الإعـلام السـوري إذ يفـرّط فـي “المســـتقبل”
مرة أخرى ينتهك البارود قهوة الصباح، وينتحي الصحفي بكرسيـّه المرصود ليكتب خبرا عن (خبره)، طعما في شبك الاشتباكات، ودريئة لكباش المتناحرين، القهر في نفسه، والحرائق في مكتبته، والدماء في حبره… وما من ناشر، ولا من قارئ أو مشاهد.
ولا يسع المرء هنا في أتون الأخبار المتلاحقة من بيروت (الحرائق)* وأعمدة الدخان الأسود لا تزال تتصاعد من مكاتب الجرائد ومحطات التلفويون، إلا التريث برهة للتأمل في الموقف الذي تواطأ عليه جلّ الوسط الصحفي والإعلامي السوري تجاه ما يجري.
فالمتابع لردة فعل وسائل الإعلام السورية سواء منها الرسمي أو الخاص حول الأحداث التي تواترت مؤخرا على بعد ساعتين فقط بالسيارة من العاصمة دمشق، لا يفاجئ ربما بهول ذلك الصمت البارد، واللامبالاة الفادحة، تجاه قضية الترهيب والإغلاق القسري الذي تعرضت له وسائل إعلام لبنانية محلية، بقدر ما يفجع ربما بحجم تلك الشماتة التي سادت الوسط الصحفي السوري وهو يرقب مجموعة (المستقبل) الإعلامية المؤلفة من قناتي تلفزيون، وإذاعة، وجريدة يومية، وهي تـُقصى -ودفعة واحدة- تحت تهديد السلاح عن المشهد الإعلامي للأحداث منذ اليوم الأول لوقوعها.
بل إن بعضا من أولئك الإعلاميين السوريين المحسوبين على الموجة الجديدة -التي لم تبلغ شاطئها بعد من الإعلام الخاص- لم يطل بهم الأمر قبل أن ينجروا وسريعا لاستخدام لهجة مخجلة تتبنى مانشيتات التابلويد السياسي إعلاميا، وتسوق دون وازع تحويرات شتائمية تجاه ما اعتبروه إعلاما مضادا على الجملة، من قبيل نعت قناة (العربية) بالـ(عبرية)، وإلحاق تلفزيون الـ(LBC) بالقائمة الفضفاضة لـ(العمالة للعدو)…
في استسهال مخز –أقله- للتعاطي بذات اللغة الموبوءة التي يأخذ أولئك الصحفيون على وسائل الإعلام (المعادي) تلك استخدامها، دون أن يشفع لهم بحال ما سفحوه عند أقدام أشباه هاتيك المقاربات من تحليلات أو رصد يزعم الأكاديمية والمهنية، في حين يتم التعامي في اللحظة المشهدية ذاتها عن الـلقطات الـ(مدروسة) التي يبدو أن تلفزيون (المنار) يتقن بدوره زرعها في ريبورتاجاته، متنقلا بحرية أكبر من غيره بين النيران الصديقة، مع منافذ أوسع لكاميراته التي لم توفر (زوماتها) القنابل اليدوية إسرائيلية المنشأ غنيمة حرب إعلامية ثمينة في معاقل الخصوم.
وبذلك لا يكون الإعلاميون السوريون في النهاية قد تأخروا كثيرا عن المشاركة في ماراثون ذر رماد التضليل في العيون، وإهالة المزيد من التراب على موءودة كل الأطراف، كما هو الحال في مثل هذه الأحداث، وأعني الموضوعية.
ليس دفاعا عن خط جريدة (المستقبل) الغائبة مطبوعة ً عن أكشاك جرائد المدن السورية منذ حين، والمحجوبة أيضا وأيضا موقعاً الكترونياً عن شبكة الانترنت المحلية، ولا ذوداً عن (فكر) تلفزيون الـ(future) وسياسة ملاكه وتياره، والذي يعتقد كثيرون أنهما لجهة إخراج الـ(بروباغاندا) الخاصة بهما – التلفزيون والجريدة- يكادا أن يكونا من هذه الزاوية بالتحديد -ومن حيث يدري القائمون عليهما أو لا يدرون- توأمين فاقعين لألد خصومهما إعلاميا على المقلب الآخر، من هيئات التلفزة (العامة) الموجهة، والجرائد السورية ذات الخط الرسمي منها، أو تلك الملحقة بالأحزاب، خاصة وأنّ مجموعة (المستقبل) ذاتها سبق وأن أدت قسطها للعلى حليفا للرسمي السوري أيام الحريري الأب، قبل أن تقلب له لاحقا ظهر المجن.
بيد أن هذا الأمر شيء؛ وموضوع أن نمعن صمتا ونستمرء رؤية أحد صحفيي مؤسسة (المستقبل) تلك وهو ينحني في مكتبه ليلتقط أمامنا من الفوضى العارمة تحت قدميه لا قلما ولا ورقة ولا صورة، وإنما شظايا من قذيفة (ب 7)؛ هو شيء آخر تماما.
إذ لا مكان للشماتة هنا، إلا ممن يريد الشماتة بنفسه.
ومؤسف حقا أن المرء لدى مطالعته قدرا غير يسير مما نشر على صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية المحلية السورية خلال الفترة الماضية –أو ما لم ينشر- لاينفك يتعثر ببعض الإعلاميين السوريين متلبسين بأدوار لا تليق بهم، غافلين عن أن آخر ما يحتاجه اليوم إعلامنا السوري، هو بالضبط السقوط في ظلّ ذلك الفخ الذي يـُزعم دائما أن الآخر الإعلامي قد استساغ التمرغ في (أوحاله).
ومن غير المجانب للصواب تماما الادعاء هنا أن هذا الإعلام السوري في نسخته (الخاصة) –ولا أقول المستقلة- لمـّا يخرج بعد من إسار تراث الإعلام الرسمي الإقصائي، وتقاليده التعبوية الدوغمائية، والتي استفحلت في حياتنا الإعلامية لما يزيد عن الأربعة عقود ونيـّف، خاصة إذا علمنا أن كثيرا من إعلاميينا وصحفيينا السوريين لا زالوا ينوسون بلا بوصلة تقريبا بين كلا القطاعين، مرغمين أحايين كثيرة على (مسايسة) سياسات تحرير الفريقين معا في آن.
ومتابعة متأنية لكل المشاهدات الآنفة تكشف كيف أن القيمين على الإعلام السوري والقائمين به ككل؛ يفتقرون للحد الأدنى من أسس إستراتيجية خليق بها أن تنال حيزا أكبر في رؤاهم الإعلامية ضمن أفقها الأوسع –إن وجدت تلك الرؤى أصلا-، استراتيجية تضع في اعتبارها قيم المنافحة عن مقومات وجود هذا الإعلام في أصله، من حق الحصول على المعلومة، وحق التعبير بها وعنها، والأهم في هذا المقام تكريس واجب التضامن مع كل من تسلب منهم هذه الحقوق، كون هذا التضامن عمليا تضامنا مع الذات وذخرا مستقبليا لها.
وبعيدا عن استلاب المصطلح السياسي في عمومه، ومصادراته التي لاترحم، يتوجب من منطلق إعلامي محض التأكيد مرة أخرى والدفع بقوة للتذكير أنه لايمكن أن يكتب لـ(التحرير) التمام والاكتمال طالما أنه لا يزال هناك رصاص يئزّ في غرفة (التحرير)، وأنه لا يمكن لأي مقاومة أمينة لمبدئها -أيا كانت- أن تنسحب القهقرى وتتهاون هكذا فجأة أمام (العدوان) على الفكرة، أو أن تسلم بهذه السهولة بـ(احتلال) الكلمة والرأي.
وإلا فنحن مهددون بالمزيد من الانتكاسات داخل هذا الجسم الصحفي الذي يعاني ما يعانيه، نكسات قد تحمل دلالات وتضمينات بالغة الخطورة والفداحة، كتلك اللقطة التي عبرت في شريط الحدث الداهم قبل أيام، وظهر فيها أحد مذيعي قناة (المستقبل) وهو لايزال تحت تأثير صدمة ما لحق بمؤسسته الاعلامية من ضيم وتكميم للأفواه ليقول كلماته المرعبة يومها: أعترف أنني صرت منذ اليوم طائفيا!
الصحفي ليس عدوّا، فمن باب أولى ألا نكون –نحن الصحفيين- أعداء أنفسنا.
* (دمشق الحرائق)، مجموعة قصصية لـ زكريا تامر
خـالـد الاختيـار، صحافي سوري، ينتقد، وبكثير من المنطق فالغضب فالمساءلة، تغاضي الاعلام السوري والقيمين عليه من صحافيين وغير، عن ادانة ما تعرّضت له وسائل اعلام تيار “المستقبل”. ليقول “الصحفي ليس عدوّا، فمن باب أولى ألا نكون –نحن الصحفيون- أعداء أنفسنا“.
المصدر :منصات – أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه