هل العولمة مؤامرة؟
ميشيل كيلو
كثيرا ما نقرأ في الأدبيات السياسية العربية، وخاصة في تلك الصادرة منها عن يساريين سابقين، تحذيرات مخيفة من خطر العولمة، التي توصف باعتبارها مؤامرة تستهدف الشعوب الفقيرة والمستضعفة وقضاياها المصيرية، فلا مفر من تجميع طاقاتها وتوحيد مواقفها، لمواجهة السابقة، زمن الاستعمارين القديم والجديد.
لا يقصر أصحاب هذه الأدبيات، الجدية والمتجهمة، في عرض واقع حال العولمة، وشرح الآثار الناجمة عنها، ووصف سبل مقاومتها وإفشالها. وهم يتخذون منها الموقف عينه، الذي كانوا يتخذونه من النظام الرأسمالي، ويدعون وجود بدائل متنوعة لها، تجعل الانخراط فيها قرارا إراديا، يمكن من يريد ذلك تحاشي الدخول فيها والخضوع لتأثيرها، وكذلك مقاومتها وبناء نظام عالمي مضاد لها، يستطيع مواجهتها وقهرها والتغلب عليها، وإنقاذ البشرية من شرورها التي لا تعد ولا تحصى.
تطرح هذه الآراء السؤال الرئيسي التالي: هل حقا أن العولمة نظام يمكن الانخراط فيه والخروج منه بقرار سياسي إرادي؟ ثمة ملاحظتان تستحقان التسجيل قبل الرد على السؤال، هما:
– ليس هناك أي بديل في عصرنا الراهن للرأسمالية. قد يكون هناك بديل من داخل الرأسمالية يأخذ صورة تبتعد أو تقترب بهذا القدر أو ذاك عن رأسمالية أمريكا أو اليابان أو ألمانيا … الخ، لكنه لا يوجد بديل للنظام الرأسمالي، الذي كانت سنواته الأخيرة أعوام انتشار كوني كاسح أوصله من مجاهل أفريقيا البائسة إلى حواضر الصين العامرة، وجعله نظاما عالميا وحيدا لا منافس له: اشتراكيا كان أم ربع اشتراكي، كونيا أم محليا. هنا، يصير السؤال الذي يستحق المناقشة هو التالي: إذا كانت رأسمالية الغرب المتقدم لا تناسبنا، بالنظر إلى تقدمها الشديد وتأخرنا الأشد، فما الذي يناسبنا من الرأسمالية ونظامها، وما هي الشروط والظروف لتي تجعله مناسبا لنا؟. هل يناسبنا نظام رأسمالي محركه وغايته الربح، أي رأس المال، أم نظام آخر حامله العمل وعالمه؟. وهل باستطاعتنا حقا إقامة هذا الشكل من الرأسمالية دون الآخر: بإرادة وطنية حرة لا يتدخل فيها أو يقرر خياراتها الخارج الرأسمالي المسيطر والمهيمن؟.
– يفتقر عالمنا الراهن إلى كتلة تاريخية / سياسية وازنة، ترفع راية نظام مناهض للرأسمالية وتملك القدرة على تمريره في الواقع. صحيح أن العالم منخرط كله في أزمة جدية جدا سببتها الرأسمالية المتوحشة من النمط العولمي، لكن هذه الأزمة ستحل بجهود الرأسمالية وفي إطارها حصرا. ومع أنها قد تحدث فيها تعديلا هنا وتغييرا هناك، إلا أن التعديل والتغيير لن يؤديا إلى قيام نظام ضد رأسمالي، بقوة الرأسمالية وفي حاضنتها. ولعلنا لم ننس بعد أن هذه سبق لها أن جددت نفسها مرتين خلال القرن العشرين، دون أن تفقد هويتها كنظام محركه الربح يقوم على استغلال الإنسان للإنسان، وعلى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. لعلنا لم ننس أيضا أنها أفادت في تجديد ذاتها من نقد كارل ماركس الاقتصادي لبناها وآليات اشتغالها وطرق إعادة إنتاجها، ومن خطط لينين السياسية، المعادية لها والهادفة إلى قلبها وتدميرها. ليست هناك كتلة تاريخية ذات انتشار عالمي، تمتلك هوية سياسية وثقافية ناضجة، وخططا وبرامج اقتصادية / اجتماعية واضحة، تستطيع تحريك قطاعات واسعة من الناس في أربع أرجاء المعمورة، ردا على ما تلاقيه البشرية من عنت الرأسمالية وتتعرض له من ظلمها. بالمقابل، هناك نظام رأسمالي متطور جدا ينتشر بدرجات متفاوتة في العالم بأسره ويعين شروط وجوده، لديه قوة تكفي لإفشال أية محاولة تريد الخروج عليه ومنه. وللعلم، فإن محاولة كهذه، إن وجدت، لم تبلغ بعد مراحل تجبر الرأسمالية على الوقوف مكتوفة الأيدي حيالها، وعلى القبول بتشكل بدائل لها، قبل أن تغادر مسرح التاريخ غير مأسوف عليها!.
في الحديث عن العولمة، من الضروري الانطلاق من حقيقة جلية هي أنها تمثل تنظيما جديدا للتنمية والاستغلال على مستوى العالم، وتعبر، في الوقت نفسه، عن تطور غير مسبوق للقوى المنتجة، ودرجة رفيعة جدا من اندماج اقتصاد العالم في إطار واحد، يزيد زيادة ثورية التجارة بين أطرافه، ويفتح أبوابه بعضها على بعض، ويقوي دور الاقتصاد الرمزي فيه ونفوذه عليه، فهو يحفز نموه أكثر فأكثر، ويضع نفسه في خدمة تقدم غير مسبوق في الإنتاج والإنتاجية، سواء في درجته أم في كثافة روابطه، وهو يشمل العالم كله ويمكن أن يفيد كل من يعرف كيف يجد لنفسه مكانا ملائما فيه، مثلما تفعل الصين وبلدان جنوب وشرق آسيا، التي لم تشغل بالها كثيرا بمعارضة العولمة – لكونها رأسمالية وهي بلد اشتراكي -، بل اعتبرتها واقعا لا مفر من التعامل معه، فدرست سبل التفاعل معه والإفادة منه، وأعادت بناء اقتصادها وحياتها الجديدة فيه، وبفضله.
من الضروري، عند هذه النقطة، ابداء ملاحظة حول طابع العولمة، الذي ليس رأسماليا وحسب، بل هو كوني أيضا، بمعنى أن ضرره سيكون شديدا جدا ومدمرا تماما على أي طرف أو بلد لا يحسن التكيف معه، بينما سيعود بالمنفعة على من يجيد التعامل معه ويجد فرصته فيه، مع أنه ليس طابعا محايدا بوسع من يرغب بذلك بناء مجتمع اشتراكي أو مناهض للرأسمالية في إطاره، كما يريد نقاده اليساريون، الذين يحذرون منه بجدية، ويريدون أن لا ‘ندخل’ فيه، كأن الدخول في نظام اقتصادي كوني الطابع والانتشار مسألة كيفية تشبه الانتساب إلى نادي كرة قدم أو الاشتراك في جريدة !. إن طابع العولمة الكوني يعني أن آثارها الإيجابية والسلبية ستطال كل بلد في العالم، وأن علينا اكتشاف وترسم سبل الإفادة من إيجابياتها، لقليلة جدا بالنسبة لنا، وإلا كنا أغبياء يخوفون أنفسهم منها، و’يناضلون ‘ كي لا يدخلوا فيها، وينساقون وراء أوهام بناء بديل لها، كأن بوسع إيران وفنزويلا – ومن لف لفهما – أن تكونا بديلا للعولمة أو للرأسمالية، أو كأنهما ليستا رأسماليتين وخاضعتين لأفاعيل العولمة: من نقص المحروقات الشديد في إيران – أحد أكبر منتجي النفط في العالم – إلى عجز فنزويلا خلال فترة طويلة عن إكمال مبنى وزارة النفط، مع أنها هي الأخرى من أكبر منتجي النفط العالميين.
في العولمة جوانب ثورية تتصل بالتقدم العلمي / التقني، وبثورة المعلوماتية المصاحبة والحاملة لها، لن يستطيع من يغلق بلده دون الاقتصاد العالمي ويبقيه خارجه هذا إن استطاع الإفادة منها ومواكبة التقدم العلمي العاصف، الذي يعيشه العالم اليوم، ويمثل بحد ذاته فرصة لإنقاذ الشعوب والأمم الفقيرة، الجائعة والأمية والمريضة، والغارقة في مشكلات لا تدري كيف تواجهها، والتي تفتقر، في الوقت نفسه، إلى الأدوات والوسائل اللازمة لذلك. إلى هذا، تعتبر العولمة تطورا تنبأ به كارل ماركس، الذي ربطه بدرجة رفيعة من تقدم القوى المنتجة، وقال إن العالم سيبلغه وسيفيد من ثماره، ليس فقط لأنه سيتوحد في ظله أكثر فأكثر، وسيردم الهوة الهائلة بين مناطقه وأنماط عيشه، بل لأنه سيسهم أيضا في إخراج المتأخرين من تخلفهم، وسيضع حدا للبلاهة الفلاحية ولعقلية الأمكنة الضيقة والصغيرة المحدودة، وسيدخل في وقت قصير نسبيا قدرا من التقدم إلى البلدان غير الصناعية يحتاج بلوغه بإمكاناتها الذاتية إلى وقت جد طويل وتضحيات قد تقوض وجودها، فالعولمة تستطيع، إذن، اختصار آلام ومصاعب النمو في البلدان الفقيرة، وجعلها قادرة على إيجاد مكان لها تحت شمس التجارة والرأسمالية، كما تستطيع تدميرها. المهم، أن لا تؤذي هذه البلدان نفسها عبر خيارات خاطئة وتخيلات وهمية، تضيف إلى مخاطر العولمة المحققة، الغباء القاتل، فتكون نهايتها مؤكدة!. ليست العولمة مؤامرة. إنها تطور موضوعي يستحيل البقاء خارجه، يضمر فرصا ذات اتجاهين: أحدهما قد يميت والآخر قد يحيي. أما من يعتبرونها مؤامرة، فإنهم يأخذوننا في الاتجاه المميت، يدفعهم إلى موقفهم هذا رغبة شريفة في إنقاذنا من شرورها. بالمقابل، يأخذ قادة الصين وجنوب وشرق آسيا بلدانهم في الاتجاه الآخر، لأنهم يعرفون كيف يفيدون من الفرصة، كي يحتلوا مواقع تمكنهم من لعب دور متزايد الأهمية والتأثير ليس فقط داخل الاقتصاد العالمي، بل كذلك على مسارات ونتائج العولمة، بحيث لا تخدم أمريكا وبلدان الرأسمالية المتقدمة وحدها، بل تخدم، كذلك، شعوب الشرق، التي بلغت بالفعل ما بلغته من تقدم وتأثير دولي بفضل تفاعلها الصحيح معها، ونتيجة لعقلانية وواقعية خياراتها.
ليست العولمة مؤامرة. من يعتبرها مؤامرة ويتعامل معها بصفتها هذه، تقتله.
‘ كاتب وسياسي من سورية