التوقيع …… مغترب
9 أكتوبر 2009
خرج من دائرة الهجرة و الجوازت , يحمل جواز سفره بيده و تكاد الدنيا لا تتسع فرحته … عيناه تكاد تلتهم هذا الدفتر ذي اللون الأزرق الغامق المـّـزين بنسر فاردا ً جناحيه على إمتلاء صفحته القاتمة فخرا ً و إعتزازا ً برمز وطن الشمس … سوريا فؤاد كل عاشق و محب لوطن .
حـــّدثه قلبه بأن يـُري كل من يمــّر بالطريق جواز سفره الجديد … إقترب الحلم يتحقق … السفر قاب قوسين أو أدنى … حتى أنه أدار مـّـكيف السيارة الفارهة التي إشتراها للتو من أحد معارض الرياض الكبرى… و كاد أن يـُشــّغل ألة التسجيل في سيارته ذات المقاعد الجلدية الوثيرة و الزجاج المعتم … لولا بوق أحد السيارات المارة …. و السائق يصرخ به …. شو ضاربك العمى …. ماشي بنص الشارع ….
لأول مرة يتلقى إهانة كتلك دون أن يحرك ساكن …. لم يرى السائق و لم يرى السيارة … لم يرى الدنيا بأكملها , بل تلاشى الشارع و البشر و الحجر و الشجر من أمام ناظريه , السفر إقترب و الحلم قبل الأفق وراء التلة القريبة …. و لا يريد ان يعكر صفوه هذا السائق المتـــّـهور عديم الذوق و الأرعن ؟؟؟ هكذا سولت له نفسه بالإجابة …
إجتمع مع أهله مساءاً و أخبر والدته بنية السفر …. إكــّفهر وجه والدته …. حتى شابه وجهها وجه الموت الأصفر شحوبا ً أو أقرب قليلا ً…. أما والده فقد تجمــّدت ملامح وجه …. صَعب عليه فهم تراسيم وجه والده …. إختار أن يترجمها لنفسه علامات سرور و حبور … لازم والده الصمت … كاد أن يقضي ذلك الصمت على فرحته الأرجوانية القادمة مع ريح الجنوب الدافئة … لكنه آثر المغادرة قبل حلول اللحظة …
غادر إلى المقهى حيث إعتاد إحتساء الشاي مع أصدقاء عمره … و هناك تبادلوا الأحاديث عن سفره الذي أصبح وشيكا ً و كيفية الحصول على الفيزا و كيف سيحضر بأول إجازة له و سوف يأخذهم بسيارته ذات الدفع الرباعي بجولة في مدينة الرقة كل يوم … .. و ليس فقط .. بل ربما سيسهرون في مدينة الطبقة حتى الصباح …. لا لا … سنذهب إلى الساحل لمدة شهر …
و ليست ذلك فقط قال في سره : بل سأمر كل يوم من أمام منزل أهل غادة … و سأرفع صوت ألة التسجيل حتى أسمع كل من يمر في الشارع … بمن فيهم ذلك الخياط النذل الذي ينافسني على قلب غادة و عيناها اللامعة بخجل … و يضحك بحركة لا شعورية ساخرا ً من منظر الخياط و هو ينظر إليه من خلف مقود السيارة المتعجرفة , و كيف سيقف أمام محله البائس و ينزل زجاج سيارته الجانبي الكهربائي و كيف سيضع نظارته السوداء على جبينه فوق عينيه كما في فيلم شاهده مؤخراً .. بل سيلقي بعقب سيجارته الأجنبية أمامه .. و ربما سأطلب منه قال : أن يخيط لي ثوب و بعد الإنتهاء منه سأرميه بوجهه و أرمي بوجهه حفنة من النقود .. هذا السافل كم أكرهه …. دغدغت أحلام اليقظة وجدانه حتى السكر في مجاهيل القادم . تحادث مع أصدقائه مطولا ً … و نصف الوقت يقوم بالإبتسام لبنات أحلامه الصغيرة التي تسوق شروده في سرمد الزمان الضاحك , فكان في ذات اللحظة , مع أصحابه جسدأ ً , و يعناق الأحلام الشقية روحا ً … دون كلل منه و لا ملل .
كاد الفجر أن ينجلـّي … عاد إلى البيت و لا تزال فرحة السفر القريب طاغية على وجدانه … زاده كمية الكافيين و النيكوتين التي سبحت بين خلايا جسمه نشوة ً فأسكرت أمانيه حتى الثمالة خيلاء ً و طربا ً .. فأخذ يردد كلمات أغنية حفظها بشكل مبعثر .. لا يذكرها جيدا ً .. المهم أنه فرح … لذا وجب عليه الغناء , حتى و لو إعتقد المارة أنه تائه أو مجنون ….
مرت بسرعة الأيام … إتصل به صالح ….. فواز إسمع قال له عبر الهاتف … الفيزا غدا ً مساءا ً ستكون عندك مع عبود سائق باص (( اليحيى )) … و لأول مرة غمره شعوره لم يألفه من قبل … لم يشعر بتلك السعادة التي أطاحت به في الأيام الأخيرة .. شعور غريب هو أقرب منه للحزن و الخشية … طرد تلك الأفكار بصرير عجلات السيارة التي سيشتريها فور وصله … و زجاجها الكهربائي و ألة التسجيل التي سُيسمع صوتها لأهل الرقة جميعا ً رغما ً عنهم و كله لأجل عيناك يا غــــادة .
ثلاث حقائب كبيرة جثت متربصة قرب باب البيت تنتظر الإنقضاض على أقرب حافلة مغادرة …. حانت ساعة الفراق … إستغل والده الفوضى و شرذمة عياله و حيرة المــّودعين و تلاطم عواطفهم جياشة ببحر العائلة الرصين , فإنسل تحت جنح ظلام الشارع الذي إطاح بمصباحه يد طفل عابث … واصل مشيه يصارع دموعه على فراق إبنه الغالي و الذي لم يستطع منع أحلام ذلك الشاب الذي بدت زغبات الشعر بالظهور أعلى شفتيه …. أما الوالدة … لم تكتفي بالدموع الصامتة و إختارات الإجهاش بالبكاء على ابن قلبها … فواز …. ذلك الغالي الذي إختارات له اسم شقيقها المحبب و الأقرب لقلبها … و بعد أن خطفه الموت شابا ً … شعرت الأم بفقدان أخيها و للمرة الثانية تاهت بين ابنها و أخيها … فأنعكس ذلك دموع غزيرة … بللت وشاحها الذي ما برحت تعدل من وضعه في كل لحظة من تلك اللحظات المريرة .. في محاولة منها لإخفاء حالة التوتر المسيطر على عقلها و وجدانها بسفر صغيرها …. نعم صغيرها الذي لم تنقذه سنين عمره الأثنان و العشرين من أن يكون صغيرها … فقط البارحة خطى خطواته الأولى و تعثر بعتبة الدار و سقط باكيا ً … فركضت إليه و لفته بحضنها … كادت وقتها أن تعيده إلى قلبها خوفا ً عليه …. فقط البارحة لم تنم الليل .. بسبب إرتفاع حرارته المفاجئ … لم ينم و لم تنم …. حتى علا صوت المساجد مكبرا ً و مناديا ً لصلاة الفجر … لم يسعفها الحظ لتتعلم القرأءة …. أرادت المسكينة أن تقرأ القرآن كاملا ً تضرعا ً إلى الله أن ينقذ صغير قلبها الموجوع… لم تستطع المسكينة فوضعت كتاب الله بجانب صغيرها على نية الشفاء و رفع البلاء ….
بدأت تتذكر ظهور أول سن في فمه و سقوطه .. متى ناداها أول مرة ماما … نعم تذكر جيدا ً كانت في المطبخ وقتها .. و قد جاءها و بدأ يشد ثوبها بيده المكتنزة الصغيرة و ينادي ماما .. فحملته بجناحيها قبل يديها و أشار بوقتها نحو صنبور الماء … فسقته بيدها .. و لم ترضى بأن تكون الكأس البلورية أول من يلمس شفتيه …. إختلطت ذكريات الأم بطفل قلبها المغادر إلى بلاد لا تعرف عنها سوى إنها تقع حيث تتوجه بصلاتها كل يوم …. إلى قبلة الله إلى بلاد رسول الله و خديجة و عائشة و فاطمة و زنيب و أم كلثوم …….. زاد بكائها بذكر المصطفى و بناته و أزواجه عليهن أفضل الصلاة و السلام ……….
تــّدخل صديقه حسين لمنع تأزم الموقف و تنتقل عدوى الدموع الصادقة لبقية أفراد أسرته … فبدأ بحمل الحقائب إلى سيارة والده التي أحضرها خصيصا ً لإيصال صديق عمره لشارع (( الوادي )) , حيث ترقد حافلات ضخمة جاثمة تتنظر إنتظار الحوت ليونس عليه السلام لتلتهم فواز الفرات .. و تركنه في جوفها …
صعد فواز بخطوات متعثرة نحو الحافلة بعد ان عانق حسين و دار في خلده .. ليت حسين يمنعني من السفر … ليته … إستعجله سائق الحافلة … قبل أن يكمل أمانيه في البقاء .. و ما أن إستوى في مقعده .. حتى سمع طرقا ً خفيفا ً على زجاج الحافلة إلتفت فرأى حسين يلوح له بيده …. و يحاول بشراسة منع عيناه من البكاء …. لحظتها فقط طرقت أول دمعة باب مقلة فواز .. فخرجت رغما ً عنه … أزاحها ببطن كفه … و تحركت الحافلة بعد أن أبتلع الظلام حسين …
ألصق فواز رأسه بزجاج الحافلة البارد … لأول مرة شعر بالحزن الشديد تملكته رغبة شديدة بالبكاء منعها جاهداً …. غادرت الحافلة المدينة و ما أن وطئت عجلات الحافلة بداية الجسر فوق النهر الأم .. حتى تلاشت مقاومة مقلاتاه و إنهارات الدموع غزيرة … غزارة النهر بليلة نيسانية دافئة حتى بللت قميصه … أطفأ السائق أنوار الحافلة الداخلية و تابع سيره بهدوء …. بدت سلسلة ذكريات فواز بالنزوح نحو كيانه المنهك … تذكر حلب و أيام الدراسة و تذكر شقاوة أصدقائه أيام الدراسة الجامعية و المقالب … و السباق الماراثوني مع أصدقائه نحو إستمالة صبايا الجامعة , و المعاهد المجاورة .. فأبتسم بحزن …. تذكر غادة … و كيف كان يمر من أمام منزلهم عشرات المرات .. عسى يصدفها واقفة على باب البيت … تذكر كم مرة شاهدها تحمل خرطوم الماء ترش غبار الشارع .. و عندما تراه تنسل مذعورة خلف الباب كغزال نجــّدي إستشعر خطر صياد قادم , فيرقص قلبه الصغير سرورا و تكاد لا تتسع له أطراف الدنيا فرحا ً …. أنه زمان النظرة العاشقة الصادقة … زمان الحياء النادر , زمن العفة و الصدق و الرونق العذري … تاهت أفكاره … غالبه ذلك الشعور المقيت , الشعور بأنه جسد مجوف .. لا يحتوي في كنهه شيء كأنه جذع نخلة خاوي …. حاول طرد تلك السوداوية الحزينة من أفكار .. لم تسعفه ذكرياته ….. بل زادت عتمة … و تسلقت الحافلة تلال (( أبو قبيع )) , فحانت منه إلتافه نحو الرقة …….. شاهد أنوارها تتلألئ من بعيد كأنها حفنة در مكنون رمتها يد طفل شقي عابث … فتطايرت مشكلة لوحة فسيفسائية خلفيتها عتمة ليل صافٍ صفاء عيون غادة عندما تسرق الكحل من صندوق والدتها لتـــّكحل بها أهدابها السوداء أصلا ً … فتنعكس تلك اللألئ على خد الفرات الريان .. ذلك النهر الوديع الذي إحتضن أجساد شبابه و شيبه و ُجــّل اطفاله…
يا الله كم كبيرة أنت يا رقة القلب … يا الله كم أنت غالية حبيبة … بـ حــّرك و حرارتك , بهواءك و غبارك , بهدوء ليلك و ضجيج نهارك .. بشروق شمسك و غروبها على جبين فراتك …. طربا ً و غنجَ
يا الله … لقد تركت فيها روحي قبل أهلي و خــّـلي… يا الله إحفظ رقة روحي … حتى أعود بجسدي التالف الزائل إليها ….. يا الله لا تجعلها أخر مرة أرى فيها الرقة و نهرها ….. يا الله إنها الرقة و يكفيها من صفة
أدار سائق الحافلة مفتاح ألة التسجيل …… فإنساب صوت رخيم قادم من بعد :
ما مرتاح قلبي ….. الليلة أودعك
حبيبي لخاطري …. ما أشوف دمعك
أنا مسافر الليلة ….. لأن مابيدي حيلة
زمن و ضـــّيعني …. ما ريدا يضــّيعك
عـــيش بدنيتك ……. شلـــّلــك بالهموم
أنا تعودت علـى ….. الدمعات اليوم
حياتك صافية ….. ما تعرف غيوم
و أخاف من ناري … لا يحترق شمعك
أنا مسافر الليلة …. لأن مابيدي حيلة
زمن ضـــّيعني …. ما ريدا يضيـــّعك
نشــّــف دمعتك ……. لايهمك الراح
حتى اقدر أسافر ……. وأنا مرتاح
أخاف أحزاني مـا ……. تخـليلك أفراح
لا تقلي إنتظر ……. ما أريد أسمعك
أنا مسافر الليلة ……… لان مـابيدي حيلة
زمـن و ضـــــّيـعني …….. مـا أريده يضيعك
بكى فواز …..أخيرا ً بكى فواز بحرقة … و لم يبعد عن رقة الله , سوى مسافة باع و نصف ذراع…… بكى حتى تلاقت دقات قلبه بهمس شط الفرات , و بدأت تعزف لحن الحب و الوطن و العودة ………….. و غادة