الليـالــــي والليالـــــي
عباس بيضون
كنت هادئاً تقريباً ولا أدري لماذا بقيت هادئا. شغلني أمر مقلق منذ الظهيرة وربما تكون الطلقات الماطرة بعيداً عذراً كافيا لتحريري منه. قضينا بعد الظهر نسمع أخبار اشتباكات في احياء لكننا خلناها الاشتباكات المعهودة في الأحياء نفسها وحسبنا انها لن تتجاوزها. حين علمنا أنها انتقلت الى غيرها ظللنا نظن انها اشتباكات أحياء وبقيت مطمئنا الى أنها لن تصل الينا. فهمت من التليفزيون انها على مسافة شارعين لكني لم أقلق فمسافة شارعين كافية لتبقى بعيدة، كنت غادرت الشرفة شاعراً بأن خطراً ما في الجو لكن غرفة التليفزيون ليست أكثر أمنا. انها اشتباكات فحسب ويصعب عليّ أن أصدق انها غدت حرباً، الحرب فوق خيالنا. مع ذلك وأنا فوق سريري بدأت اشعر بأن الدوي فوق طاقتي، رأسي لا يتسع له وأخشى ان يقتلعني الصوت من مكاني. استمريت أتلفن وفي أحيان كنت أدير الهاتف الى النافذة ليسمع مخاطبي ما يجري. كنت فهمت انها الحرب وأتعجب من أنني لا أسعى الى حماية نفسي، لم يذكر التلفزيون قتلى وكأن الطلقات والقذائف لا تجرح. ذلك طمأنني لكن تتابعت عليّ ذكريات ليال أخرى مماثلة.
ليلة حزيرانية أمضيتها في طابق أرضي مع جمع كبير وعندما شقشق الصبح كنت بعد حبتي «ترانكسين» راقدا على التراب تحت غطاء خفيف اتقاسمه مع امرأة في الطرف الآخر. كان الوقت صيفا وفي الحقيقة كانت نهاية الربيع فربيعنا قصير ولا يلبث ان يحرقه الصيف. كنا جماعة كبيرة في الطابق الارضي لمبنى لا يزال قيد البناء والارض لا تزال ترابا وقسم من المكان غارق في الماء. كنا في المبنى المظلم زمراً، استعنا بالمصابيح اليدوية التي كشحت الظلمة بدرجات متفاوتة فبقي الليل في الزوايا وانكشفت الظلمة في بعض النواحي عن اشكال شبحية متواشجة، فجأة صعد غناء من جهة ما وبقي مع ذلك فرديا وانطفأ بعد قليل. استمر الدوي بلا انقطاع وفي لحظة ما تحكم فيّ هاجس ان لا نجاة. قريبا منا توفي رجل من الوهلة وكان البكاء عبثا ونحن تحت الدوي فلم نسمع في ناحيته أي صوت، كنا نرقد هنا احياء وموتى وحين تعبت واحتجت الى التمدد دخلت تحت ذلك الغطاء الذي ضم رجلا وامرأة متباعدين. لم يكونا زوجين ففي هذا الوقت يسأل أحد. تحت الدوي كنا جميعا بذات الصفة تجاه بعضنا البعض. الاقرباء جلسوا حول ميتهم لا يصيحون ولا يتربون. كان واضحا ان ليس هذا وقت ذلك كله، كانت المرأة راقدة في الطرف وبعيدا عنها رجلان غريبان، في تلك الساعة تساوت الصلات تقريبا وسادت بين الناس قربى باردة صامتة. كان الرعب والانتظار اخرسين وان ارتفعت صيحة من هنا او هناك، لقد تقاسمنا الصمت نفسه وربما تقاسمنا جميعا تلك اللافكرة التي وحدها سكنت رؤوسنا وقلوبنا. كنا الرجال الجوف بدون ان نتذكر إليوت. في تلك الساعة لا نحتاج الى ماض او ذاكرة. كنا بلا صفات بدون ان يخطر لنا موزيل، لم نحتج الى اسماء او وجوه. نسمع صفير الاقلاع والدوي الذي يعقبه. الصفير والدوي، كان هذا ما يسكننا. هذا ما كناه، لحظة الصفير ولحظة الدوي. حين ايقنت أن لا نجاة اخذت حبتي ترانكسين ورقدت. شعرت بالمسافة بيني وبين المرأة الراقدة في الطرق الآخر ولم أعرف ماذا اسمي ذلك. اغمضت عيني تاركا الدوي والصفير في الخارج، وفجأة بدأت صور كاملة مجسمة تمر امام عيني، لم أتميز ما هي في البداية لكنها استقرت على صور رسوم اقمشة، في تلك اللحظة كنت اخترع رسوم اقمشة، كنت مصمما لهذه الرسوم وتفاجئني بجمالها وتناسقها. استمريت في عملي باجتهاد بينما الدوي والصفير ليسا بعيدين عني. حينما استحكم الصباح دخلوا علينا وقالوا ان كل شيء انتهى وبوسعنا الخروج.
أتذكر ليلة أخرى قضيتها مع عائلتي وعائلة أقاربي الذين لجأوا الينا من حرب في ضاحية صيدا. قضيناها بين حائطين، وجدت بقدر علمي العسكري انهما أأمن. كان عليّ ان أحصر السبعة الذين معي في الرقعة ذاتها. هذه المرة كنت تحت واجبي. كان عليّ ان أكون عمود هذه المجموعة المتكتلة هنا. خمسة اطفال وامرأتان وأنافي دور الرجل الذي لا يليق بي. هذه المرة تحول الاشتباك سريعا الى معركة. في الحرب لا نميز القرب والبعد بدقه ففي لحظة ما يغدو الدوي في أجسادنا ويصعب ان نجد مسافات حقيقية. كان الدوي كله ينكسر فوق حائطين.كنت متأكدا من ذلك ولم تتطرق إليّ ذرة شك، بقي عليّ فحسب ان احفظ الجميع في هذه الرقعة. في الواقع لم أحتج الى سلطة لفرض ذلك. لا بد ان الدوي فعل فعله فخمد الصغار والكبار في امكانهم. لا أعرف لماذا قرر اكثر الاطفال طيشاً، ان يقفز خارج الرقعة السحرية المأمونة. وجدت كفي ترتفع عليه لكنها تصيب آخر. عاد وعدنا جميعا الى حمانا الصغير. شعرت ان شيئا ما دخل من النافذة في الغرفة المجاورة، زادني هذا شعورا بالامان. صدّ عني حائطاي العزيزان شيئا ما. كان عليّ ان اتكلم لأطرد الرعب. أنا الوحيد الذي تكلم وليس كلاما هذا الذي خرج من فمي، كان أي شيء. المهم ان يبقى صوت في المكان، كان نوعا من رقيه، من تعويذة، وكنت في تلك اللحظة أباً ورجلا ونوعا من كاهن عائلي. اسعدني هذا الدور، كنت في واحدة من المرات القليلة التي أجدني فيها على مستوى نفسي. في الصباح، حين سكت كل شيء، اطللنا فوجدنا تحت شرفتنا ونوافذنا حطاماً وسيارات محروقة. لم نر دماً ولا قتلى. كان ثمة شيء بارد في الجو، شيء بلا اسم، بالكاد يحلق، هو العداء. في المصعد صرخ علينا صاحب البناية بلا سبب، افترضت ان هذا لأنني مجرد مقيم في شقة صاحبي، لكنه في الغالب كان يطلق شيئا حاداً على اسمي.
أتذكر ليلة أخرى، بل ليالي قضيناها في الرواق. كانت أمامنا زجاجة ويسكي عملاقة على الطاولة أخذنا نشرب منها مطمئنين الى انها لن تنفذ. كنا متأكدين من صلابة الحيطان ومن امتلاء الزجاجة، وكانت هذه ينبوعنا الحي وأمنا الرمزية، ربما لهذا تناولنا منها بمقادير صغيرة لنظهر أدبنا. لم نخف لكن طال الوقت وضجرنا. وحين خرجنا اخيرا بإيعاز وعرجنا في الطريق الى بيروت على بيت أحد أصحابنا. فتحت الباب ووقفت في أعلى الدرج أتأمل القرية ذلك الصباح وفجأة غمرتني الدموع. تأكدت في هذه اللحظة انني لن اعود بعد الى مدينتي. لم أكن متعلقا بها ولم أصادف في يوم هذا النوع من الحنين لكنها كانت لحظة فراق وللحظات الفراق ناموسها الخاص. انها اللحظة التي نشتري فيها لانفسنا بيتا ووطنا ونسلمهما في احتفال شخصي لندم دافق كالدموع. قلت لنفسي لن أعود وفي بيروت واجهت ليالي أخرى وعدت، بل بقيت ضائعا على الطريق.
كنت بالضبط وأنا راقد على ظهري أشعر بهذه الليالي الكثيرة تلقي ضؤها المستعار والغابر على سريري. كان الدوي يزداد كثيرا لكنني اخاف اكثر من ذلك الدوي الذي اسمعه في ذاكرتي. في لحظة لم يعد الحاضر موجودا. كان هناك مجددا زمن تسول الحياة والحصول عليها ككسرة خبز جافة ثمنا لليالي الرعب التي نلح فيها على انفسنا ونبيعها بيوم مذلة جديد وسخيف وتافه وبلا طعم. كنت اراني مرة ثانية راقدا مع ذلك الميت في فراش واحد. اراني مجددا محشورا بين حائطين. اراني وسط الفلول التي تذهب الى الشاطئ وبعضها يسير تحت ملحفته البيضاء. اراني ايضا في معسكرات الاعتقال حيث اريق نفسي واسمي كل صباح في سطل الخراء. اراني مرتجفا من جديد امام حاجز عاجزاً عن تقديم سبب لوجودي. لم يكن هذا ماضيا فحسب، كان نوعا من مصارعة شبح طوال الليالي والرضا بنجاة صباحية. لقد تعبت ولا املك بعد روحاً لمذلة اخرى ولا جسداً لانقصاف جديد، تعبت بالتأكيد من الاكل مع الموت في صحن واحد ومن استعمال روحي وجسدي لآلاف الرسائل الزائفة. من لمس تراب قبري الطري والأعلام التي تشك فيه، ابناي كبرا ولم يعد هناك ما يرغمني على ان اعيش بين حائطين، هناك شرفه ونافذة مفتوحتسان للجميع على الجو وعلى الهواء.
تقول لي صديقة «تبا لهذا البلد» اجد العبارة مبتذلة، افترض ان الوداعات الكبرى تستحق عبارات اكثر نفاذا، لكني لا اجدها، ابحث عنها، اسمع عبارات قالها ملوك لكني لست ملكاً، اقول انني في ضعفي ومذلتي لا استحق عبارة اخرى… «تباً لهذا البلد» لكني اسمع عبارة من دعاء الافتتاح «وقفت سفينة المساكين» نعم انها سفينة المساكين والمهانين، اسمع مجدداً عبارة من انشودة المنتحرين لدانتي «لن تجد اي أمل» اتذكر عبارة لكفافي يوصي فيها انطونيو بأن يكون في مستوى قدره، لكن اي قدر لنا الان اكثر من الرقاد مع الموتى وشراء الحياة ببطاقات الرعب.
أرى صورة ملصقة وسوداء على الحائط، لا تقول لي شيئا، بعد مسافة أرى الصورة نفسها سوداء ومظلمة، لا بد انها مستنسخة على الماكنة التي تستنسخ عليها المعاملات وصور الهوية، أرى هذه المرة جنبها ورقة نعوة «الشهيد فلان»، انها صورة فتى وسيم ومبتسم لكنها مكشوفة ومعتمة كأنها احترقت ثانية على الحائط. انزل من جريدة «السفير» الى الحمرا. تحتفي بي في الشارع الفارغ زميلة تلفزيونية، تنتظر هناك في الوحشة والخلاء، كانني سقطت عليها من شجرة الحياة، لا اعرف ماذا اجيب وافارقها بدون كلمة. اسير في الخلاء الى ان ابدأ اتعب واضيق، اصعد الى الشارع الموازي، امام فرن الكبوشية تقف سيارة تخرج منها امرأة ممتلئة في ثياب سوداء وتتوجه الى المبنى المقابل، تراني عابراً حاملاً صحيفة فتقول بصوت هادئ «ابني قنصوه، عمره عشرون سنة، لم يكن له دخل في السياسة، طالما احب السهر والشرب والنساء» كانت تقوله بدون انفعال فخلت انها تروى لي قصة انتهت على خير، سألتها ببلاهة «ماذا اصابه» قالت «مات» سألتها بالبرود ذاته وماذا كان اسمه، كنت لا أزال غير مصدق، قالت اسما ولما وجدتني مسمرا مكاني ظنت انني استغرب الاسم او احار في هويته الطائفية قالت شارحة بتبسط ان العائلة موجودة في كل الطوائف واتجهت الى البوابة، فيما بقيت أنا غير مصدق. كانت وحدها في حدادها والسيارة لا تزال تنتظرها ورأيتها قبل ان انعطف الى الطلعة تعود الى السيارة لا تحمل شيئا، لم افهم ولم يزدني كل ذلك فهما. كانت الامور كلها مكسوفة وسوداء وتسقط عن الحائط وعن شجرة الحياة.