صراعات ما تحت الإحتلال الإنكليزي وقتل الماضي – الأب
خالد الحروب
تطل رواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر التي فازت بجائزة الرواية العالمية (بوكر) على جوانب شديدة التناثر والتداخل من تاريخ مصر الخاضعة لحكم الإحتلال الانكليزي واستبداد الخديويات التركية في أواخر القرن التاسع عشر. فيها بنودٌ من السجل التقليدي لكل إحتلال كولونيالي: الوحشية العسكرية، خيانات الباشوات، مداهنة علية القوم للحكام، تضحيات الفقراء وبسطاء الناس، تنويعات الغدر المريرة، وأحلام الثورة والإستقلال. تتعدد مستويات “واحة الغروب” إذ تذهب بالقارئ شرقاً وغرباً: في الماضي والحاضر، في الصراعات الداخلية للشخوص وترددهم وخياناتهم لذاتهم، في العلاقات الكلاسيكية بين المستعمِر والمستعمَر، في تداعيات الطبقة المحلية “التكنوقراطية” التابعة للإدارة الإستعمارية وتخليقها لتبريرات القيام بالدور الوظيفي “المحتقر” من طبقات الثورة والرفض المحلي. لكن في الرواية أيضاً خيط مهم ظل يساير أحداث الرواية بطيئاً وموارباً، مخادعاً القارئ بهامشيته الظاهرية، ثم بعد طول مسايرة يقوم بانعطافة مدهشة، محدثاً إنقلاباً على مسارات الرواية وخاتماً إياها على هوى الإنقلابات المفاجئة: إنه خيط قتل الماضي – الأب!
مجمل الأحداث تقع في واحة سيوة البعيدة عن القاهرة أكثر من ثمانمئة كيلومتر إلى الغرب، وعلى الحدود الليبية. إلى تلك الواحة ترسل الإدارة الانكليزية في القاهرة الكابتن محمود عبد الظاهر أفندي بوظيفة ترقّيه إلى منصب مأمور، مهمته الأساسية تحصيل الضرائب الباهظة المفروضة على أهل الواحة النائية. يصل المأمور مع زوجته الايرلندية كاثرين المهووسة بالآثار والتاريخ الإغريقي والفرعوني ويتسلم عمله كحاكم للواحة وينخرط في علاقة رسمية يغلّفها الخوف والعداء المتبادل مع أهل الواحة الغاضبين على القاهرة لفرض الضرائب عليهم. تاريخ الواحة يختلط فيه السحر بالحقيقة والعادات “الغريبة” التي تدهش كل وافد جديد عليها. سكانها في الزمن الذي ترصده “واحة الغروب” يتحدثون “لغة غريبة” عن لغة القاهرة وبقية مصر (الأمازيغية)، بما يمنحنهم قدراً من الحصانة والتعالي من ناحية، ويثير حولهم غموضاً إضافياً. لكن الشيء الأكثر إثارة في تاريخ سيوة، على ما ينسج البناء الدرامي للرواية، هو بقايا المعابد القديمة التي يتماهى فيها التاريخ الإغريقي بالفرعوني. فهنا كان يقع معبد إله الشمس، رع الفرعوني، أو آمون الأغريقي. وهنا، وهو الأهم، زعمت بعض الأساطير أن الأسكندر الأكبر نفسه يرقد بعدما نقل جثمانه من الأسكندرية إلى سيوة ليكون قريباً من أبيه “الإلهي” آمون، وهو غير أبيه الأرضي فيليب، الذي رأى زوجته أوليمباس تضاجع الإله الضخم آمون (نصفه على هيئة ثعبان والنصف الآخر على هيئة كبش)، وكان أن ولد الأسكندر وعاش سنوات عديدة ليكتشف لاحقاً أن فيليب ليس سوى أبيه الأرضي أما أبوه الحقيقي (الإلهي) فهو آمون. بعد ذلك الإكتشاف صار الأسكندر إلهاً أو شبه إله ويعبده أتباعه، وعندما مات شاباً في الثالثة والثلاثين من عمره عملوا على تحقيق وصيته ودفنه إلى جوار أبيه الإلهي، هنا في سيوة.
هذا الخيط الهامشي المتحور حول شغف كاثرين بالتاريخ المصري، يفاجئنا بهاء طاهر وببراعة لافتة في تحويله جوهرا للرواية وخلاصة لها. ففي العُشر الأخير منها يتوسع هذا المسار الثانوي المرسوم بدقة وموازاة على هامش “الأحداث الكبرى” للرواية ليصبح مسارها العريض والأساسي الذي يلتهم ما اعتقدناه الحبكة الدرامية الأساسية وهي صراعات المأمور محمود مع أهل الواحة ومؤامراتهم لإغتياله، وصراعاته مع ذاته أيضا. المأمور محمود ظل طوال سنوات عمره متأنفاً ومتأففا من شغف زوجته كاثرين بالآثار المصرية، ومستسخفاً تلك الرسوم والكتابات التي تغرق في فك طلاسمها أياماً وأسابيع. لكن ما يستفزه أكثر هو ذلك الشغف نفسه بالماضي الذي ما عاد له معنى والذي يراه متكررا عند اليوزباشي وصفي الذي تم تعيينه لاحقاً لمساعدة المأمور محمود وأُرسل إليه مع عدد من الجنود من الإسكندرية. اليوزباشي وصفي لا يترك فرصة إلا تغنّى فيها بأمجاد الأجداد الفراعنة والإغريق وعظمتهم وحضارتهم وكيف حكموا المنطقة والعالم، وتبهره تلك العظمة ليجري خلف “عظمة” كل محتل باهر. وعندما يبرر اليوزباشي الإحتلال البريطاني بالقول إن “حكومتنا لا تستغني عن الأنكليز، نحن نحتاج إليهم”، يردّ المأمور هازئاً: “لكنك في تلك الليلة كنت تؤكد عظمة أجدادنا المصريين وأنت تمدح آثارهم! ألا يستطيع الأحفاد أن يصلحوا مثل أجدادهم لحكم البلد؟”، فيرد اليوزباشي وصفي: “ليس الآن. لا بد أن نتعلم أولاً الكثير من الانكليز. أنظر سعادتك حتى آثار المصريين وعظمتهم يكشفها لنا الانكليز ونحن لا ندري عنها شيئاً“.
تبدأ عذابات المأمور محمود من لحظة قرار المستر هارفي، المستشار البريطاني في القاهرة، تعيينه مأموراً على واحة سيوة وإعادة إخضاعها للقوانين بعد تسلسل الإضطرابات فيها ومقتل المأمور السابق وعمدة الواحة الذي كان متعاوناً مع السلطات. كان قرار التعيين بمثابة عقاب أو آلية للتخلص من شخص غير مرغوب في وجوده في المركز الرئيسي للحكم البريطاني. وعلى رغم إخلاص محمود وخدمته المتفانية للحكومة وحلفائها الانكليز فقد كان ارتكب حماقة أو إثنتين كانتا كفيلتين إثارة شكوك حول مدى إخلاصه الحقيقي وتالياً نفيه العملي إلى سيوة. ونظراً لإفتقاره الى أي معارف يتمتعون بكلمة مسموعة عند الانكليز كغيره من الضباط الذين تفادوا “هذا التعيين” المخيف، فإن قدر محمود كان يسوقه إلى رحلة هلاكه التي عرف نهايتها من لحظة بدايتها.
وصايا المستر هارفي تؤكد له أن ليس هناك نهاية حميدة. يحذّره بلهجة صارمة من التدخل في المعارك التي تنشب ولا تهدأ بين القبائل في سيوة: “هذه المعارك جزء من حياتهم وهم أحرار في ما يفعلونه بأنفسهم، إلا بالطبع إن أمكن من طريق تحالفات معينة مع عشيرة أو أخرى تحويل ذلك إلى وسيلة لضمان السيطرة. هذه مسألة مجربة ومضمونة بشرط أن لا يستمر التحالف مع طرف واحد لمدة طويلة. يجب أن يكون التحالف مع هؤلاء مرة ومع خصومهم في المرة التالية. هل تفهم؟… لا تنس أن مهمتك الأولى ستكون جمع الضرائب… مهمة صعبة كما تعرف… صعبة جداً. حب البقاء سيعلمك هذه السياسة” (ص 15).
سيرة محمود في محيط عائلته الميسورة ثم يفاعته وشبابه، تغلبها الحيرة و”الوقوف في المنتصف”، بمدلولاتها السلبية وليس الإيجابية. يدرس على مهل وأناة في المدرسة التجهيزية عندما كان البلد يغلي أيام الخديوي إسماعيل. يدروش مع والده شيخ الدين في حلقات الصوفية والذكر، وفي الوقت نفسه تملأ حياته النساء والجواري وسهرات الخمر الحمراء. هو نصف تقي ونصف فاسق. يعمل في الحكومة ومع الانكليز، لكن قلبه في الداخل مع ثورة عرابي. هو نصف وطني ونصف خائن. ينضم في شبابه الى حلقات جمال الدين الأفغاني، وتستهويه حماسة مريديه وتبهرة فكرة الماسونية المغرية آنذاك بدعوتها الإنسانية والمتجاوزة للإختلافات العرقية والدينية، قبل أن ينقلب الأفغاني وأتباعه عليها. “منتصفية” محمود مختلفة عن “الوسطية” لأنها ببساطة الوقوف الأعرج بين الخيارات. هي غياب الحسم الذي يراه محمود عند كثيرين ويحسدهم لإمتلاكه: هناك أتباع حاسمون للانكليز يحصدون ثمرة موقفهم الواضح، وهناك ثوار ضدهم لا مساومة في موقفهم ولا تردد. لسبب ما لا يواصل محمود مسيرة شيء بدأه. يتحمس في البداية لكن يتردد في المنتصف، وتالياً يخسر الكثير. مشدود هو إلى أكثر من اتجاه. ربما جاز لنا أن نراه مترددا إزاء قتل “أي أب” من الآباء الذين يحيطون به، أو الإلتحاق بأيّ واحد منهم بشكل قطعي وكلي.
قبل أن يبدأ رحلته المبهمة والغامضة النهاية إلى سيوة، يتذكر محمود كل ماضيه “الإنتصافي”. يكره نفسه، ثم مرة أخرى يشلّه عجزه عن الثورة ضد ما لا يريده. يثقل عليه إرث ماضيه المستسلم إذ يخطّ له مرة أخرى مسارات حاضره كمخدَّر تعوزه الحيلة لا بل حتى التفكير في حاضر خدره. يتأمل في الماضي: “وأسأل نفسي الآن إن يكن كل ذلك الماضي البعيد قد اختفى؟ أسأل إن يكن ذلك الشاب الموزع الروح قد التأمت أجزاؤه أم زادتها الأيام تعثراً” (ص 22). ينطلق إلى سيوة في قافلة سرعان ما تصبح تحت رحمة الدليل البدوي. هذا الأخير، على هامشيته، يزيد من اغتراب محمود عن ذاته واحتقاره لنفسه: يكتشف تضاؤل أهميته بالنسبة الى هذا الدليل الرثّ الهيئة، وهو الذي يصدر القرارات والتوجيهات لتسيير القافلة، متى تتحرك ومتى تقف، أين تبيت وأين تشرب، كيف تتعامل مع الطوارئ وكيف تواصل المسير. محمود، الرئيس المفترض لهذه القافلة، يمتطي جمله ساكتاً مبحلقاً بشبه بلاهة في أفق لا يقول شيئاً. حتى حاضر محمود القصير في هذه الرحلة الصعبة بلا شك لكنها التي لن تطول أكثر من أسبوعين، لا يني يتواطأ مع ماض يشلّه ويسلّمه مرةً ثانية إلى دورة أخرى من دورات الإستسلام لمجريات الأمور، من دون التأثير فيها. لهذا عندما تهبّ عليهم عاصفة مفاجئة في الليلة التاسعة من الرحلة وتكاد تقضي على القافلة ومن فيها، يجد محمود نفسه مستسلماً في إنتظار الموت، محدّثاً نفسه: “فليأت! هو مؤلم ولكنه ليس مخيفاً. فليأت بسرعة! أود النهاية كراحة جميلة من عبء لا يُحتمل. فليأتِ” (ص 45).
ما يفضح عري محمود أفندي أمام سطوة الماضي – الأب هو عنفوان كاثرين زوجته وانطلاقها إلى المستقبل. عندما وقع محمود في غرامها قبل سنتين أحب فيها أشياء كثيرة، أولها أنها ايرلندية وتكره الانكليز في داخلها لأنهم احتلوا بلادها كما يكرهم محمود في باطنه. وأحب فيها انطلاقها وحبّها لمصر وتاريخها وماضيها، وايضا جمالها الذي تمتع فيه كثيراً وأدهشها مُتعاً بسببه في الفراش. لكن ما يمكن أن نستنتجه من حيرة محمود حيال كاثرين إن لم نقل غيظه منها، ليس فقط الهوس بكل تفاصيل الماضي ومخطوطاته ورسومه، بل علاقاتها الفوقية مع كل ذلك الهوس. فهي ليست أسيرته، ولا نرى علاقة “أبوية” تتحكم في كاثرين وتفرض عليها استسلاماً معيناً لا تستطيع الخروج عنه. ظاهر الأمور يقول لنا إن كاثرين هي الواقعة في أسر الماضي (الإغريقي – الفرعوني هنا)، حتى وإن لم يكن ماضيها، وأن محمود باستتفاهه كل مشاريع التنقيب عن ذلك الماضي، يفكر حراً ومستقلاً عنه. لكن ما يقع وراء الظاهر يقول لنا إن كاثرين تأتي الى الماضي من واقع المستقبل. هي تريد أن تحقق كشفاً، إنجازاً، مجداً صغيرا أو كبيراً، يثبت “حدسها” بأن الأسكندر مدفون هنا في سيوة. تذهب إلى الماضي في زيارة خاطفة وسياحية لكن أقدامها في الحاضر والمستقبل. في المقابل فإن محمود، والأكثر منه الأوزباشي وصفي الذي ألحق به في سيوة، مقيّدان بعلاقة مرضية مع الماضي. أبوهم في التاريخ السحيق أقام مجداً، فتح بلاداً، بنى أهراماً، ثم رقد في ضريح عملاق ظل بابه مفتوحا على مستقبل اولاده وأحفاده حيث يرونه يراقبهم بتيقظ مهما ابتعدوا في المكان وغاصوا في الزمان. يحنّون إليه ويشكون إليه هزائم الحاضر، وعندما يُشكل عليهم شكل المستقبل فإنهم لا يجدون إلاّ الأب- الماضي ظهراً لهم يتكئون عليه ويتوعدون المستقبل بمجد لا يقل عن مجد أبيهم التليد.
لا ينفك المأمور محمود من علاقته بماضيه الأبوي المضطرب إلا عندما يقرر تفجير المعبد الذي يظن اليوزباشي وصفي وتظن زوجته كاثرين أن الأسكندر مدفون فيه. في قلب التفجير يقف محمود مستسلماً لموته هو أيضاً. كأنما ليقول إن كان لا بد من موتي لقتل الماضي الجبروتي وصلف أبوّته، فليكن! ¶