صفحات ثقافية

حديث متأخر عن الشعر مع محمود درويش

null
عباس بيضون
كان يتلفن لي من وقت الى وقت ليحدثني طويلاً عن الشعر واحسب ان محمود درويش كان يخرج من وحدته بهذه التلفونات الطويلة التي يتواصل بها مع أصدقاء وغير أصدقاء. كلما التقينا في بيروت او باريس كان أيضاً يحدثني عن الشعر، وقدّر لي ان أحاوره حول الشعر في حديثين نشرا في «الوسط» المحتجبة وفي «السفير». حديث الشعر قد يختصر صلتي بل صداقتي لمحمود درويش، أحسب انها تحت هذا العنوان كانت صداقة جزئية. مع ذلك قد أكون شاهداً مناسباً على انشغاله العميق بالشعر وبالأعمال الشعرية. اشهد ان محمود كان متابعاً حصيفاً لما يصدره وله رأي ثاقب في كل ما يقرأه. يفاجئ من يظنون هذا انه في نجوميته لم يكن يلتفت الى صنيع زملاء في الظل او في الضوء الجانبي. بلى كان يلتفت وكان يكترث وكان يحسب حساباً لكل راي في شعره ويقلق عند صدور كل ديوان. لعل تفكير محمود درويش في الشعر كان يتزايد بتقدمه في السن الا انه لم يكتب في هذا الباب كما فعل شعراء آخرون. لا اعرف سر تحفظه. كان سؤال الشعر بالتأكيد يملأ حياته لكنه فضل ان يترك شعره بلا رديف نظري، لعله شاء أين يحرر النقاد والقراء من هذه التبعة وان يخلي لهم الطريق فيدخلوا الى شعره بمفاتيحهم هم ومنطلقاتهم. لكن هذا لا يسعف كثيراً نقاداً او قراء يفضلون اقصر الطرق وهي ان يدخلو الى شعره بمفاتيحه وان يقرأوه بعينيه، لم يقدم محمود درويش هذه الخدمة لكن أكثر قرائه لم يبادروا. جعلت الشعبية الكبيرة لمحمود درويش قراءته تقف أحياناً عند ابسط المعارج وأكثرها عامية، او جعلتها ذات مستويات عدة قد يكون أدناها قريباً من الكليشيه والعمومية. أما قراء النخبة فأحجموا غالبا عن النبش في العمل الشعري وعن هيكليته وكشف لعبه وحيله. لقد أخذوا هم الآخرون تقريــباً بفتــنة هذا الشــعر واكتــفوا بدفـئه وحميميــته.
استسهل الجميع الدخول الى شعر محمود درويش ولم يبالوا بأن هذه السهولة خادعة وقفزوا عن الفخاخ المنصوبة على الطريق. تجاوزوا الانزياحات العميقة والدقائق والتباينات التي غدت فن محمود درويش الاثير، تباينات وانزياحات فيما يبدو واحداً ومتصلاً ومندمجاً. كان هنا بالتأكيد أكثر من السهولة الممتنعة. كان هنا فن مركب ولعبة من دقائق وظلال لافتة وظاهره، لكن الذين يستعجلون الوصول الى النهايات الخادعة أيضاً كانوا يمرون عليها ولا يبالون بارادة الشاعر الصريحة بأن يقفوا بل وان يتحيروا. ان يتأملوا هذه الفوارق الخفية، والتي هي عذاب مكتوب، الفوارق بين المرء ونفسه، بينه وبين آخره، بينه وبين جسده وموته واقامته، بينه وبين عدوه العالق معه في ذات الحفرة. لم يكن أحد ليستصعب القفز على هذه الكسور او تجاوزها. لقد تم غالباً تجاهل النداء الصريح للشاعر بأن لا يصدقوا، فما هو امامهم ليس سوى مناظر متحركة متغيرة الى حد الخداع. ما أمامهم هو في الغالب شيء لا يلبث ان ينفي نفسه او يكذبها او ينكسر باتجاه معاكس. كان نداء الشاعر صريحاً لكنه لا يستفز. اعمت الكثيرين الإلفة فلم يفهموا ما فيها من الحاح فعلي. كان الشاعر في هذه المطارح يتوسلهم ان يتوقفوا. ان يروا لعبة الظلال او محنة المعنى، ان يفهموا ان الالتباسات هي مفاصل النص وان بقع اليقين القليلة ليست سوى استــراحات عرضية. انها في النص الدرويشي من تقلبات النفــس جوعــها وكسلها وهي استراحات لا تلبث ان تأكلها الظلال.
لكنهم غالباً ما كانوا يستريحون هنا ويحسبون انهم بلغوا الغاية. في حين ان القصيدة الدرويشية تظل تقشّر الحقيقة حتى لا يبقى في النهاية واقع مشوب بالوهم او وهم مشوب بالواقع. كان محمود درويش يرسم بخطوط منكسرة يرونها او يريدونها مستقيمة. كان يحيّر الاشياء، يجذبها الى لغة فوق طبيعتها او يجرها الى ضد وسلب داخلي، مع ذلك كان يبدأ من الأشياء قبل ان يحولها باشارة لطيفة يتراءى أحياناً انها من وجنسها ويعود الى الأشياء. كان يقيم في التباين والتفارق لا في التضاد وأشياؤه تتعذب بطبيعتها وتتحول من نفسها، طالما احب المثنى الذي كان في الغالب بورخسيا فهو اننا الأنا واثنا النفس، ثم انه اثنا كل شيء. طالما جعل لكل شيء قريناً وتكلم هو كقرين ورديف.
كان محمود درويش يتلفن من وقت الى وقت ليتكلم عن الشعر، مع ذلك لم يكتب عن الشعر لأنه فهم ان الشعر يُفكّر كحيرة لا تترك محلها شيئاً. القصيدة الناجزة هي كل برهاننا على الشعر وبدونها لا يكون موجوداً، وقد اعطانا محمود نماذجه ورحل. لم يكتب عن الشعر حتى حين كتب. تلك قصيدته الى شاعر شاب هل المثل، لم يقل فيها الا ما يقال. وحتى في مقاطع اكثر خصوصية ظل حذراً، لكننا نجده يتكلم كثيراً عن الشعر حين لا يكون الشعر هو العنوان. كان الشعر هو السر في كلامه عن أي شيء. بل يخطر لي ان أواخر قصائده كان الشعر موضوعها الأول. ما كان يتكلم عن الحب او الموت او الطبيعة او الحياة الشخصية الا والشعر هو الخلاصة. الشعر يرث العالم والشعر هو الذي يبقى. انه في التباس الاشياء وتفاوتها وتباينها وفروقاتها المعذبة وانكساراتها انه بين الجلد واللحم بين الكلام والشفة، بين الأنا والأنا، انه أيضاً في توتر الأشياء وكسوفها وتبددها، في علاقاتها الخفية ومستقبلها، تكلم درويش كثيراً على الشعر في أواخره، وكان الشعر فيها استعارته الكبرى، وإذا أصغينا على هذا النحو فسنسمع كثيراً.
[ كلمة معدة للتلاوة في الجزائر في احتفال تكريمي لمحمود درويش نظمته دار البرزخ بمساعدة وزارة الثقافة الجزائرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى