أغوى برغبة المعرفة والحياة دون أن يدلّس أو أن يلبّس. كان عزازيل هو من هدى هيبا الى القناعة أنّ عزازيل مبرّر الشرور وليس الشرّ الذي يسبّب خيال عزازيل وتصوّراته، تماما كما أنّ الانسان يخلق إلهه على هواه. كان عزازيل هيبا شمس المعارف وعنوان وضوح الرؤيا الحرّة المبدعة، مقابل تلبّس العقائد الحصرية، ومقابل تسليم النفس الى الخوف والامتناع عن رواية الحقّ كما فعل هيبا عندما ترهبن أوّل مرة.
قال عزازيل، وهو صوت الفطرة الانسانية الحرّة والواعية، بعد أن تحقّق في وجدان هيبا وما عاد بحاجة الى التخفّي والتمظهر بمظهر الصبي الوسيم أو الرجل المتأنّق، قال : “أنا لست حولك يا هيبا، أنا فيك”. وقال “أنا أنت، وأنا هم، أنا الإرادة والمريد والمراد”. بعد أن استعاد موقعه في وجدان هيبا، لم يعد عزازيل سراب الصوت واضح النبرة، ولا صورة الصبيّ الوسيم والرجل المتأنّق ، بل صار وجه مرتا، عنوان الحياة والحرية والأسى، واتضح مقامه بعد ذلك عندما قال هيبا : “كان يشبهني، وكان الصوت صوتي، هذا أنا آخر، غيري، محبوس بداخلي”. محبوس في دواخل الجميع، عنوان العقل والبهجة والرغبة، خرافة التحرّر والإقبال دون خرافة الخوف والقمع والإدبار – فكر الانسان ووجدانه مقابل فكر الله ومن يرتضي التكلم بلسانه .
إنّ عزازيل فكرة هيبا دون الورع والهلع. إنّ عزازيل نحن عندما لا تسمح سلطة الدين بغير الخيال الأسطوريّ عنوانا للحقيقة: فيظهر في الحلم، ويلهم الأدب والفنّ والفلسفة وهو قابع في الحلقة الثامنة من جهنم وهو يقول إنّه رجل المنطق: رجل المنطق والرغبة في المنطق.
بناء على ما قيل، من العسير على العقل السليم والوجدان الأمين أن يفهم كيف سمح بعض الإسلاميين لأنفسهم الاحتفاء بعزازيل الرواية دون التفطّن لعزازيل الشخصية والمفهوم .وفي ذلك الأمر مفارقة نرجح أنّ مؤلف الكتاب قد تفطّن إليها، دون تعليق حتى اللحظة، تعليق يَشِي بشيء من الحسّ بمسؤولية الكلمة.
موقع الآوان