صفحات ثقافية

مجانين ليلى!

null
أمجد ناصر
‘أنا، المجنون، صوت ليلى،
الملتف بالصخب، الذي يشفُّ،
من جسد الى جسد فتراه عيناك’.
هكذا تقول الشاعرة الإسبانية كلارا خانس في كتاب شعري لها مكرس لقصة / اسطورة ‘مجنون ليلى’. يحلو لي التصور، حيال ما تقوله خانس، أن روح ‘المجنون’ يمكنها النفاذ، من زمنه وصحرائه البعيدين، الى أجساد لا تني أن تولد هنا وهناك. شيء يشبه التناسخ أو الحلول. ولكن ليس كل ‘الأجساد’ مهيأة، على ما يبدو، لتقبل ‘هبة’ هذا الحلول الشقي.. والنادر. هذه هي قوة قصة ‘المجنون’. هذه هي امثولتها. إنها قصة تتقدم على ما في المدونة الشعرية الغربية من قصص مشابهة وتكاد تعتبر، في العربية، أصلاً لسلالة من ‘مجانين’ الحب و’شهدائه’. لم يعرف الشعر الأوروبي ‘الروح العذرية’، على ما يبدو، إلا مع ‘التروبادور’ في القرن الثاني عشر بينما هي شائعة بين عرب الجزيرة في القرنين السابع والثامن الميلاديين. يمكن، تتبع جذرها، بحذر، حتى الشعر الجاهلي. لكن من بين تلك السلالة ‘العذرية’ لم تنل حكاية شاعر ‘عذري’ ما نالته حكاية ‘مجنون ليلى’ من شهرة تجاوزت المدى العربي لتصبح مادة لكتابة عن الحب الصرف بأقلام (بل بشغاف) شعراء أوروبيين معاصرين أبرزهم أراغون. لحسن الحظ لم نكتشف الشعر ‘العذري’ من خلال الأوروبيين كما هي الحال مع ‘ألف ليلة وليلة’ وبعض أعلام المتصوفة ونثرهم (الحلاج، النفري، مثلا). ففي الشعر لا تُرد لنا، كما يبدو، بضاعة ضائعة. فهو، على الأغلب، بضاعتنا الوحيدة في هذه السوق. لكن الاستعادات الحديثة لحكاية ‘المجنون’ نادرة في الشعر العربي. أشهرها، ربما، مسرحية أحمد شوقي الشعرية التي أعاد فيها صياغة الحكاية من حيث استقرت في المدونة التراثية. حديثاً هناك وقفة قاسم حداد أمامها. محتمل أن تكون فاتتني مبادرات أخرى، غير أن الاستعادات العربية الأوضح لميراث الحب عندنا ذهبت الى الحسيّ وليس إلى ‘العذري’. للأمر أسبابه التي لا مجال لاستعراضها في هذه العجالة.
قد لا يكون هناك وجود حقيقي لـ ‘المجنون’. معظم الروايات العربية القديمة يجمع، تقريباً، على اصطناع الاسم والنسب والشعر. جائز أن تكون له نواة. أصل. شبه حكاية. لكن الألسن، بل ربما القلوب المستترة، حاكت نسيجاً لم يعد ممكنا رده لنسَّاج واحد. فها هو الجاحظ يقول: ‘ما ترك الناس شعراً مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعراً قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح’. أما الأصمعي فيروي أنه سأل أعرابياً من بني عامر عن ‘المجنون العامري’ فأجابه: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعةٌ رموا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟ يقول له الأصمعي: عن الذي كان يشبب بليلى؟ فيرد الأعرابي: كلهم كان يشبب بليلى! يطلب الأصمعي، للتثبت من مزاعم الأعرابي، أن ينشده شعراً لبعض هؤلاء العامريين ‘المجانين’. فينشده الاعرابي لمزاحم بن الحارث:
ألا أيها القلب الذي لجَّ هائمـاً بليلى وليداً لم تقطع تمائمـه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أبى لك اليوم أن تلقى طبيباً تلائمه
أجدك لا تنسيك ليلى مـلـمّةٌ تلمُّ ولا عهدٌ يطولُ تقـادمـه.
ثم تتوالى قصائد ‘المجانين’ العامريين الذين تغنوا بليلى حتى يتوقف الأعرابي عن الانشاد لأن القائمة، على ما يبدو، طويلة. بصرف النظر عن صحة قصة الاصمعي، لأنه لا يخلو هو، أيضاً، من الاصطناع الذي لا يتعلق بالاصطناع نفسه بقدر ما يتعلق بغواية الرواية التي تجتذب اليها مختلقين تغريهم إضافة خيط جديد الى النسيج المترامي. لكنَّ القصة، مع ذلك، وجِدتْ. الاسطورة صُنِعَتْ وصار لها شكل حكاية متكاملة. لها بداية ووسط ونهاية. الباحثون عن حقيقتها يضربون صفحاً عن أمثولتها. لكنَّ الحقيقة قلما تجدي نفعا هنا. بل العكس. المهم هو الحكاية. المهم هو الامثولة. لولا ذلك ما تم تناقلها، وربما ما اخترقت فضاءنا العربي الى فضاءات أخرى وتمكنت من اجتذاب حساسيات شعرية أجنبية إلى حبكتها المغرية. إنها حكاية تراجيدية. تبدأ بالحب وتنتهي بالموت مروراً بالجنون. وهذه هي ترسيمة قصص الحب وأساطيره الجديرة بالتناقل. بغير الجنون، أو الموت، لا معنى لقصة حب تعلن وتنتشر. بغير ذلك لا تكون هناك حكاية تُحكى. الأمر لا يتعلق بالشعر. لو كان كذلك لتقدم عمر بن أبي ربيعة، في الشهرة، على ‘المجنون’. لا يتحلى شعر ‘المجنون’ بنفس قوة شعر ابن أبي ربيعة، أو جودته (فهو متراوح تراوح نساجي الكلمات)، لكن حكايته تتفوق على شعر ابن أبي ربيعة. فالشعر، عند ‘المجنون’ يكاد يكون كلام الحكاية. لسانها. غرضها. بينما تتراجع الحكاية عند ‘عمر’ (وغيره من شعراء الحب، أو النسيب) لصالح الشعر. فهم لم يقترنوا باسم واحد ذهب مثلاً (أسماء الحبيبات اللامعات: ليلى، لبنى، عفراء، بثينة). بهذا المعنى لا أهمية لشعر ‘بشر’ و’هند’. إنه ركيك، سقيم. عكس قصة حبهما التي قيل إنها حدثت في عهد النبوة. حكاية تبدأ ببرق الحب، بل بسهمه المسموم لتنتهي بموت المحب من دون أن يلمس يداً للحبيبة التي تضيف إليها الحكاية امتناعاً يصعب تجاوزه. إنها متزوجة. الأغرب في قصة ‘بشر العابد’ و’هند بنت فهد’ تبادل لحظات الاشراف على الموت. تقلب القلوب. دراما الغرام التي تنشأ من حد المنع، أو التحريم، في أوج الدعوة الدينية الجديدة، ثم تدخّل ‘جبريل’ للدفع ببراءة ‘بشر’. لذلك لا تتطرق قصة الحب تلك الى الحسيّ بل تبقى في الحيز ‘العذري’ قبل أن تولد الظاهرة نفسها وتسمى بهذا الاسم.
كل قصص الحب العنيف، الذي يأخذ بمجامع القلوب. الذي يعمي البصر. ‘العذري’ غالباً، أو غير ‘المتحقق’، لأسباب مختلفة، تنتهي بالموت أو الجنون. دعونا نتذكر الفيلم السبعيني الشهير ‘قصة حب’. هل كانت هناك حكاية تحكى على الشاشة وتفطر القلوب لولا يد الموت التي تتدخل فتختطف؟ ليست تلك ‘قصة عذرية’. الوصال الجسدي والروحي قائم بين الحبيبين. لكن الموت العاجل، الخاطف، هو الذي دفع بالقصة الى فضاء النقصان. كأن ختم الموت هو البرهان الوحيد على استحالة ‘تحقق’ الحب. كأن الحب عملٌ شابٌ. وموت قبل الأوان. موت في ريعان الشباب. يحدث مثل هذا مع ‘تريستان وايزولدا’، ‘روميو وجولييت’ القصتين المرجعيتين في الثقافة الاوروبية. بالتأكيد هناك قصص مماثلة في مدونات شعوب أخرى. لست هنا في معرض التعداد والحصر. أعود الى موضوعي. قال شاعر عربي كبير ذات يوم إن قصيدة الحب لا تكتب أثناء الحب بل بعده! هناك وجاهة في هذا الكلام باعتبار أن الكتابة لحظة لاحقة على التجربة. التجربة أولاً ثم الكتابة. أقبلُ هذا الترتيب. لكن الشاعر العربي الكبير لم يقل لماذا. لم يفسر. التفسير عندي هو التالي: الغياب. كيف؟ في حالة الحضور ليست هناك حاجة للتذكّر، بالتالي لا حاجة للكتابة. الكتابة، بهذا المعنى، فعل تذكّر. استدعاء. يحدث هذا في حالة الغياب. ولكن لماذا تحدث ‘حالة الغياب’؟ قد تحدث بسبب المسافة، أو النقص. نادراً ما تكون التجارب الانسانية مكتملة. نادراً ما يحدث الاشباع. قصص الحب التي أتحدث عنها، هنا، طالعة من النقص أو انعدام الاشباع أو التحقق. إنها قصص نقصان. ملايين البشر ‘يحبون’. يدخلون في ‘المراسم’ المعهودة لهذا السياق التي تنتهي غالبا بالزواج. لن اتساءل عما يحدث لـ ‘الحب’ بعد ذلك. بل لن اتساءل عما إذا كان ذلك حباً أم لا، فنحن لا نعرف ذلك. في غياب الحكاية تصعب معرفة ذلك. تاريخ الحب، إن جازت التسمية، لا يضم هؤلاء إلى ‘سجله الذهبي’. الذين يضمهم هم ‘مجانين’ الحب و’شهداؤه’. الآخرون هم نحن الأكثرية الذين لم يُذهب الحب عقلهم ولا كان سبباً في مصارعهم. نحن الذين ليس لدينا حكاية تطير فوق الرؤوس المنقادة الى مصائر المعقول واليومي. بشيء من هذا القبيل تنهي الشاعرة الإسبانية كلارا خانس ديوانها المكرس لحكاية المجنون: ‘هناك بقي المجنون،
محروسا من الوحوش الى ان صار عظاماً،
بعدها كان تراباً، تحول الى شيء،
اتحد بالتراب الذي كانته ليلى،
وانفجرت الأرض حجراً من نار،
وتفرقت الحيوانات
لتحكي
تلك الاعجوبة’.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى