عضة قمر: الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة
زكريا محمد
ربما كان المثل في الأصل ابنا للأسطورة والطقس، أي أنه نشأ في حضنهما ثم انفصل عنهما لاحقا، ودار في الأسواق. ومع الزمن نسي أصله، وتظاهر كأدب زمني خالص. أي أن الكاهن في خيمته أو معبده كان قابلة المثل الأولى، لا السوق أو الاجتماع القبلي.
(هذه المادة هي الفصل التمهيدي من كتاب: عضة قمر؛ الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة، الذي سيصدر قريبا).
المثل أداة رئيسة من أدوات الأسطورة. تختصر نفسها به حتى تحفظ ذاتها من الضياع، ثم تعيد شرح نفسها عبر قصته. فالأسطورة ملزمة كي تعيش أن تختصر وتكثف، ثم أن تشرح وتطيل. هي لعب دائم على حبلي الاختصار والشرح. وفي هذا التوتر تعيش، ويعيش طقسها. أسطورة جذيمة الأبرش، مثلا، ليست أسطورة من دون المثل. المثل روحها، وأداتها الأولى. وتصاعدها، الذي يأخذ شكل انتقال من مثل إلى مثل، حيث كل مثل ذروة من ذرى الأسطورة، ليس من اختراع لغويين مهرة، بل من اختراع كهنة. هذا التصاعد ذو الطابع المسرحي، قد يدفع إلى الاعتقاد أنها كانت تمثل في الزمن البعيد، على الطريقة التي تمثل بها قصة مأساة كربلاء في أيامنا هذه.
هذا يعني أن علاقة المثل بالأسطورة ليست علاقة مصادفة، بل علاقة قران دائم. لا تستطيع الأسطورة العربية أن تعيش من دون المثل. ويمكننا أن نقول أن المثل والرّجز منعا الأسطورة من الموت حين فقدت بيتها، أي المعبد الجاهلي وخيمة الكاهن. المثل باختصاره، والرجز بإيقاعه وقدرته على الاحتمال، هما من أنقذا الأسطورة من الموت والهلاك. لكن الأسطورة حين استخدمتهما مكنتهما هما أيضا من الانتشار والازدهار.
حلف المثل والأسطورة حلف متين وعميق، حد أنه يمكن القول ان المثل ابن للأسطورة، بل هو ابنها حقا.
مولد المثل
ثمة أمثال كثيرة تحدد لنا قصصها وقت ولادتها، أي تكشف لنا عن الحدث المحدد الذي أدى إلى أن ينطق بها لأول مرة. بل إن قصص الأمثال العنقودية، أي القصص التي تنبثق منها سلسلة أمثال مترابطة، تحدد لنا وقت مولد كل مقارنة بمولد أخيه. فهذا المثل ولد أولا، ثم تلاه ذاك. وعند لحظة انبثاق المثل داخل القصة تقال لنا جملة من طراز: (فأرسلها مثلا)، (فسارت مثلا)، (فسيرها مثلا)، (فأطلقها مثلا)، (فأجراها مثلا)، (فصارت مثلا)، (فذهبت مثلا)، وما أشبه من عبارات.
ويجب أن نفهم هذه العبارات على أنها تتحدث، في غالب الأحيان، عن لحظات بدئية تكوينية لا عن لحظات واقعية حصلت بالفعل. يعني أنها لا تحدد موعدا لمولد مثل ما في الحياة والواقع، بل تتحدث عن موعد بدء واقعة أسطورية. فحين تقول قصة جذيمة الأبرش: (وقال {جذيمة} لقصير: كيف الرأي؟ فقال له قصير: ببقة صرم الأمر، وذهب قوله مثلا)، فهي لا تحدثنا عن مكان واقعي ولا عن حدث واقعي. فبقة مكان ميثولوجي، والقول قول ميثولوجي، يحدد دخول الإله في قراره الشتوي. أي أننا بصدد جملة دينية عن حادثة فصلية كونية، أو عن طقس يتعلق بهذه الحادثة الكونية. ثم تحولت هذه الجملة إلى مثل، في ما بعد. ولا بد أن دهرا انقضى قبل أن تصبح هذه الجملة مثلا يستخدم في الأسواق. أي لا بد أن يكون زمن طويل قد مر قبل أن تستولي الحياة الواقية على هذه المنطوقة، وأن تستخدمها كما نجده الآن في كتب اللغة والأدب.
لكن الكثير من الأمثال الطقسية، أي تلك التي انتزعت من ممارسة طقسية، لا يُحدد لنا موعد ميلادها. إذ ليس من ضرورة لتحديد تاريخ هذا الميلاد. خذ نموذجا على ذلك مثل (أشرق ثبير كيما نغير)، الذي يضرب في استعجال حصول أمر ما. فقد كان في الأصل نداء دينيا لكائن إلهي يدعي ثبيرا يقوله الحجيج الجاهلي ليلة النحر على المزدلفة، كي يظهر هذا الكائن وينبثق. وهذا يعني أن الجاهليين كانوا يفترضون أنه كان يقال أيضا من أول الزمان. أي أن الطقس الذي انبثق منه كان موجودا في البدء ولم يحدث. عليه، لا تحدثنا قصته عن موعد نطقه الأول.
أما مثل (ما يقعقع لي بالشنان)، فلا أحد يسجل لنا أيضا موعد ولادته، ولا أول من سيّره. أي لا أحد يخبرنا بالموعد المحدد لانتزاع هذا المثل من الطقس المحدد، أي صياغة طقس القعقعة بين أرجل الجمال في مثل، رغم أن أحدا ما، في لحظة ما، لا بد أن يكون قد حول الطقس إلى مثل، مقارنا الواقعي بالطقس الأسطوري. ذلك أن مولد المثل ليس هو همّ قصص الأمثال، بل مولد حادثة كوسمولوجية أسطورية ما. وحين لا تكون هناك مثل هذه الحادثة فالقصة لا تهتم بتسجيل الموعد المحدد لميلاد المثل. أي أنه لا أحد يهتم أن يقول لنا بشأن مثل القعقعة: فسيره مثلا، أو فأرسله مثلا، لأنه لا يتحدث عن بدء حادثة كونية.
الصلة الدينية
ولا تسير غالبية الأمثال على الطريق الذي سار عليه مثل (أشرق ثبير) من حيث الإعلان عن هويتها الدينية. فهي تتقدم ببراءة كاملة كأمثال، أي كأقوال من زمن واقعي. أي أنها تنسى أصلها الديني، أو تتناساه عمدا. فجذيمة شخص واقعي، والزباء امرأة واقعية، والحوادث التي جرت بينهما واقعية تماما، رغم كل الشبهات. أما البسوس فأشد واقعية، وكذلك كليب وجساس. هذا يعني أن الأسطورة لا تقدم نفسها كأسطورة، بل كتاريخ. كما أن سردها يقدم نفسه كسرد واقعي لا كسرد أسطوري. ومهمتنا هي أن (نكشف) هذه (الكذبة)، أي أن نكشف الأصل الديني الذي انبثقت عنه الأمثال وقصصها، وأن نفهم السرد باعتباره سردا ميثولوجيا. وإذا ما صدقنا الكذبة، على طريقة قليلي الخبرة، فسوف نصل إلى الاستنتاج الخاطئ القائل أن الأمثال الجاهلية لا تهتم بمملكة الإيمان، بل بمملكة الرغيف فقط. وحينها سنكون قد فشلنا في فهم المثل وفي فهم الأسطورة والطقس، وفشلنا في فهم عالم الجاهلي كله.
الأمثال الجاهلية في غالبيتها لا تسير على أرض الواقع، بل تغرس رجليها بقوة في طين الأسطورة، بدءا من أبسط الأمثال إلى أكثرها غموضا وتعقيدا. فالمثل، قبل أن يصبح مثلا، كان أداة بيد الأسطورة كي تعلن عن نفسها، أو أداة بيد الطقس كي يختصر نفسه.
البراءة
ولا توجد براءة في ما يخص الأمثال المغرقة في القدم. وحتى الأمثال الأكثر بساطة منها مثل (شر أيام الديك حين تغسل رجلاه)، أو (ليس بصياح الغراب يأتي المطر)، اللذين يعلنان براءة واقعية منقطعة النظير، سوف يكشفان لك حين تحكهما أنك بصدد ديك وغراب ميثولوجيين؛ أي أن رجلي الديك يغسلان بالأسطورة، وأن صياح الغراب لا ينفع في جلب المطر، لأنه غير موكل به أصلا، فالديك لا الغراب هو الموكل بالأمطار. يجب أن لا نصدق البراءة الواقعية للأمثال الجاهلية حتى نقلّبها بشدة على كل جانب.
لكن علينا أن لا نظن أننا قادرون على فك لغز كل مثل. ثمة أمثال ستمضي سنوات وسنوات قبل أن نتمكن منها. ولعلنا لن نتمكن من بعضها أبدا. فهي قد أخفت نفسها جيدا، وقطعت كل ما يشير إلى صلة لها بماضيها الديني. يمكن للمرء، بالطبع، أن يشك في أصل ديني لبعضها، وان يحدس بذلك، لكن تقديم الدليل الأكيد على ذلك لن يكون سهلا. خذ كذلك المثل المعروف أيضا (وافق شن طبقة). فثم شخصان ذكيان جدا؛ رجل يدعى شن، وامرأة تدعى طبقة، بحثا عن بعضهما وتزوجا في النهاية، كما قرأنا ونحن صبيان في المدارس! لكن كل شيء يقول لنا أن هذا المثل بقية أسطورة، أو بقية طقس ديني. بل لعله كان في الأصل منطوقة دينية كانت يقولها كاهن عند لحظة طقسية محددة. ثم ضاع الطقس، وضاعت أسطورته، وتحولت المنطوقة إلى مثل يضرب في توافق شيئين. فحين يفقد القول الديني الأرض الأسطورية التي يقف عليها يتحول إلى مثل. أي يتحول إلى أدب غير ديني. وأنت تستطيع أن تحدس بذلك، لكنك ربما لن تستطيع أن تقدم البرهان القاطع على ذلك في كثير من الأحيان.
قصة المثل
قصة المثل أمر حاسم، عادة، من أجل فهمه. ثمة أمثال قليلة جدا يمكن فهمها من دون قصصها. لكن الغالبية لا تفهم من دون قصصها. وليست القصة زيادة على المثل. إنها جزء أصيل منه. تكثف الأسطورة نفسها في مثل، ثم تفك نفسها في القصة. المثل يختصر الأسطورة، والقصة تفسره.
لكن يجب أن نكون حذرين بشأن هذه القصص. فثم قصص صنعها لغويون ومفسرون، بعد أن فقدت القصص الأصلية، أي حكاية الحادثة البدئية التي ولد منها المثل. صنعوها كي يجعلوا معنى ما للمثل الغامض، أو كي يفسروا كلمة غامضة فيه، أو حتى كي يقدموا شيئا ممتعا للجمهور. ونحن نعلم أن أناسا امتهنوا جمع القصص القديمة، بما فيها القصص التي تتعلق بالأمثال، واعتاشوا على رغبة الناس في نهاية العصر الأموي وفي العصر العباسي، في استهلاك هذه القصص. وكي يشبعوا نهم الجمهور، فقد ابتدع بعضهم قصصا من عندهم للأمثال التي ضاعت قصصها. هذا يعني أن بعض قصص الأمثال قد تعمينا عن المثل وعن معناه بدل أن تكشفه لنا، حيث أنه لا مناسبة بين المثل والقصة. ونظن أن قصة المثل الشهير (أشغل من ذات النحيين) واحدة من هذا الطراز. فحين فشل المفسرون في ربط هذا المثل بالمواد التي من شأنها أن تفسره فعلا، عمدوا إلى صنع قصته، قصة الاغتصاب التي نعرفها. لكن من الصعب قبول حكم الدكتور طه حسين القاسي حول قصص الأمثال باعتبارها كلها من اختراع القصاص:
(فنحن لا نعرف من سعد ومن مالك ومن زيد مناة ومن تميم. وأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص لم يوجدوا قط. ولكن رأى الرواة والقصاص مثلا تستعمله العرب وهو ‘ما هكذا تورد يا سعد الإبل’… وهم في حاجة إلى تفسير الأمثال… وقل مثل هذا في جذيمة وصاحبته الزباء وابن أخته عمرو بن عدي ووزيره قصير. فليس لهذا كله إلا أصل واحد هو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم، كقولهم ‘لا يطاع لقصير أمر’، وقولهم ‘لأمر ما جدع قصير أنفه’، وقولهم: ‘شب عمرو عن الطوق’) (في الشعر الجاهلي، 1926، ص 113). بل هو يرى أن كل القصص التي تتعلق بالماضين من اختراع القصاص: (كل ما يروى عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق موضوع لا أصل له) (في الشعر الجاهلي، 1926، ص 115).
الدكتور طه حسين هنا يبحث عن التاريخ. وبالنسبة للتاريخ فهذه الأخبار وهذه الشخصيات أمر لا يمكن قبوله. إنها خارج التأريخ. لكن يجب التفريق هنا بين كونها موضوعة وبين كونها تاريخا. أما أنها ليست تاريخا فهذا ما نوافق عليه تماما. لكن أن تكون موضوعة، أي مخترعة، فهذا ما لم نوافق عليه مطلقا. بل نرى أن المخترع فيها قليل. فغالبها لم (يوضع) من قبل القصاص والمفسرين، بل جمع جمعا. فهي تقاليد حول الأمثال الأسطورية كانت متداولة في العصر الجاهلي وفي صدر الإسلام. أي أنها جزء من الدين الشعبي الجاهلي. وهذا يعني أنها صالحة، في غالب الأحيان، لتفسير الأمثال وفهمها. ورميها باعتبارها موضوعة مخترعة سيغلق الباب نهائيا في وجه أي محاولة لفهم الارتباطات الدينية للأمثال. فإذا ما رمينا قصة سعد ومالك ابني زيد مناة، مثلا، فلن نستطيع أن نفهم أبدا مثل (ما هكذا تورد يا سعد الإبل). أي أننا سنظل في عمى مطلق عنه وعن مغزاه الديني. وكذا الأمر في ما يتعلق بالأمم مثل (عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق). فهذه أمم أسطورية لا تاريخية. أي أننا عند الحديث عن العماليق مثلا ننتقل من التاريخ إلى الميثولوجيا. لكن وصف ما وصل إلينا عن هذه الأمم بأنه موضوع ومخترع، ورمية من ثم، سوف يمنعنا من التقدم في فهم معتقدات العرب قبل الإسلام، وعلاقات هذه المعتقدات بمعتقدات الشعوب المجاورة.
الراوي والرواية
ولأننا نتحدث عن تقاليد أسطورية متداولة، فلن يكون الرواي في مركز الاهتمام هنا. المؤرخ يهتم بمعرفة الراوي حتى يتأكد من الرواية. في الميثولوجيا لا يهم من هو الراوي. الرواية هي الأهم.
ولا توجد وصفة سهلة وواضحة كي نكتشف إن كانت قصة المثل مصنوعة أم أصلية. يجب أن نعمد إلى القياس والمقارنة والحدس كي نقترب من الحقيقة بهذا الشأن. لكن ربما تمكنا مستقبلا من وضع لائحة مؤشرات أولية قد تتيح إدخال قصة ما في باب الشك، بحيث يسهل على الباحث عدم الانجرار وراءها.
وثم أمثال تتوزع حقيقتها الميثولوجية على أكثر من قصة. يعني أن علينا عند التعرض لبعض الأمثال أن نرفض هذه القصة وأن نقبل تلك، بل أن نعمد إلى تجميع أجزاء الأسطورة من القصص المختلفة حولها. اختلاف قصص المثل قد يوحي أحيانا باختراعات للغويين مختلفين أحيانا، لكنه قد يعني طبقات مختلفة للأسطورة، وتنويعات عليها وعلى عناصرها. أو قل إن كل قصة ربما مثلت لحظة من لحظات الأسطورة، أو الطقس، التي يتحدث عنها المثل.
معرفة الأشخاص
ومعرفة الأشخاص الذين يقدمون لنا الأسطورة أو يفسرونها أمر مهم. فليس الجاحظ كابن الكلبي، ولا ابن الكلبي كالأصمعي. وليس هؤلاء الثلاثة كمن يتزيّدون ويخترعون. فالجاحظ مفتون بالأسطورة أيا كانت، لكنه لا يصدقها، ويضع نفسه فوقها. يرويها كما هي، يستمتع بها، ويترك لنا أن نستمتع بها وأن نقرأها كما نريد. مثلا يقول عن الأساطير التي نشرها الحكم بن عمرو البهراني في شعره: (وقد ذكر فيه ضروباً كلها طريف غريب، وكلها باطل، والأعراب تؤمن بها أجمع). وهو يستمتع بالطرافة ويسجلها لنا، لكنه لا يصدقها كما يصدقها الأعراب. لكنه، من ناحية ثانية، لا يحاول مطلقا أن يفهمها وأن يفهم قيمتها. إنها بالنسبة له باطل لطيف لا غير.
أما مدخل الأصمعي إلى الأمثال وقصصها فمدخل لغوي. وهو يميل، عموما، إلى أن يوقعن الأسطورة، أي ان يجعل منها واقعا، نازعا عنها طابعها الأسطوري. خذ مثل (وافق شن طبقة). الأصمعي لا يقبل كل القصص التي تتحدث عن أصل هذا المثل. فشن عنده مجرد قربة كانت لناس محددين ثم تلفت فوضعوا لها طبقا، أي غطاء، فقيل (وافق شن طبقة) والسلام! إنه ينحدر بالمثل إلى حضيض لغوي لا معنى له، ملغيا احتمالاته الأسطورية، محولا إياه إلى نكتة لغوية. وخذ أيضا المثل الغني الخطير (أكفر من حمار). فالحمار الميثولوجي الأصيل لهذا المثل يتحول على يدي الأصمعي إلى حمار عادي. ينقل عنه الميداني: (معناه لا خير فيه، ولا شيء ينتفع به. وذلك أن جوف الحمار لا ينتفع منه بشيء) (الميداني، مجمع الأمثال).
أما ابن الكلبي فيقول عن هذا الحمار: (حمار: رجل من العمالقة). الأصمعي ينزل حِلس الأسطورة عن ظهر الحمار، ويتركه يرعي قرب بيت الفلاح أو خيمة البدوي. أما ابن الكلبي، فيبقيها على ظهره، ويكاد يؤمن بها وبصحتها.
قدرة الأصمعي اللغوية تقف أحيانا عائقا أمام فهم الأسطورة. ويمكن لنا أن نقول أنه يمثل تيار الواقعية اللغوية. وهو تيار يميل إلى أن يزيح عن الأمثال بردها الأسطوري، محولا إياها إلى واقع. وهو على تناقض مع تيار آخر، يمكن أن ندعوه بالتيار الميثولوجي، يميل إلى أن يحافظ على ارتباط الأمثال بقصصها الأسطورية، ويمثله ابن الكلبي أصدق تمثيل. لكن علينا أن لا نتجاهل أن موقف الأصمعي وأمثاله كان ضروريا للجم تطرفات مخترعي القصص، من أمثال (العَضّين) زيد ودغفل، الذين كانوا ينشئون أحيانا قصصا كاذبة للأمثال، كي يشبعوا توق الناس إلى الماضي الأسطوري.
اجتهادات المفسرين
وقد تؤدي اجتهادات بعض المفسرين إلى تعمية المثل ومنعنا من فهمه. لذا يجب التدقيق في قصة المثل، ومعرفة ما أضيف إليها من قبل المفسرين. وكمثل على ذلك هناك مثل (أقرى من مطاعيم الطير). فقد أضيفت إلى قصة المثل قصة لبيد بن ربيعة الذي كان يطعم عند هبوب ريح الصبا. وقد أدى هذا أدى إلى تفسير خاطئ للمثل. وكذا الأمر مع مثل: (دهدرين سعد القين). فقد ربط المثل بقصة مثل آخر هو (إذا سمعت بسُرى القين فهو مصبح)، بسبب وجود كلمة (قين) في المثلين، مع أنه لا علاقة مباشرة بينهما.
وعلينا بالطبع أن نعترف أننا في موقع أفضل من موقع المفسرين القدامى. فبين أيدينا مواد لم تكن لتتوفر لهم أبدا، مثل نصوص مصر وسومر وبابل، إضافة إلى المجموعات الكبيرة التي جمعت من التقاليد والخرافات الشعبية. وكل هذا يساعدنا في تفهم الأمثال القديمة. لكن الأساس بالطبع هو أننا ننظر إليها من زاوية مختلفة، زاوية افتراض أنها متحجرات أسطورية.
كذلك، فإن الابتعاد عن مناخ الأسطورة وعهن عالمها قد يؤدي إلى قلب معنى ممارسة طقسية رأسا على عقب، كما سنرى مع الإله سعد في مثل (دهدرين سعد القين). فقد فهم أن الراعي حين ألقي حجرا باتجاه الإله سعد فإنه كان يكفر به، في حين أنه كان يمارس طقسا إيمانيا. وهذا يعني أن علينا الحذر من الإضافات والتفسيرات التي تلحق بقصص الأمثال، خاصة حين تأتي على خلفية الصراع بين الدين الجديد، الإسلام، وديانة الجاهلية.
التصحيف:
وبسبب تقارب أشكال الحروف العربية، وعلى الأخص في الكتابة اليدوية، نِشأت مشكلة التصحيف المعروفة، التي سممت الكتابة العربية في كثير من الأحيان، وأدخلتنا في متاهات مخيفة. ومصطلح (التصحيف) على علاقة بالكتابة في صحيفة، وبالكتابة على الورق خاصة في وقت لاحق. وقد نشأ فرع أدبي عربي خاص يتعلق بالتحريف وكشفه. ولأننا مع الأمثال الجاهلية نتعامل مع جمل وكلمات موغلة في القدم، فإن من السهولة بمكان أن تقرأ الكلمات المكتوبة قراءة تصحيفية، أي قراءة خاطئة. ونظن أن مسألة التصحيف في الأمثال مشكلة جدية فعلا. ونحن نعتقد، مثلا، ان مثل (دهدرين سعد القين) مثل مصحّف، وأن غموضه القاسي نابع من هذا التصحيف من حيث المبدأ. كما نعتقد أن غموض مثل (أكذب من فاختة) نبع من خطأ تصحيفي قاموسي أدى إلى ربط جذر (فخت) بالقمر. إذ قرأ أحد اللغويين جملة: (الفخت: صوت القًمْر)، أي صوت الحمام القمري، على أنها: (الفخت: ضوء القَمَر). وهكذا دخلنا في شبهة ربط الفاختة بالقمر، وهي لا علاقة لها به.
عليه، فلا بد للباحث أن يضع احتمال التصحيف أمام عينيه، لكن شرط أن لا يلجا إليه إلا عند الضرورة القصوى. ذلك أن عدم القدرة على فك لغز مثل ما قد تؤدي إلى استسهال فرضية التصحيف.
تكرار
الأسطورة تكرار دائم للذات. تكرار لا يهدأ. في كل مرة تقدم نفسها عبر مثل جديد، وعبر قصة جديدة. خذ مثلا ثيمة الأخوين، أو الصاحبين، اللذين يُفقد أحدهما أو يموت، ليعود الثاني وحده، والتي هي تعبير عن الانقلابات الفصلية. هذه الثيمة تتكرر في قصص كثيرة جدا. كل قصة بأسماء مختلفة، لكن الجوهر واحد. وحين تملك مفاتيح قصة واحدة، سوف تكون قادرا على حل كل شبيهاتها، وعندها سوف يصيبك إحساس جدي بالتكرار. لا جديد تحت الشمس. تتشابه القصص وتتشابه الأمثال في المعنى. كل مثلٍ بيت ينفتح بسرداب على البيت الذي يليه، بحيث يمكنك أن تنتقل من بيت إلى بيت من دون أن تخرق القوانين.
اللغز
المثل أداة بيد الأسطورة والطقس، كما قلنا. لكن المثل يلعب لعبته أيضا. فهو يعلن عن الأسطورة بطريقته الخاصة، وأدواته الخاصة. واللغز إحدى هذه الأدوات. أي أنه يحول نفسه إلى أحجية عليك أن تفكها كي تفهمه وتفهم طقسه وأسطورته. والقصة تشارك أحيانا في تصعيد الأحجية. يعني أن قصة المثل لا تفسره هكذا مباشرة، بل تطرحه كلغز أحيانا. وعليك أن تفك هذا اللغز كي تفهم معنى المثل، أي كي تفهم معنى الأسطورة.
قصة الأسطورة تتكلم بالألغاز أحيانا، وخاصة الألغاز اللغوية. تعلن الأسطورة عن ذاتها عبر لغز ما. تثير الفضول عبر اللغز. تتغطى بعباءة اللغز. خذ مثل (هذا حظ جد من المبناة)، وهو مثل يضرب في الحزم في تحديد مسؤوليتك، وتحديد ما لك وما عليك. هذا المثل لا ينكشف مطلقا من دون قصته الأصلية. إنه اختصار لأسطورة بدئية كونية. إنه عنوان المسرحية. أما القصة فهي المسرحية. لكن المسرحية تبنى على لغز، لغز لغوي. واللغز في هذا المثل يقوم على لعب على المعاني المختلفة لكلمتي (سلح) و (مبناة). فالسَّلْح هو البراز السائل، كما أن السّلَح هو ماء المطر. والمبناة هي قطعة جلد تفرش، أي مفرش، أو قبة من أدم (جلد). المثل يريد ظاهرا أن يخدعك لافتا انتباهك إلى البراز والمفرش، لكنه في العمق يريدك أن تفهم أن المقصود هو المطر والقبة. يريد أن تثبت له ذكاءك فتكتشف المعنى لا أن تتلقاه مباشرة. من المؤكد أن بناء قصة المثل على هذا اللغز كان واضحا جدا في القديم. كان يمكن لأي فتي فيه قدر من الذكاء أن يكتشفه، وأن يقول لك أن المثل يعني كذا وكذا، لا كذا وكذا. الذين كانوا يعيشون في الأسطورة لم يكن المعنى يفلت من بين أيديهم في الغالب. لكن الانقطاع عن الأسطورة حول اللغز البسيط، في كثير من الأحيان، إلى لغز طلّسم. وهذا ما جعل مثلا كبار اللغويين والمفسرين يظنون أن الأمر في مثل (جد والمبناة) يتعلق بأناس يسلحون على فراشهم ويلوثونه. لقد فقدوا الصلة بالأسطورة ففقدوا معنى المثل. لم يدركوا أن السلح هو الشتاء، أي ماء المطر، وأن (جد) يعلن أنه لا علاقة له بماء السلح، أي بالماء السماوي العلوي، فهو ممثل الماء السفلي الأرضي، ماء العيون والأنهار الفياضة في الصيف.
معان سقطت
وثمة أمثال فقدت معناها الديني من سوء فهم لغوي. فقد عمد اللغويون إلى أكثر معاني كلماتها شيوعا وفسروها بها، كما هو الحال مع (أشرق ثبير كيما نغير). حيث أخذ من جذر (شرق) معنى واحد هو معنى الشروق، أي طلوع الشمس من المشرق. كما أن كلمة (نغير) قرئت بالضم لا بالفتح، فأخذت معنى مختلفا تماما. وقد أدى هذا إلى تعمية المثل، رغم انه مثل معروف جدا، ولم ينفصل عن طقسه، طقس الحج الجاهلي. وكذا الأمر في مثل (أقرى من مطاعيم الطير)، الذي فهم بشكل خاطئ لأن اللغويين عمدوا إلى المعاني الأكثر شيوعا لجذور الكلمتين: (أقرى، مطاعيم). كما أنهم لم يدركوا معنى كلمة (الريح) مفترضين أنها مفرد الرياح بكسر الراء، في حين أنها مفرد الرياح بفتح الراء، وهي تعني: الخمرة. وهكذا صار معنى المثل: أكرم من الذين يطعمون وقت هبوب ريح الصبا، بدل أن يكون معناه: أدمن من شاربي الخمرة، إذا جاز لنا أن نأخذ فعل تفضيل من أدمن.
لذا قد يكون علينا أن نذهب، أحيانا، إلى المعاني الأقل استعمالا للجذر والكلمة، بل وأن نذهب إلى المعاني التي أهملت أو صارت ضئيلة الاستعمال حتى في نهاية الجاهلية وصدر الإسلام. إذ نحن نفترض أن بعض الأمثال التي وصلتنا من العصر الجاهلي كانت تستعمل كلمات صارت غير مفهومة بوضوح حتى لغالبية الناس في نهايات العصر الجاهلي. لقد جاءت من ابعد الأزمان واستخدمت معنى من معاني الجذر صار مهملا ومنسيا في الاستخدام الواقعي. لذا يجب تفلية الجذر ومعانيه تفلية شاملة أحيانا كي نتوصل إلى فهم كلمة غامضة في مثل.
لهجات
أكثر من ذلك، علينا أحيانا أن نذهب إلى بعض لهجات القبائل كي نفهم مثلا معروفا. فهو قد يستخدم الكلمة بالمعنى الذي تعطيه إياه لهجة هذه القبيلة لا اللهجة القرشية، أو اللغة الأدبية العامة للشعر، أو اللغة القرآنية. وكنموذج على ذلك لدينا المثل الذي يقول: (يحمل شن ويفدّي لكيز). فمن دون أن نعلم معنى التفدية في لغة عبد القيس بن أفصى لم يكن لنا أن نفهم هذا المثل الغريب. أي أن غموض هذا المثل بالذات نابع من أنه استخدم، من جهة، لهجة خاصة لقبيلة في كلمة (يفدّي)، واستخدم، من جهة ثانية، معنى مهملا تقريبا لجذر (حمل)، هو معنى البرق والمطر.
عاد وثمود
وثم إشارات تقدمها لك الأمثال في بعض الأحيان، تكون علامة لك على الطريق. فحين يقال لك في قصة المثل: هذا (رجل من قوم عاد) أو (امرأة من قوم عاد) أو (إن تميما كان قهبا من عاد). أو (امرأة من عاد يقال لها مهدد)- وكذا الأمر في ما يخص ثمود وجرهم وغيرهما- فهذه إشارة أولى إلى أنك في حقل الميثولوجيا، لا في حقل الواقع والتاريخ. هذه الإشارة تعفيك من التساؤل طويلا حول ما إذا كنت أمام مثل واقعي أم ميثولوجي. فكل هذه الأقوام أقوام دينية أسطورية. وكل القصص عنها هي قصص أسطورية. لكنها ليست موضوعة كما رأى الدكتور طه حسين. إنها أساطير وليست تاريخا. وقد كان القدماء يعرفون هذا الطراز من القصص الذي ينسب إلى عاد وثمود وجرهم وغيرها، ويعرفون أنه لا يمت للواقع بصلة، أي أنه لا يمثل أخبارا تاريخية. يقول القطامي:
أحاديث من عاد وجرهم ضلة
يؤرثها العضّان زيد ودغفـل
(أحاديث ضلة)، أي أحاديث ضلال وأساطير. أما زيد ودغفل فهما زيد بن الكيس النمري ودغفل الذهلي. (وكانا عالمي العرب بالأنساب الغامضة، والأنباء الخفية) (الميداني، مجمع الأمثال). (الأنساب الغامضة) و (الأنباء الخفية) التي كان يؤرثها أو يثورها العضان هي الأساطير التي تسبح في مياهها الأمثال المغرقة في القدم. لكن الأمثال لا تقدم لنا مفاتيحها دوما، بل قد تخفيها عنا. وحينها يكون الأمر أشد صعوبة.
الأسماء
الأسماء عنصر حاسم، فهي في كثير من الأحيان جوهر المثل. بل إن الأمثال تبدو في لحظة ما كما لو أنها لعبة أسماء. لذا ففي مرات كثيرة لا يمكن فهم المثل ولا أسطورته من دون فهم هذه الأسماء. الأمثال تتحدث عن الآلهة. والآلهة في نهاية الأمر فعاليات كونية طبيعية، وفعالية كل إله تتمثل باسمه. وحين يقال: (جدع قصير أنفه)، فيجب أن نركز على كلمة (قصير) كي نفهم المثل، وكي نفهم أسطورته. فقصير هو الفترة الفيضية القصيرة للكون في مقابل الفترة غير الفيضية الطويلة.
وفي المثل (هذا حظ جد من المبناة) لن نفهم معنى المثل مطلقا إذا لم نفهم اسم (جد)، ولم ندرك وجود إله باسم جد. الأساطير تتكثف في الأمثال في غالب الأحيان، والأمثال تتكثف في أسمائها، في أحيان كثيرة. عليه، ففك لغز اسم ما في المثل أو قصته قد يكون فاتحة لفك لغز المثل والأسطورة معا.
الشعر والأسطورة
يصعب تحديد موقف عام من الشعر الذي تحويه قصص الأمثال بشكل خاص، والشعر الذي تحويه القصص الأسطورية بشكل عام، كأسطورة الزباء والبسوس وغيرهما. ونحن نقصد الشعر داخل هذه القصص لا الشعر الذي يعرض لهذه القصص ويذكرها. لكن المرء قد يقترح اقتراحا للنقاش، وهو أنه كلما ضعف الشعر وتهلهل كان أقرب إلى أن يكون مرتبطا بالأسطورة. وكلما اشتد واستوى وتمتّن كان أقرب إلى أن يكون إضافة لاحقة. ذلك أن ضعف الشعر يؤكد أنه ليس نتاج شعراء محترفين، بل نتاج صياغات شعبية تعرف الأسطورة وتعيشها. أي أن تهافت الشعر وهلهلته عموما دليل ارتباطه الفعلي بالأسطورة. خذ مثلا شعر عدي بن زيد العبادي. فهو شعر ضعيف، رغم أنه جاهلي قديم يفترض به أن يكون ذا لغة صعبة معقدة. وهو أمر لحظته المصادر العربية القديمة، وعزته إلى كون عدي ريفيا غير متبدٍّ: (ولذلك تجد شعر عدي- وهو جاهلي- أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة وهما آهلان؛ لملازمة عدي الحاضرة وإيطانه الريف، وبعده عن جلافة البدو وجفاء الأعراب). (الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه). لكن إحساسا ينشأ لديك وأنت تتابع أسطورة عدي أن الشعر الذي ينسب إليه على علاقة وطيدة بأسطورته. أي ان هذا الشعر مرتبط بالأسطورة من باب أصيل لا طارئ. ويؤكد احتواؤه على كلمات غريبة ونادرة هذا الارتباط. وكذا الأمر في ما يتعلق بالمهلهل، الذي يعتقد بعض المفسرين أنه سمي بذلك لأنه هلهل الشعر ورققه وأضعفه.
وكمثل على الطراز الأول نأخذ الأبيات المنسوبة إلى سعد القرقرة التي تقول:
نحن بغرس الودي أعلمـنا منا بقود الجياد في السـلف
يا لهف أمي وكيف أطعنـه مستمسكا واليدان في العرف
قد كـنت أدركته فأدركـني للصيد جد من معشر عنـف
أما كمثال للطراز الثاني فنأخذ الأبيات التي أوردها ابن الكلبي على لسان راعي بني ملكان عند الإله سعد:
أتيـنا إلـى سعـد ليـجمع شمـلنا
فشتتنا سعـد، فلا نحـن من سعـد
وهـل سعـد إلا صخـرة بتنـوفة
من الأرض، لا يدعى لغي ولا رشد
الفارق في المتانة بين النموذجين واضح تماما. فشعر سعد القرقرة ضعيف يكاد يقترب من الصياغات العامية في زماننا. أما بيتا راعي بني ملكان فآية في الاختصار والدقة في التعبير. هذا رغم أن من المفترض بالشعر المنسوب لسعد القرقرة أن يكون أسبق في الزمن بكثير. مع ذلك، فقد حكمنا في سياق الكتاب أن أبيات الراعي هي، في أغلب الظن، مضافة للقصة، وأنها من وضع شاعر محترف. إذ هي مشبعة بروح الإنكار الإسلامي للجاهلية. أما أبيات القرقرة فتعرض تفاصيل من الصعب فهم الأسطورة من دونها، الأمر الذي يؤكد ارتباطها الأصيل بالأسطورة، وشدة قدمها في آن.
بناء على هذا، يصبح حكم الدكتور طه حسين حول سبب ضعف وهلهلة شعر بعض الشعراء، مثل المهلهل وزوجة أخيه جليلة قابلا للجدل، وحتى للنقض. فنحن مع شعر جليلة والمهلهل في الواقع مع شعر ألفه شعراء شعبيون أو كهنة يعرفون الأساطير ويعيشونها، لا مع شعر أنتجه شعراء محترفون. يقول الدكتور طه حسين: (فمن الذي هلهل الشعر؟ هلهله الذين وضعوه من القصاص والمنتحلين وأصحاب التنافس والخصومة بعد الإسلام). (في الشعر الجاهلي، ص 173). ثم يضيف عن شعر جليلة: (ولكننا لا نريد ان نترك مهلهلا دون ان نضيف إليه امرأة أخيه جليلة التي رثت كليبا- فيما يقول الرواة- بشعر لا ندري أيستطيع شاعر أو شاعرة في هذا العصر الحديث أن يأتي بأشد منه سهولة ولينا وابتذالا، مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعرا فيه من قوة المتن وشدة الأسر ما يعطينا صورة صادقة للمرأة البدوية العربية) (في الشعر الجاهلي، ص 174). لكن السؤال هو: لماذا يعمد شاعر منتحل إلى أن يكتب شعرا متهافتا وينحله لجليلة، إذا ركاكته ستكشفه عند الناس؟! الأحرى به أن يبحث عن شعر قوي في هذه الحال.
هذا الأمر يجعلنا أميل إلى نفترض أن ركاكة الشعر شهادة له لا شهادة عليه. بناء عليه، نعتقد أنه يجب التفريق بين كون الشعر منتحلا وبين كونه ركيكا. فركاكة الشعر المرتبط بالأساطير لا عني أنه منتحل موضوع. فشعر الأساطير يجب أن يكون لينا سهلا ومفهوما من قبل أقل الناس ثقافة. فمهمته أن يكون كذلك. بل إن ليونته وابتذاله ربما تكون دليلا على قدمه، لا على حدوثه وانتحاله.
وحين نحكم على اللين والمهلهل بأنه موضوع منحول، فهذا يعني أننا لن نستطيع استخدامه لفهم الأساطير عموما. وهذا حكم خطر وخاطئ في نظرنا. شعر جليلة والمهلهل وأضرابهما ليس شعرا منتحلا، بل هو شعر مرتبط بالأساطير، أي انه ليس شعر شعراء محترفين، بل شعر أتى في سياق قصص أسطوري. وهذا يعني أن شخصيات مثل المهلهل وجليلة وغيرهما هي في الواقع شخصيات أسطورية، لا واقعية تاريخية.
القدس العربي