صبحي حديديصفحات العالمقضية فلسطين

عباس وتقرير غولدستون: مَنْ يَهُنْ يسهل الهوان عليه

null
صبحي حديدي
أحد ‘أشباه الرجال’ ـ تعبير بشار الأسد في وصف بعض الزعامات العربية (وبينهم ضمناً، وليس تصريحاً بالطبع، ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس المصري حسني مبارك، والرئيس الفلسطيني محمود عباس)، بسبب موقفهم من ‘حزب الله’ والعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006 ـ استُقبل مؤخراً بالطبول والزمور في العاصمة السورية، وتقلّد وسام أميّة ذا الوشاح الأكبر، أرفع الأوسمة في البلاد. أحدهم الآخر لقي معاملة على النقيض التامّ، بدت أشبه بالإهانة المعلنة، فتأجلت زيارته الرسمية المقرّرة، أو بالأحرى أُلغيت حتى إشعار آخر مجهول.
صحيح، لا ريب، أنّ البون شاسع واسع في حسابات النظام السوري بين مكانة خادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي، وموقع خادم ‘خيار السلام’، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية؛ وبالتالي فإنّ ما يستحقه الأوّل من حفاوة، إنما يجيز إلحاق المهانة بالثاني، سيّما بعد فضيحة تأجيل التصويت على تقرير القاضي ريشادر غولدستون، حول جرائم الحرب في العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزّة. بيد أنّ المفارقة، المضحكة ـ المبكية، تظلّ متمثلة في حقيقة أنّ أحد أبرز بنود قمّة الأسد ـ عبد الله ينبغي أن تتناول إعادة تأهيل عباس لدى ما يُسمّى ‘محور الممانعة’، وكذلك إعادة تطبيع النظام السوري مع ما يُسمّى ‘محور الإعتدال’.
من السابق لأوانه، مع ذلك، الحكم على ما ستنتهي إليه المداولات السورية ـ السعودية في هذا الملفّ على وجه الخصوص، ومن الخير أن ينتظر المرء الثمار الفعلية لأيّ اتفاقات ملموسة حول المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية المرتقبة على سبيل المثال، فضلاً عن الملفات الأخرى العربية والإقليمية التي تريد السعودية من النظام السوري أن يلعب فيها دوراً من نوع ما. ومن الواضح أنّ فضيحة السلطة الفلسطينية في تأجيل مناقشة تقرير غولدستون انقلبت، وسوف تنقلب أكثر كما للمرء أن يتوقع، إلى ورقة رابحة لكلّ مَن احترف اللعب على أكثر من محور، وأكثر من خطاب، في السياسة كما في العقائد، وفي تبجيل المقاومة أينما كانت، ما خلا في الجولان، حيث تصير جريمة لا تُغتفر.
وبالفعل… إذا كان أمثال ياسر عبد ربه ونبيل عمرو، من أهل الواقعية الإنتهازية والبراغماتية المبتذلة، رجالات الصفّ الأوّل على ميمنة وميسرة الرئيس الفلسطيني، قد تنطحوا لتخطئة السلطة الوطنية الفلسطينية في فضيحة تقرير غولدستون؛ فكيف للمرء أن يلوم صحيفة ‘الوطن’ السورية، المقرّبة من الحلقة الأضيق في دائرة قرار النظام السوري، حين تعلن حرب شتائم شعواء على عباس؟ الإعلام السوري الرسمي تذرّع، في تبرير تأجيل زيارة عباس إلى دمشق، بالتفرّغ لزيارة العاهل السعودي،’المفاجئة’ كما قيل، رغم أنّ إعلام النظام أخذ يوحي بها منذ زيارة الأسد إلى جدّة مؤخراً، لافتتاح جامعة الملك عبد الله. ‘الوطن’، من جانبها، لم تكن مضطرة إلى اعتماد هذه اللباقة الدبلوماسية، فإعلنت بصراحة أنّ النظام ألغى الزيارة احتجاجاً على موقف السلطة الوطنية من مناقشة تقرير غولدستون!
مناخات تعيد الذاكرة تسع سنوات إلى الوراء، حين هرول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى دمشق للتعزية بوفاة حافظ الأسد، رغم كلّ الجفاء والبغضاء بين الرجلين، فأنكر عليه النظام السوري ـ أفراد الحرس القديم، إسوة بفتية الحرس الجديد ـ أبسط تقاليد الضيافة العربية، فاستُقبل جميع رؤساء الدول (بمَنْ فيهم وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك مادلين أولبرايت، والقسّ جيسي جاكسون!) على انفراد، وتُرك عرفات ساعة كاملة في القاعة الرئيسية المفتوحة مع المعزّين ذوي الرتبة الأدنى، ولم يشفع له أنه جاء على طائرة حسني مبارك. بعد أربع سنوات، وبسبب تبدّل المعادلات والأحلاف والجبهات، ورحيل عرفات نفسه، استُقبل محمود عباس في دمشق بابتسامة عريضة، قابلها الرجل بابتسامة أعرض.
وسوى الرضا الأمريكي، وربما الإسرائيلي (ضمن أغراض عديدة، لعلّ في طليعتها الحرص على تحجيم العلاقات بين ‘حماس’ و’حزب الله’، عن طريق دمشق)، ما الذي يريده أبو مازن من النظام السوري بالذات؟ الأنظمة العربية، وخصوصاً في أطوار انحطاطها الراهنة، لم تعوّدنا على تنسيق ثنائي أو ثلاثي أو جماعي يهدف إلى صالح الشعوب من جهة أولى؛ والنظام السوري تحديداً لم يعوّد منظمة التحرير الفلسطينية على دعم استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، أو دعم الموقف التفاوضي الفلسطيني، أو حتى تجاوز مؤسسات وهيئات السلطة الفلسطينية ومساندة الشعب الفلسطيني مباشرة، من جهة ثانية.
وهل تبدّلت ستراتيجية السلام التي يعتمدها النظام السوري في حواره ـ المباشر أو غير المباشر، السرّي أو العلني ـ مع الدولة العبرية والإدارة الأمريكية، في ما يخصّ التنسيق بين المسارات في أقلّ تقدير؟ ألا تنهض أحجار الأساس في تلك الستراتيجية على توظيف الأوراق الخارجية، أينما وكيفما جرى اقتناصها وتجميعها في قبضة النظام الحاكم، لصالح موقفه التفاوضي؟ ألا يواصل النظام وضع المصلحة الوطنية اللبنانية (أي ‘المسار اللبناني’ في العبارة الأكثر حذلقة!) في خندق الدفاع الأوّل عن مصلحة النظام السوري (أي ‘المسار’ السوري في عبارة الحذلقة المتممة)، وفي الخندق الثاني يأتي ‘المسار’ الفلسطيني؟
أو، بالأحرى، كان ينبغي أن يأتي ذلك المسار في الصفّ الثاني لو انحنى عرفات أمام الأسد الأب، ونطق بالـ ‘نعم’ المطلوبة. ليس قبل، أو أثناء، أو بعد مؤتمر مدريد، فحسب، كما يظنّ البعض. وليس سنة 1994، حين قصد عرفات دمشق معزّياً بوفاة نجل الرئيس السوري البكر، باسل الأسد. وليس أثناء زيارة عرفات الفريدة إلى بلدة القرداحة (مسقط رأس الأسد) أواخر تموز (يوليو) 1996، حين حمل في جعبته مقترحات إسرائيلية لاستئناف التفاوض، كما تعمّد أن يضمّ الوفد الفلسطيني الوجوه التي يمكن أن ترضي دمشق (فاروق القدومي، حنان عشراوي، وزهدي النشاشيبي). بل هي الـ ‘نعم’ التي توجّب على عرفات أن ينطق بها، قبل كلّ هذه التواريخ والمناسبات، منذ… 45 سنة!
والتاريخ يسجّل أنه، في سنة 1964، قامت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية باعتقال ياسر عرفات، بتهمة ‘التحضير لأعمال تخريبية’، وذلك بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. وقد أطلق سراحه بعد ساعات، لكنّ الحادثة بدت غريبة لأنّ عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، وسبق له أن حصل على موافقة رسمية بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب فتح في سورية. وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي نقل ذلك إلى عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين كانت قد بدأت مطلع ربيع ذلك العام.
والحال أنّ أمر الإعتقال المباشر كان قد صدر عن رئيس شعبة فلسطين، التابعة للمخابرات العسكرية، غير أنّ الآمر الحقيقي كان الرجل القويّ في الجيش، صاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء حافظ سليمان الأسد. كان اللواء سويداني يمثّل طموح حزب البعث الحاكم في احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ ‘فتح’ بحرّية التدريب على الأراضي السورية. في المقابل، كان الأسد يمثّل طموحاته الشخصية في السيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنه صاحب القرار الأقوى، وأنه هو المرجعية العليا التي يتوجب على ‘فتح’ أن تعود إليها.
وتلك الحادثة سوف تسجّل بدء تاريخ طويل من العداء بين عرفات وخصمه العربيّ الأكثر شراسة، حافظ الأسد. الأخير ظلّ مصرّاً على تحويل جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، و’فتح’ بصفة خاصة، إلى ورقة في جيبه ولصالح خططه التكتيكية والستراتيجية على حدّ سواء. والأوّل ظلّ مصرّاً على ضرورة بقاء البندقية الفلسطينية، والقرار الفلسطيني تالياً، في حال من الاستقلال التامّ عن مختلف الأنظمة العربية، وعن صراعاتها الداخلية أو الإقليمية. والإنصاف يقتضي القول، أيضاً، إنّ التناحر بلغ مستوى شخصياً وذاتياً حادّاً، أورثه الأسد الأب إلى ابنه، ضمن ما أورث.
محمود عباس، أياً كانت مظانّ المرء ضدّ نهج الرئيس الفلسطيني الراحل، ليس من طينة عرفات في حصيلته المعقدة، بل هي طينة القيادي الفتحاوي الذي تصادف أنه ورث الإنتفاضة الأولى من الراحل خليل الوزير (أبو جهاد)، فحوّلها من حركة مقاومة إلى جهاز بيروقراطي؛ وطينة القيادي ذاته، وقد أكسبته ‘الواقعية’ و’الذرائعية’ حظوة خاصة لدى واشنطن وتل أبيب، فصار رئيس الوزراء الذي دخل مع عرفات في معركة مفتوحة شاملة: من اشتراطات ريشارد أرميتاج، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، حول ضرورة أن يكون الإشراف على المؤسسات الأمنية الفلسطينية منحصراً في يد عباس وحده؛ إلى الموقف الرسمي الفلسطيني ممّا تبقى من ‘عملية السلام’، والعلاقة مع الولايات المتحدة والمحيط العربي والإقليمي والدولي، والشرعية الوطنية ذاتها…
الرجل، في عبارة أخرى، من طينة مَنْ يَهُنْ، فيسهل الهوان عليه… وليس هذا بأمر ضئيل عابر هيّن، غنيّ عن القول! لا نخوّن أحداً، بالطبع، ليس لأنّ التخوين أمر جلل فحسب، بل جوهرياً لأنّ مفهوم ‘الخيانة’ ذاته قد تبدّلت مستوياته الإصطلاحية والدلالية، وباتت بنود توصيف أو تصنيف ‘الخائن’ أشبه بالمتاهة التي لا تقود إلى منفذ. الأمر، من وجهة نظر وقائعية صرفة، ينطوي على لائحة ليست بالقصيرة، من مواقف الخنوع أو الإنحناء أو التراجع أو إساءة التقدير وسوء اتخاذ القرار، وبالتالي لم تكن مسؤولية عباس عن تأجيل مناقشة تقرير غولدستون سوى الواقعة الأحدث عهداً، ضمن منهج عتيق متواصل، ومتأصل.
كيف للمرء أن ينسى تفاؤله الأسطوري، الذي ظلّ يُحسد عليه حقاً في كلّ دائرة دبلوماسية على وجه الأرض، من أنّ عملية السلام مع الإسرائيليين سوف تبلغ نهايتها السعيدة، بما في ذلك حلّ القضايا العالقة مثل القدس والمستوطنات واللاجئين، أو حتى ولادة الدولة الفلسطينية، قبيل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش؟ وكيف يُنسى توصيفه للسفن الأجنبية الساعية إلى كسر الحصار على غزّة، والتي كان يتواجد على متنها عدد من خيرة أصدقاء القضية الفلسطينية في العالم، بأنها ‘لعبة سخيفة’؟
و’قبلة الموت’ كانت التسمية التي شاء يوري أفنيري ـ الكاتب الإسرائيلي المعروف، أحد أنزه يهود العالم القلائل الذين يدعمون الحقّ الفلسطيني بلا هوادة، وأوّل إسرائيلي يلتقي علانية مع عرفات ـ اختيارها لتوصيف ما طبعه رئيس وزراء الدولة العبرية السابق إيهود أولمرت على خدّي عباس، أثناء استقبال الأخير في الدارة الرسمية لرئيس الحكومة الإسرائيلية، مطلع العام 2007. أكثر من هذا، أضاف أفنيري: ‘منذ أن بادر يهوذا الإسخريوطي إلى عناق يسوع المسيح، لم تشهد أورشليم القدس مثل هذه القبلة’!
ومع ذلك، ورغم أنّ ولايته الدستورية انتهت منذ مطلع العام، فإنّ محمود عباس هو الرئيس الفلسطيني المنتخَب ديمقراطياً، على نقيض غالبية مَنْ يقبل عليه أو يعرض عنه من الزعماء العرب؛ ولهذا فإنّ هوانه ليس نازلة تخصّه وحده، كما ينبغي له أن يتذكّر، بل هي إهانة للشعب الفلسطيني معه، وبسببه!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى