القابض على الجمر» عن زيناتي قدسية لمجموعة من الكتاب

المسرح نشاط عقلي يؤسس لحرية

انور محمد

يكاد يكون زيناتي قدسية الممثِّل المسرحي الوحيد الذي أسَّس لمشروعٍ مسرحي عربي يقوم على أداء الممثِّل الواحد (المونودراما). إذ قدَّم في الفترة من عام 1985 إلى عام 2005 ثماني مسرحيات؛ أربع منها: القيامة، والزبال، وحال الدنيا، وأكلة لحوم البشر لممدوح عدوان. ومجنون يحكي وعاقل يسمع من تأليفه، وغوايات البهاء لموفق مسعود، وشيءٌ من غسان أعدَّها عن قصصٍ لغسان كنفاني. وهي المسرحيات التي سمَّاهُ على إثرها ولده (قصي قدسية) الذي أعدَّ الكتاب «القابض على الجمر» القابض على دينه؛ القابض على المسرح. على ما لهذه التسمية من قوَّةٍ بلاغية تكشف عن بطولةٍ يتمُّ اعتسافها ومحاربتها والتنكر لها.

المقالات هذه التي حفل بها الكتاب والتي تزيد على خمسة وأربعين مقالة شارك فيها كتَّاب من مثل: فيصل دراج، بول شاؤول، علي كنعان، ديانا جبور، حسن.م. يوسف، ليانة بدر، فاضل الربيعي، أنور بدر، حسن حميد، شاكر السماوي، أنور محمد، محمود خليلي، وآخرين. تؤكِّد أنَّ زيناتي قدسية حين يقف على الخشبة لوحده، فهو لا يلعبُ بالكلام فيسرد حكايةً أو نكتةً كما يفعل ممثِّلون مهرِّجون أَثْروا، صاروا أثرياء على حساب المسرح. بل يلعبُ لمَّا يلعبُ فبقوَّةٍ وحماسٍ على أنَّ اللعب على الخشبة هو نشاطٌ عقلي يؤسِّس لحريَّة، وليس على أنَّه نشاطٌ غريزي، فنشوفه على المنصَّة يفرجينا وعي جسده بانكسارات روحه، وكيف يصير زيناتي يعيش جسداً مجزَّءاً كأنَّه سيُخصى أو تقطَّع أطرافه، أو أنَّ وحشاً سيفترسه.

صدمة الألم

ذلك أنَّه يعتبر أنَّ المسرح بالنسبة له هو مشروع حياة ، فيشبه في ذلك أولئك الفرسان الذين يذهبون إلى المعركة ولا يقبلون إلا بالنصر أو الموت في ميدان المعركة، فتراه يُضفي على الجسد جلالاً فيُسمعنا صوت صهيله وهو يحترق بنار الجلاد، لكنَّه لا يُسَلِّمُ ولا يستسلم، فيعرِّي الجسد يُعرِّيه حتى ليسحبَ العصبَ منه.

فمن يتفرَّج على زيناتي قدسية وهو على المنصَّة، وهو بكامل زينة المحارب، يدرك كم يكبح من جماح جسده إلى الشبع والطمع، وإلى العمل واللهو، فيقوم بعقلنة رغباته السياسية والاجتماعية لا ليبدوَ جسداً مهذباً أو طائعاً، بل ليفرجينا العلاقة الجدلية وليس القبلية ما بينه وبين الثقافة.

زيناتي على المسرح يذهب إلى الحواس والفكر، هو لا يهيج ـ وليس عنده مشاعر معادية، لكنَّه كما في «الزبال» و«غوايات البهاء» يريد يفرجينا صدمة الألم وما يتركه من مرارة ورعب في النفس، وكأنَّ مصدره فعالية حيوانية/الحيوانات الضارية حين تستفرد بك وأنت في الغابة أعزل ـ فتفترسك كما الجوع والفقر والطاغية الذي يحكم البشر ببسطاره.

زيناتي في «القابض على الجمر» لا يصطنع المأساة؛ هو يفرجينا هلوساتنا، صور الألم التي يتلذَّذُ الرئيسُ المناضل، الزعيم، المهيب، الأبُ القائد وهو كما «كاليغولا» لا يتناول طعامه إلا على أصواتنا، ونحن نصرخُ؛ نستغيث في مسلخه/ مذبحه الذي صمَّمه خصيصاً لأبناء شعبه. فنعرف منه وهو يملأ فضاء المنصة بأنَّ الإبداع عملية عقلية، وفعل وعي يكشف فيه العقل عن نفسه إذ لا يمكن اختزاله.

القدس العربي