وديع سعادة شاعر الحوار في الصمت: كتابـــة فـــي المحـــو والعـــدم
علي جازو
إذا كانت الهجرة علامة ترْكٍ وتخلٍّ لظروف وعوامل شتى، فإن هجرة الشاعر اللبناني وديع سعادة 1988 من جحيم لبنان الحرب إلى استراليا النائية ليست هجرة عن المكان وحسب. إنه تخلٍّ اتهامي لفكرة كلية، ترْكٌ تنديدي بالمكان كلغة وإقامة وحلم وطموح ومعاش. لم يورث المكان «الوطني» سوى ذاكرة أشلاء مدمرة أفضت بدورها إلى عجز مرير وشبح غياب طاغ وفقدان أمل كلي. وسيواصل سعادة حفر هذا الغياب المستبد، هائماً، في المكان المتروك وفي الذاكرة المثقوبة بالرعب. سيواصل الحفر بجسد ممزق وضمير وعي مأساوي ورهافة روح مفككة على وهج هيام قلبي عاتٍ. سيتحول الحفر إلى أسْر عدمي حيث كل رجاء حطام وكل أمل أكذوبة وكل حياة غياب. سيتحول الغياب إلى وجود آخر، أكثر كثافة وفتنة وقسوة وحضوراً حيث يتسنى للعدم وحده احتضان قسوة كهذه كما لو أن الممحاة وحدها تكتب والبخار وحده بمنح الأشكال وجودها الأخف والأرق. ترضخ اللغة إلى عبث لا يخلو من مهارة رثائية ناجية وناقمة، عبثٌ يدعوه سعادة بلعبة الكلمات الكاملة بعد أن فقدت الكلمات وقارها وإمكانية جعل الحياة لعباً صافياً وبريئاً. من هنا ستتحول الحسية العدمية المهيمنة إلى تسلية وحيدة أمام سطوة عبارة قاتمة تدعو إلى اللعب ما فقدته من الحياة. إنه الفقدان الذي لا يعوض والغياب الذي لا ينتهي. لا يكف وديع سعادة عن الحوار. لكن هذا الحوار لا ينمو ولا يتنقل إلا في الصمت حيث مكان الكتابة هو ذاته مكان الصمت وملاذ الوجود هو الغياب في الوجود نفسه. نستغرب كيف يمكن لنص سعادة أن ينتهي. فما يبدأ من النهاية والمأساة والفقدان لا يخلص لعداها، وما يبدأ من الخسارة لا يسعه حد ومن يفتح سؤاله الأول على النهاية لا يعثر على رد ينقذه من النهاية؛ فهي الرد الوحيد، هي الصدود المجرد عن كل صلة بأي جواب آخر. الوجود مترف، ادعاء مترف في وجه غياب جذري، غياب لا يغلق عينيه لأنه لم يتسن له أي وجود معافى وسليم. البداية هي النهاية وكل كتابة حينها هي كتابية طوفانية حيث من يتكلم لا يصل ومن يكتب لا يحيا ومن يتنفس المرئي الهالك يغرق في ما يراه من هلاك. مكان الكتابة لا يتمدد لأنه لا يرغب في سعة وتمدد. إنه يدور وينعطف على مركز أحادي بلا ثقل سوى في النفس التي تعاني والقلب الذي يذوق الخسران تلو الآخر. إذا كان من علوٌّ صوتي فهو علوّ الحطام، وإذا كان من نمو سردي فهو حصيلة انكماش ونزول مرير على ذات منعزلة ومشبوبة بحنين سرابي، وإذا كان من أمل فهو أمل ما تفكك تحطم وتلاشى وغدا من المستحيل وصله وربطه وإحياؤه. ستحضر الغيوم والظلال و( أشجار الشتاء ) العملاقة. سيحضر العمال والشوارع التي لا يراها سوى شخص من خلف ستارة في غرفة مغلقة. ماذا لو فتحت الغرفة بابها، عطفاً على ملاك ريلكه إذا ما صرخ؟ ستعود الأحجار إلى الجبال، ستتحول الأصابع إلى أصدقاء وحيدين ومتعبين. إنها كتابة لا تضعف رغم كونها ابنة الضعف والإنهاك. إنها صداقة مرهقة تجرح النبع الذي لا يتكلم إلى لنفسه ومع نفسه. الهواء ممزق ومن العبث رتق الهواء. الهواء معبر للجرح أكثر من كونه مادة للكلام أو علامة على حياة عذبة كنسيم جبال الصيف. الكتابة وهْم حضور، والحضور بلا هيئة. الحضور ظل ضامر. الحضور مؤتمَر من شكل ومادة الغيوم المنسابة خلل النظرات التي لا تني تتحول وتضمحل وتفنى. الكتابة هي الشكل الأقصى والصيغة الأكثر قرباً وتبخراً عن حياة لم تكن. يشك سعادة في صواب وفعالية كل استعارة. الأشياء أشياء فقط. لا أيادي لها ولا شفاه ولا أمنيات. الأشياء جميلة لأنها أشياء تلمس وتتناول كما لو أنها لم تلمس من قبل. هكذا فالكتابة هي الدرب الأقرب إلى الموت لأن الحياة المكتوبة نفق أكثر غوراً وخوضاً في الغياب الذي يعيد إلى الأشياء بهاءها المفقود، بهاءها الذي لا يعود إلا عبر الكتابة كرثاء كوني. لا لذة للحضور إن لم يكن الغياب. إنها الحالة التي فقدت كل وهم وكل رجاء. وسيغدو بقاؤها وقوتها رهينتين بقوة وهيمنة الموت. ما نكتشفه هو أن الكتابة مخطوفة من قبل الوهم وأن الحياة واثقة من الموت ليس غير. أن تكتب على هذا النحو هو أن تحيا أيضاً على هذا النحو، فالحياة تتجلى من خلال ما نكتب لا من خلال ما نكون فقط، إلا إذا توحد الوجود بالكتابة وغدا أحدهما عبء الآخر وسلواه: أن تتنفس الغياب وتأخذ المسافة بين الكلمات والوجود، بين الجدران وأضلاع الجبال، كونها مسافة وجْدٍ ممتلئة بالرعب والوجد والغياب. ماذا يعني أن تولد من الغياب؟ ألا يضمر سؤال كهذا إزالة مقصودة لكل سلف، أليست تأكيداً على وهم كل وجود أصلي سابق على الغياب. ما يسبق هو ما فني وانتهى، وما يحضر ليس سوى أثر للغياب والعدم. الوجود وهْمٌ مقابل حقيقة هي العدم.
عبث
لكن هذه الحقيقة لا تكترث بالوجود إلا لكون الوجود عبثا لا ينفد حيث نداء الفقدان يعجز عن التحول إلى أغنية ويعجز عن البقاء بلا فم. ما يثبت هو ما يزول وما يوجد هو ما يخلق من العدم. حياة تكتب ـ هي حياة كل شاعر ـ بفم مليء بالحجارة وعين مسحورة ومعزولة بالغيوم. لا قوام لقصيدة وديع سعادة ذلك أنها لم تنطلق من رغبة أن توجد و تتحصن وتدوم. إنها تنظر بعين الأسى، تتذكر وتختفي لتحظى باختفاء نضر، وغياب بائس. أهي من مادة الهواء نفسه، الهواء العصي على النفاذ؟ سؤال وديع سعادة هو من جدوى سؤال الحياة بوجه فقدانها الشرس. إنه العدم المقطر عن حياة ممحوة ومحفورة بالمحو، العدم وقد خُطف وسُبي إلى الأبد على يد حياة لم تكن ولن تكون. الشاعر يخسر، لا شك. لكن كتابة وديع سعادة تنتصر على ثقل كل خسارة. إنها تطفو في الوقت الذي تغرق فيه، تغرق وتشهد على سجل غرقى بلا أسماء ووجوه بلا ملامح وظلال بلا أجساد حيث يتعانق القتلة مع المقتولين إثر عدمٍ هو الاسم القاتم من نقاء مستحيل. الشاعر ـ ابن طموحه الخاسر ـ لا يحضر وحيداً فحسب، إنه يُكنَس ويُرمى مع بقاياه التي ذاقت مرارة الإتلاف وتوهج الفقدان. لكأن الفقدان احتضار مستمر. ما فُقد مات، ما مضى لا يعود. المفقود الماضي يشتعل ويتراكم، يموج ويرتعش ويتناغم. ما يحضر عبر الفقدان المكتوب لا يعرف من الموت سوى الإنشاد السابح اللطيف ومن الصوت سوى رجاء ندي مسحوق. تنبعث كلمات وديع سعادة من جهة يقين كلي وغامض. إنها قوية، ولا واحدة منها تخطئ هدفها؛ ربما بسبب قيامها على حسّ كارثي مزدهر، فالدمار لا يخطئ لأنه بالأساس لا يميز شيئاً مما يدمره. أهو الصدى المعاكس على إيقاع صوت رالف والدو إيمرسون: «إننا نزدهر بالمصائب»، أم إنها ديانة الشاعر الأكثر جدارة: رجاء بلا وعد، وغناء ليس للندم فيه غير مرارة متألقة، وليس لشمس اللغة سوى غروب إشراقي مستمر. والخيال خالق ومريد وفعال، إنه ابن نفسه، وجذوره من دمه ورغباته حيث حياة أخرى هي جدارة وسموّ وبرهان واكتمال وجود آخر: «والسماء إذ تمطر فليست مشيئةَ غيومها، إنّها مشيئة بالي والذين خلقوني تواروا والذين في بالي يولدون، وليس في كوني تفّاحة، ولا أفعى، ولا إله».
(كاتب سوري)
السفير